فُضُولياتُ طَالبِ العِلم...!
مُلح العلم ونوادره: وهي وإن كانت لطيفة محبّبة مسلية، غير أنها قد تشغل عن الجوهر والأصول والأساسيات، فينقطع بعض التلاميذ لجمعها وتحفظها، ويوغلون في ذلك إيغالا شديدا، ينسيهم المهمات والأصول المتينة
• هي المسائل التي تقل الحاجة إليها ، ويستغرق بها وقته وعمره، وتقل فائدتها، وقد تنعدم أحيانا، فتأسى على ذكاء تبدد، أو عبقرية تقلصت، أو جهد تبعثر...! ومشتّت العزماتِ ينفقُ عمرهُ /حَيْرَانَ لا ظَفَرٌ وَلا إِخْفَاقُ ...أملٌ يلوحُ اليأسُ في أثنائهِ / وَغِنَى يَشِفُّ وَرَاءَهُ الإمْلاقُ ...!
• وتلحظ فيه التشوش المنهجي، وانعدام الشيخة النصَحة....!
• واللهِ ما تدري له كم همةٍ/ لكنها فاضت إلى سردابِ... يتكلفُ الأعباء إلا أنها/ تاهت وراء ملاغزٍ وسرابِ...!
• ومن ذلك :
• أولاً: علوم الآلة والعكوف عليها دهرا، وعلى متونها وتفاصيلها، كعلوم اللغة والأصول والمصطلح.... وكان بالإمكان الاكتفاء بمتن أو متنين ومختصرات مجلية، والسلام . قال العلامة ابن خلدون رحمه الله(٨٠٨هـ) :( أما العلوم التي هي آلة لغيرها مثل العربية والمنطق وأمثالهما ، فلا ينبغي أن ينظر فيها إلا من حيث هي آلة لذلك الغير فقط، ولا يوسع فيها الكلام ولا تفرع المسائل؛ لأن ذلك مخرج لها عن المقصود؛ إذ المقصود منها ما هي آلة له لا غير، فكلما خرجت عن ذلك خرجت عن المقصود، وصار الاشتغال بها لغوًا، مع ما فيه من صعوبة الحصول على ملكتها بطولها وكثرة فروعها، وربما يكون ذلك عائقًا عن تحصيل العلوم المقصودة بالذات...).
• ثانيا: مُلح العلم ونوادره: وهي وإن كانت لطيفة محبّبة مسلية، غير أنها قد تشغل عن الجوهر والأصول والأساسيات، فينقطع بعض التلاميذ لجمعها وتحفظها، ويوغلون في ذلك إيغالا شديدا، ينسيهم المهمات والأصول المتينة، وتجدهم يتباهون بها في المجالس ،-قصصا وأشعارا، وتاريخا، وألغازا، ومناظرات- من نحو قول الحافظ الزهري( ١٢٤هـ) رحمه الله وأشباهه:( هاتوا من أشعاركم، هاتوا من أحاديثكم؛ فإن الأذن مجاجةٌ، والنفس حمضة )..! فإذا حضرت المسائل الجادة، وركائز ذلك العلم، خفَتت الأصوات، وقلّت المشاركات ..! وهذا ليس بحسن، ومن قلة الفقه والخبرة المنهجية . والتي تُدرك بالسؤال والانتفاع برسوخ الراسخين والمجربين من الأعلام...!
• ثالثا : الرحلات الإجمامية الهشة: التي تخلو من الاستذكار والتقييد، والقراءة والتحصيل ، وغاية همها لقاء الشيوخ والتكثر بزياراتهم ومحبتهم لا أكثر ولا أقل...! وقد قال الحافظ العراقي(٨٠٦)هـ رحمه الله في ألفية الحديث في أدب الطالب :
.... واكتبِ ...
ما تستفيد عالياً ونازلا... لا كثرةَ الشيوخ صيتاً عاطلا ..! ولذلك التقى بعضهم قديما وحديثا، علماء أجلة كالمعلمي -في عصرنا- وشاكر وابن باز والألباني وابن عثيمين والطنطاوي رحمهم الله، وحكى عنهم حكاية المتلذذ المتشبع، لا المنتفع المستنير ...!
• رابعا : الشراء الطافح: من الكتب، وبلا ترتيب وتنظيم، بحيث تجد المكرر والمطوّل المهجور، والواسع المعطّل، والمجلدات الملقاة ، والتي علَاها الغبار، ولاكها العَجاج، ومع طول الهجران، ينكر وجودها عنده، فيعمد لشرائها من جديد والله المستعان . وقد يحتج بجمع العلامة ابن القيم(٧٥١)هـ وأبي طاهر السِّلَفي(٥٧٦)هـ، وابن حزم(٤٥٦)هـ والصاحب بن عباد(٣٨٥)هـ والجاحظ(٢٥٥)هـ وأشباههم من العلماء المستكثرين من الكتب...! ولَم يعقل أن هؤلاء لمّا جمعوا قرأوا، وجدوا وحفظوا، وقلّ فيهم النسيان، وجافاهم الاضطراب...! ولسنا نحن ضد الجمع، ولكننا نحذر من جمع مهجور، وشراء غير منظور، وادخار دون إمعان وشعور ...! وكما قيل: إذا لم تكن حافظا واعيا.... فجمعُك للكتبِ لا ينفعُ...!
• خامسا: التعمق في بحوث ومسائل : قد انكشف أمرها، وبانت تفصيلاتها، أو كتبت فيها الكتابات الجادة قديماً وحديثا، ما لم يبين مقصده . ومن المؤسف تورط بعض الأقسام العلمية في الجامعات الشرعية في أبحاث طرقها الأوائل ، وخاضها الأقدمون، ولَم يأت من بعدهم بمثل جهدهم ودأبهم ...،! إلا أن تضاف قضايا جديدة، تشبع النهم المعرفي .
• سادسا : التأليف في القضايا المشهورة المستفيضة عند الناس، والظاهرة بلا حُجب، وتركه القضايا الأولية، والحافزة ، فيبدد الجهد، ويشغل الهمة، ويُريق شهْدَ القلم في غير مظانه، وربما كان قلمُه الدفاق، وهمسه البارع، وضوؤه الناصع، وللأسف لم يفقه المسار ، وخانه حذق التأليف المستقيم ...! أو قد يكتب في مهجورات ومستبعَدات تعز الحاجة إليها، ويشغل نفسه بها، ويضيع وقته فيما لا يصلح، وغيره أولى منه...!
• سابعا : الأسئلة العبَثية و التي لا قيمة لها، ولا عائدة علمية من ورائها، فتصنف على أنها من قشور العلم، أو ثقيله العسِر، وطويله الهش..! وإن كان يُندب السؤال الأولي في بدايات الطلب، الممتلئ بالحاجة والبراءة، وليس السؤال العبثي المنتفخ، والمنتهي إلى غثاء علمي، ومعرفة متضخمة بلا ثمار ومُخرجات..،! قيل لابن عباس رضي الله عنه: كيف نلت هذا العلم.؟! فقال:( بلسان سؤول وقلب عقول ). وهو مقيد بالحاجة والمصداقية وحب العلم.
• ثامناً: التدريس المفرغ : من مضمونه السليم: كشرح كتب لا حاجة إليها، أو متون غير مطلوبة، أو مختصرات عسيرة، أو كتب مذهبية بعيدة عن إقليمه ...! وسِيما هؤلاء غالبا الإغراب، أو قلة الحكمة وعدم السؤال وفقه الواقع الاجتماعي ...! فليس حسنا مثلا أن تشرح متنا في فقه المالكية، وبلدك حنبلي في أصوله وتوجهاته، ولا يوجد طلاب له، باحثون ومُلحون....!! والفقيه اللبيب هو الذي يشرح المشهورات ، والمطلوبات للناس، وما تعم به البلوى عقائد، أو سننا، أو فقها، أو تاريخا وسيرا...! السبيل....!
• تاسعاً: الإغراق في المطولات: وهي على صنفين: آلات ووسائل: كالقواميس والتواريخ والآداب والأشعار، وهذه يغني عنها غيرها، ولها وقتها المحدد، وظرفها المناسب، وصنف: مطولات علمية في الفقه والحديث والعقائد والتفسير ، ولا يُستحسن البدء بها قبل متونها الأصلية والتأصيلية، لئلا يدب فيه الملل، ويستطيل الطريق، ثم يلج إليها بعد ذلك إذا سنحت الهمة والوقت، والآلة والفكر، فالعلم مراتب ودرجات، وليس موائد ملتهمات... والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل...!
حمزة بن فايع الفتحي
رئيس قسم الشريعة بجامعة الملك خالد فرع تهامة، وخطيب جامع الفهد بمحايل عسير
- التصنيف: