أنا مشروع، وفلان مطبوع (1-2)
قد طال عيشي في الكتاب وإنه... لذاذةُ عمر زانها الطيب والفخر ُ حفظتُ مراميه وعاينتُ قعرَه... فلله هذا السفر ما بزغ الفجر ُ
• تأملتُ الأعلام الذين خلّفوا كنوزا مبهرة، كانت كمشاريع عمرية، انقطعوا لها، وكيف انتفع بها الناس إلى هذه الأيام، كالأئمة الأربعة، والبُخَارِي(٢٥٦)هـ ومسلم(٢٦١) والنووي(٦٧٦)هـ وابن قدامة(٦٢٠)، وابن الجوزي (٥٩٧) وابن تيمية(٧٢٨) وابن حجر(٨٥٢)، والقَرافي(٦٨٤) هـ ، وابن القيم(٧٥١)هـ وابن كثير(٧٧٤) والسيوطي(٩١١) وأمثالهم رحمهم الله ..!! فهل فكّر طلاب العلم، وعشاق المعرفة في ادخار أعمارهم (للمشاريع العلمية) المنتجة، بدلا من التذبذب والشتات العلمي والدعوي، والترقيع الثقافي الدائر بين العلم والآخر، والفكرة وأختها، والمنحى وشبيهه ، والتخصص وقسيمه، بحيث يَعمرون سنيّ حياتهم ، ويستثمرون هممهم، فلا يذهب العمر سُدى، أو تتفرق الهمة شذَر مذَر...! وإنك إن قلبتَ طرفَك لم تَر... سوى البحر منشورا بغير نظيمِ ...! وهذا ضربٌ من (الفقه المنهحي) في التعامل مع العلم وقضاياه وأسفاره ومدارسه ، لأن العلمَ وسيع، والعمر قصير، والحياة صارفة، والناس متلهفة..! والحكمة الفقهية تقتضي وعي ذاك، وإدراك متطلباته ، وإلا ذهبت أوقات، وفُقدت أولويات، وبتنا بين ويلات ومنغّصات..! كما قال بعضهم عن المشتَّت علميا: وكنت إذا ما الفقهُ لاح بناظري/ وهيّجني التحديثُ والفكر والفسْرُ ...قطفتُ من الأزهار خمسين زهرةً/ فخَاننيَ التركيز والفهم والزهرُ ..!
• وللمنهجية الواضحة، والمشروع العمري الثابت ، تأملْ انقطاع (أبي هريرة الحديثي)(٥٩)هـ، كيف جعل منه معلَما للناس، وعلَماً يقصده الأصحاب من كل مكان. ودقّق في سلوك (خالد الجهادي)(٢١)هـ ، يبين لك كيف أنه جعله رسالته وغايته في الحياة، حتى أعزّ الله به أمةً، ورفع به راية...!
• ونعني "بالمشروع" : نشاط علمي أو عملي محدد مستغرق ، يقام لتحقيق إنتاجية معينة، أو تأثير عميق، أو خلاصة بحثية...! "والمطبوع" الشخصية الميالة إلى اتجاه علمي أو نفعي مثمر، أو يطبعها أشياخها على ذلك، حتى تبلغ الغاية، وتنتج ما فيه الدراية والعناية. والمدارس والحلق العلمية تكشف وتصنع مواهب أولئك وميولاتهم، وقد دعا صلى الله عليه وسلم لابن عباس بالحكمة والفقه، وقال لابن مسعود( إنك غليّم معلم ) وكان لهما أحسن الأثر في الأمة .
• ومن طرائق الطلب العلمي الجميلة، والنفع الدعوي المثمر، -بعد ضبط المُهمات والمتون الأولية، والثقافة المبدئية، ولكي يتم النضج العلمي، والتأصيل البنيوي للطالب، - الاضطلاع بمشروع عُمري، وجهد عصري تنقطع له، وتحيا من أجله، وترصده رصد العارفين به، والمتعلقين بجذوره، فتُعده إعدادا مبرما، وتُحكِمه إحكاما متقنا، دون ملَل أو كلل، على حد قول القائل : لأستسهلنَّ الصّعبَ أو أُدركَ المُنى ... فما انقادتِ الآمالُ إلّا لصابرِ ..! فاصبر على أنات المتاعب، لتطعم مزاهر السعادة، وجدَّ بلا تكاسل، لتذوق حلاوة الثمار، وتجلّد بلا تعلل وتأخر، لتصعد المعالي، وتنال الغوالي...( أولئك يُجزَون الغُرفة بِمَا صبروا ) سورة الفرقان . فلَم يكن هينا على الأئمة الأعلام ابتداء، وهم يقاسون المتاعب في الطلب والجمع والتأسيس، أن يتراجعوا عن برامجهم ، وهم يعلمون عظم أثرها، ولذلك مكث الإمام البخاري رحمه الله -على سبيل المثال- ست عشرة سنة(١٦) يحرّر ويراجع في كتابه، ويستيقظ في الليلة الواحدة قرابة (٢٠) مرة، مستحمِلا ذلك حتى بلغ غايته، وحقّق مُنيته ... ومن ذلك :
• أولا: التزامُ كتاب محدد: والمكوث على نسخة شهيرة، ومصنَّف فذ، محشو بالفوائد والنوادر ويعتبر أصلا علمياً، يكرر ديمةً، بحيث يصبح الأخَ الصالح، والرفيقَ اللصيق، والصديق الأنيق ، والزميل النبيل، والسمير المنير، والحبيب اللذيذ، والعشيق الرقيق... من لا يُمل حديثه، ولا تُستوحش صحبته، ولا تكدر زمالته...! وقد كان نهجاً للأئمة الأقادم، منهم المزني( ٢٦٤)هـ تلميذ الشافعي (١٥٠)هـ رحمهما الله، قال : "قرأت كتاب " الرسالة " للشافعي خمسمائة مرة(٥٠٠) ، ما من مرة منها إلا واستفدت فائدة جديدة، لم أستفدها في الأخرى" ووالد المفسر أبو بكر بن عطية رحمه الله، " ذكر أنه كرر " صحيح البخاري " سبع مئة(٧٠٠) مرة. وكان أديباً ، شاعراً ، لغوياً، ديناً فاضلاً، أكثر الناس عنه، وكف بصره في آخر عمره ". ومنهم محمد بن عبد الله أبو بكر الأبهَري الفقيه "قرأ مختصر ابن عبد الحكم خمسمائة مرة(٥٠٠). والأسدية خمساً وسبعين(٧٥) مرة. والموطأ خمساً وأربعين(٤٥) مرة. ومختصر البرني سبعين مرة(٧٠).." وغيرهم كثير، وثمة مقالات تشرح ذلك وتثريه .
• وفِي ذلك ترسيخ وتثبيت، وتصبير، وتدريب، وحفظ وصيانة، والتزام واستقامة، وعيش رغيد، وفاكهة كثيرة، لا مقطوعة ولا ممنوعة...!
• ومن أحسنِها علما، وأغزرها فهما، وأجلها فائدة، وأحسنها عاقبة:
• "المغني"، الكتاب الموسوعي لابن قدامة المقدسي، الفقيه الفذ ، وشيخ الحنابلة، يعرّفك الفقه ومذاهبه، والأقوال وأدلتها، والاستنباط وآلاته، والترجيح وأدواته .
• و"فتح الباري" للحافظ المجدد ابن حجر العسقلاني(٨٥٢)هـ، فيه جُل الجواهر والكنوز ، وحوى الدرر فقها وفهما، وتأصيلاً وتحريرا، وأخبارا وآثاراً ،وتحقيقاً وتدقيقا، ولما قيل للشوكاني(١٢٥٠) رحمه الله : اشرح صحيحَ البخاري قال: "لا هجرة بعد الفتح..!" فقدِ التهمَ الشروح السابقة، وزاد عليها واستدرك، ونبه وأفاد، وأربى وأغدق، فكل واشرب وتصدق ....
• "الصحيحان" المذهّبان للشيخين الجليلين البخاري ومسلم رحمهما الله، هما منارتا الإسلام، بعد القرآن، صحّا علماً، وطابا فقها، وزانا حُسنا وفائدة، فيهما الأصول، ومنتهى المأمول ، ومنية المحصول ، ما ضبطَهما أحد إلا عزّ، ولا سامَرهما إنسان إلا بزّ، قد تجلا تياجين، وطابا رياحين، وضاعا أفانين ..!
• "زاد المعاد" للحافظ ابن القيم رحمه الله، قيّم العلوم، وسيد الفهوم، وصاحب الدرر والنجوم، ما كتب في قضية الا أشبعها، ولا مسألة إلا حررها، ولا نادرة إلا مهَرها، ارتبطت به معاني العلامة المحقق، والفقيه المدقق، والشارح المتقن ، فيا لله كم ترك من تراث، وكم خلف من أثاث، وكم أشبع من طلاب وغياث...!
وفِي الزاد زادٌ للفقيه ومتعةٌ/ وفيه يواقيت ودرٌ وجوهرُ
وإن عجبٌ فاعجبْ من الزاد كلهِ/ فما زال فينا بالنفائس يزخر ُ
• تخيل لو أن طالب العلم عكف دهره ، وبقي عصره على بعض هذه الأسفار، يعيدها ويكررها، ويؤمها في كل لحظة وساعة، كيف سيبلغ منه الإتقان مبلغه، أوينتهي به الوعي منتهاه، ويأتيه الرسوخ بلا متاعب وأكدار ...!
وقد طال عيشي في الكتاب وإنه... لذاذةُ عمر زانها الطيب والفخر ُ
حفظتُ مراميه وعاينتُ قعرَه... فلله هذا السفر ما بزغ الفجر ُ
• ثانيا : العكوف التأليفي: على متن شهير، أو كتاب نمير، أو فكر مبتكر، فيُقرب تقريبا، وييسر تيسيرا، بحيث يَبيتُ مرجعا، تنهل منه الناس، وتتربى عليه الأجيال ، كالمتون المشهورة، وبحاجة إلى شرح مبسط، أو تعليق مبين، نحو: الصحيحين- الأربعين النووية- العقيدة الطحاوية- كتاب التوحيد -
• تقريب المطولات : تُهذب تهذيبا، وتختصر اختصارا، يخرجها من إطار الطول والصعوبة نحو: فتح الباري- المغني- التمهيد- المبسوط- البداية والنهاية - وأشباهها من الكتب الموفورة جهدا وغناءً وإفادة . ويراعي في الاختصار الدقة والتخفيف، والمحافظة على الأصل، وعدم حذف الجواهر والمعمقات، التي حذفها يضر بالمختصر، ويُسيئ للأصل .
• أو الاشتغال على (فكرة ابتكارية) جديدة تنضاف للمكتبة الإسلامية العامرة، عبر منهجية (البحث العلمي)، القائمة على التجديد والموضوعية والاستدلال، نحو ما صنع الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه و(١٦) سنة في جمعه وتحريره كما تقدم، والإمام مسلم رحمه الله، و(١٥) سنة في مراجعته وترتيبه، ومالك و(٤٠) سنة في الموطأ، وتدقيقه، والإمام الشافعي في الرسالة، وأضرابهم من الأعلام الذين صنفوا مصنفات لا تزال ينابيعها فياضة، وأنسامها فواحة ، وأيضا كشرح النووي على مسلم، وفتح الباري للحافظ، ظل فيه قرابة(ربع قرن) حتى أنضجه إنصاجاً، فاخضوضرت فيه الأفانين الفاتنة، والزنابيق المستعذَبة، والرياحين النفاثة ، وجاء بكل مدهشٍ ولذيذ وعجيب، ولله الحمد والمنة .... فتحتَ بالفتح كلَّ البيد والحُصُنِ/ فانقادت القومُ للإبداع والحسنِ../ رأوا الجمال وضوءَ البدر قد سطعا... بالزخرفاتِ وماءِ الورد والفَننِ
• وليُنتبه أنه ليس كل مؤلف أو كاتب يحسن الاختصار وتقريب المطولات ، فإنه فنّ دقيق، ولو تُصور سهولته ابتداءً ...!!
• أو الالتزام التحقيقي العلمي: من نحو صناعة بعض المشايخ المعاصرين كالشيخ محمد محي الدين(١٣٩٢)هـ وشوقي ضيف( ٢٠٠٥)م ، وأحمد شاكر(١٣٧٧)هـ، ومحمود(١٤١٨)هـ رحمهم الله، ولا يمكن تناسي مشروع المحدث الألباني(١٤٢٠)هـ رحمه الله في (تقريب السنة لعموم الأمة) عبر مصنفاته العجيبة، وتحقيقاته النادرة، وكيف قيّضه الله، وادخر عمره لهذا الجهد العظيم، في زمان اتسعت فيه الخرافة، ونجمت البدعة، وانتشرت الأباطيل، وكان لتجديده الحديثي مشاعل أيقظت الناس وحفزت التلاميذ إلى الاعتناء بالسنن وحفظها وصيانتها .
• ثالثاً: التعليم القرآني: لحملته العاملين، وأربابه المتقنين المهرة، يحتسبون فيه ساعات، ويدومون به لحظات وأوقات كما صنع الأئمة قبلهم كأبي عبد الرحمن السلمي(٧٤)هـ رحمه الله: حيث مكث في جامع الكوفة الأعظم نحو أربعين(٤٠) سنة، فلما سئل عن هذا المقعد الطويل، والمنزل العتيق قال: حديث : ( خيرُكم من تعلم القرآن وعلمه )...!! هو الذي أقعدني ذاك المقعد..! ومن فوائد ذلك: نشر القرآن وتمكينه من القلوب، وحفظ الناشئة من الضياع والانحراف، تقوية اللغة العربية والعناية بها، تخريج حفاظ القرآن والعون على مراجعته ، وتثبيت النفوس على الحق في أزمنة التفلت والاضطراب .
• رابعاً: تدريس أمهات العلوم ومتونها المشتهرة: في العقيدة والتفسير والحديث والفقه واللغة وشبهها ، لا سيما لمن أوتي علما، وحاز أسلوباً، ورُزق بيانا مؤثرا.. نحو: العقيدة الطحاوية والواسطية، وكتاب التوحيد- ومختصرات ابن كثير- والصحيحين ومختاراتهما-وعمدة الأحكام والبلوغ- والروض المربع ومنار السبيل وفقه السنة- والبيقونية والنخبة-
• وفي استدامة التدريس العلمي لها مدى الحياة فوائد منها :
• تأسيس قاعدة علمية من الجيل - وتربية سليمة على العلم ومحبته- ومحاربة للجهل والخرافة- والتصدي للجهال والمنحرفين والمنافقين والمبتدعة - وإحياء الإيمان والمنهجِ القويم في حياة المسلمين -ومراغمة الباطل ودحض جيوشه وخزعبلاته- تعميق التفقه والاستنباط منها . ولعل من النماذج الموفقة في هذا الباب شيخنا العلامة محمد بن صالح العثيمين(١٤٢١)هـ رحمه الله، فقد ادخر عمره للتدريس العلمي، والصناعة الفقهية، وأعرض عن الدنيا وحلوائها، والمناصب ومغرياتها، و الأموال ومشاغلها، وانقطع انقطاعا عجيبا، يدرّس ويعلم ويفقه، ويصنع ويربي ويؤسس، حتى تخرج عليه علماء وفضلاء ونبغاء..!
ولا زالت شهرته نيّرة من جراء ذلك (العلم المؤسس)، وتقوم جهته الخيرية على تفريغ تلك الدروس العلمية، وتطبعها وتوغل في حسن إخراجها، ولما رأينا مكتبته العلمية من خلال مؤسسته الخيرية في ( معارض الكتب )، عاينا فضل العلم المنتفَع به، والميراث المتروك، والجهد والمخلّف( أو علم ينتفع به ) وأن خيار الشيخَ العُمْري كان العلم وتبليغه، والعيش على إتمامه وتبسيطه ...! وظللتُ في هذي الحياة معلّماً... للذكر أبغيه ولستُ أزيدُ
عز لنا التعليم ننشرُ وردَه... ونضيئه لمثابرٍ ونُفيدُ
حمزة بن فايع الفتحي
رئيس قسم الشريعة بجامعة الملك خالد فرع تهامة، وخطيب جامع الفهد بمحايل عسير
- التصنيف: