أنا مشروع، وفلان مطبوع (2-2)
عاشرا: الفقه المؤسسي : القائم من خلال كيانات علمية مؤسسية منظمة، تخضع لخطط وبرامج مدروسة تقدم "العلوم الشرعية" المهمة ، ويشرف عليها قادة ومتخصصون موثوقون
• خامساً : البلاغ الدعوي الإيماني: الذي يُحيي القلوب، ويرقّق النفوس، ويذكرك بمواعظ ابن الجوزي(٥٩٧)، وإحيائيات الغزالي، وسلوكيات ابن القيم، ولطائف القشيري(٤٦٥)هـ رحمهم الله، الذين شعت المنائر في كتبهم من إطلالتها الأولى، وبان حسنها قبل فقهها، وسطع حلوها قبل درها ، ولا تزال الأمة تنتفع بذلك المسطور، وتطمع في كل مجدِّدٍ منظور، يطرح الترقيقَ الأبهج، والتأثير الأطرب، والتبصير الأطيب . ( ومَن أحسنُ قولاً ممن دعا إلى الله..) سورة فصلت . وجعلُ ذلك مشروعا يتجدد كل أسبوع، أو كل أسبوعين، مُزيّناً ، مطيّبا، محسّنا، قد تلفّف العلم، وزانه التأصيل، واستوفى التسهيل والتقريب، بلا تعقيد مسبق، أو تكلف متعمد، سيكون له حسن الأثر والعاقبة، والله لن يضيع أجر من أحسن عملا...!
• وثمة دعاة هداة، سدّدهم الله منطقا، وألانَهم أسلوباً وانتفاعا، فهولاء مشروعهم الدعوة والوعظ الإيماني والأخلاقي ..! لا يبرحوا ساحته، ولا يغادروا منتداه، ويسيرون فيه على خطى ثابتة، متزودين بالعلم، ومذاكرين على الدوام، ومحددين لثقافتهم، غير مبالين بمثبط ناقم، أو ملوث حاقن، ولينفضوا عنهم غبار كل ضال وضلالة، وهوان كل بليد وبلادة، فما أوتيت الدعوة إلا من جهال سُذج، أو منافقين خلّص، لا هم لهم الا إشباع البطون، واستحلاء الملذات، وخدمة أصحاب الشهوات، ليستطيلَ باطلُهم، ويشتعل هرجهم وشقاؤهم، والله المستعان .
• سادسا: الجهاد المسجدي: صلاةً وإمامةً وتربية، ودعوة وترتيبا..! إذ نسمع عن مشايخ أجلة مكثوا طويلا يؤمون الناس بأصوات حسنة، وحناجر رطبة، ولكنهم قصّروا من حيث القراءة اليومية والدرس المسجدي، الذي من خلاله يختمون كتباً، ويشقون أسفارا، وينفعون أجيالا، ويحيون مساجد كادت أن تموت، وجوامع ضيع جهدها، وذوبت مكانتها، ويستطيع المجدون فيهم صياغة (البرامج العلمية)، والاستضافات الدعوية، التي تجعل من أحيائهم لؤلوةً حسناء، ودرة غراء، تقصدها الجموع من كل حدب وصوب . ولا يكتفون بمجرد الإمامة وحسن الصوت، بل بجب أن يعتلي المسجد دوره، ونستحضر المنهاج النبوي في تجديده والنهوض به، بحيث يكون ينبوعا يُغيث العطشى على الدوام . وقد سبقت الإشارة إلى هذه المسألة في مقالات سابقة : - القيادة المسجدية والتربية المسجدية، وقيادة إمام المسجد، والمساجد ورياض الصالحين - وقررنا فيها القدرة الذاتية على ختم الكتب، وأن هنالك من ختم: رياض الصالحين نحو أربع مرات وبعض كتب السنة، وهناك من شرحه وعلق عليه، ومختصرات التفسير والفقه، وكتب تهذيبات السلوك كمختصرات ابن القيم وغيره...!
• سابعا: الخدمة الاجتماعية الخيرية: المعينة للناس، والقاضية للحوائج ، والمنفسة عن أيتام الطلبة، ونابغي الأحياء، فتسندهم، وتحفز هممهم، وتفتح لهم أبواب الفوز والنجاح، ولا يَطيب ذلك ويزين إلا عبر المؤسسات الخيرية والأهلية ، التي تأخذ على عاتقها نفع الآخرين، واحتساب الأجر، وقصد الثواب، وإعداد الأجيال، ولهم في رسول الله الكريم المفضال أصدق الأمثال ( كلا والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتَصلُ الرحم، وتَحمل الكَل، وتَقري الضيف، وتُكسب المعدوم، وتُعين على نوائب الحق ) . وفِي القرانِ :( وجعلني مباركاً أينما كنت ) قيل: نفاعا للناس، وقاضيا لحوائجهم .
ومع ما في ذلك من العطاء الاجتماعي الأخاذ، فهو نافذة لمعرفة المحتاجين، والأسر الفقيرة المُجدة، ودعم أبنائها الأفذاذ، وطلابها النوابغ، لأنهم أنفع للأمة من بعض أبناء الأغنياء، الذين خطفتهم المناعم، وغرتهم النفائس-في الجملة- وذهب بهم الترف كل مذهب ، قال تعالى :( ولا تَمُدَّن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرةَ الحياة الدنيا لنفتنَهم فيه )سورة طه. وقال سبحانه:( إنهم كانوا قبل ذلك مترفين ) سورة الواقعة .
ونستحضر هنا مقولة العلامة ابن حزم(٤٥٦)هـ للباجي(٤٧٤)هـ رحمهما الله، راداً عليه احتجاجه بالفقر على ضعف التحصيل قال :( بل أنا أحق بالعذر ،فإن أكثر مطالعتي كانت على منابر الذهب ) ! أراد أن الغنى أدعى إلى ترك التحصيل العلمي ....كما قال أبو نواس الشاعر : إن الشباب والفراغَ والجِده ... مفسدةٌ للمرء أي مفسدةْ..!
والمقصد أن هذا مشروع حياة عمري، لا يقل أهمية عن التدريس العلمي أو البلاغ الدعوي، بل قد لا تنهض تلك العطاءات العلمية إلا من خلال الوفرة المالية، والشحن الخيري، ومن هنا تعرف أهمية اتجار بعص العلماء كسفيان(١٦١)هـ وعبدالله ابن المبارك(١٦١)هـ، رحمهما الله، يقول ابن المبارك :( إني لأعرف مكان قوم لهم فضلٌ وصدق، طلبوا الحديث، فأحسنوا طلبه، والناس محتاجون إليهم، وهم بحاجة إلى أنفسهم وذراريهم، فإنْ تركناهم ضاع علمهم، وإن أعناهم بَثُّوا العِلم لأمَّة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا أعلم بعد النبوة، أفضلَ مِن بَثِّ العِلم ). وقال الثوري :( إنما اتجرتُ، لئلا يتمندل بنا هؤلاء ) أي يجعلوننا مماسح لهم كالمناديل .
• ثامناً: النفع الإفتائي : والذي قد يكون ثمرة من ثمار العكوف الكتابي الفقهي، لا سيما والحاجة ماسة، والنَاس في تساؤل دائم، ورغبة ملحة، ولخطورتها لا يقصدها إلا مهَرة الفقهاء، قال الإمام النووي رحمه الله : ( اعلم أن الإفتاءَ عظيمُ الخطر، كبيرُ الموقع، كثيرُ الفضل؛ لأن المفتيَ وارثُ الأنبياء صلواتُ الله وسلامه عليهم، وقائمٌ بفرض الكفاية، لكنه مُعَرَّضٌ للخطأ؛ ولهذا قالوا: المفتي مُوَقِّعٌ عن الله تعالى ). وثمة شرائط ووجبات للإفتاء عليه التمكن فيها، يجمعها التأصيل القرآني والأثري واللغوي والأصولي لنصوص الأحكام .
فمن علِم من نفسه الأهلية، فليتعلم على سلالم الفقه ، كالمتفقه الحنبلي الذي يتعلم على "الزاد" فيحفظه ، ثم يكرر "الروض"، محشياً، ويقرأه على الحذاق، ثم "الحاشية"، "فالإنصاف"، و"المغني" عنايةً وتكرارا، مع مشامّة كتب المذاهب الأخرى، حتى يعي الخلاف، ويطالع كتب محققيهم ويفقه القواعد والأصول، ويتحفظ أدلة الأحكام "كالعمدة" و"البلوغ"، فيبرز للناس محتسبا مخلصا، يحل إشكالاتهم الفقهية، وسؤالاتهم الشرعية ، ولا يكون ذاك إلا بالعلم المؤصل، والفقه المتقن ،ومطالعة كتب المفتين وطرائقهم، قال الإمام الشافعي رحمه الله(١٥٠): ( ليس لأحد أن يقول في شيء حلال ولا حرام، إلا من جهةِ العلم، وجهةُ العلم ما نُصَّ في الكتاب أو في السُّنة أو في الإجماع أو في القياس على هذه الأصول وما في معناها، قال تعالى: ( قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ ۖ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ) سورة يونس .
وممن تميز بذلك الأئمة الأربعة أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وأصحابهم المشاهير الذين طبقت فتاويهم الآفاق، وفقهاء التابعين وقضاة الأمصار رحمهم الله . ومن معاصرينا ابن باز وابن عثيمين تميزا إفتائيا وغالب هيئة كبار العلماء ، وقد ذُكر لابن باز رحمه الله أكثر من إحدى عشر ألف فتوى في برنامجه الشهير( نور على الدرب ). فضلا عن المجالس الأخرى .
وقد اشترط الأئمة شروطا للمفتي عليه العناية بها، منها:
١/ العلم بآيات الأحكام من القرآن الكريم.
٢/ العلم بأحاديث الأحكام من السنة الشريفة.
٣/ العلم باللغة العربية.
٤/ العلم بأصول الفقه.
٥/ العلم بمسائل الإجماع حتى لا يخالفها.
• تاسعاً : الجبهة الفكرية: الجامعة بين العلم الشرعي والوعي الفكري بالأعداء ومخططاتهم والأديان وفرقها، والمذاهب ومدارسها، والطوائف ومسالكها، قال تعالى:( وكذلك نُفصل الآيات ولتستبينَ سيبيلُ المجرمين ) سورة الأنعام .
وفِي هذا المسار، حفظ للإسلام، ودفاع عن عقيدته، وكشف لخصومه، وردع لترهاتهم ، ومعالجة لشبهاتهم، والتي قد تنطلي على جهال جُدد، وعوام بُله..! وانظر لآثار من سدّ تلك الجبهة في القديم: كالغزالي الأصولي وابن رشد(٥٩٥)هـ وابن تيمية(٧٢٨) وابن خلدون(٨٠٨)هـ وابن حزم(٤٥٦)هـ رحمهم الله. وحاليا: كالمفكر مالك بن نبي(١٣٩٣)هـ والداعية الشيخ أحمد ديدات(٢٠٠٥)م والدكتور المسيري(٢٠٠٨) والسميط (١٤٣٤)هـ، والغزالي(١٤١٦)هـ ، والأستاذ أنور الجندي () وأشباههم من أرباب الصولات الفكرية، والكفاح الدعوي العريض في هذا السياق .
وهذا العطاء ما ينبغي الاستهانة به من قبل حملة العلم الشرعي وحفاظ المتون، لأنه تمس الحاجة إليه زمن انتشار الشبهات والأفكار الضالة والملحدة، كما في العصر الراهن، وعليه ينبغي أن يكون في استراتيجية الدعوة الاسلامية "صناعة مفكرين"، كذا ديدنهم وعلمهم وتخصصهم، ينفون عن دين الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين،وتلويث المتنورين ويتصدون للأعادي بكل وعي وحذق وصرامة .
• عاشرا: الفقه المؤسسي : القائم من خلال كيانات علمية مؤسسية منظمة، تخضع لخطط وبرامج مدروسة تقدم "العلوم الشرعية" المهمة ، ويشرف عليها قادة ومتخصصون موثوقون، برعاية حكومية ناضجة، كالجامعات الإسلامية المشهورة في المملكة ومصر والشام- الإمام والأزهر والإسلامية بالمدينة- أو أهلية، وقفية، تمنحهم الاستقلالية والارتقاء ، وقد تكون نشأتها ميدانية، أو الكترونية، وثمة نماذج على أرض الواقع، "كتجربة قناة المجد العلمية" وأكاديميتها، "والجامعة الأمريكية المفتوحة بلندن" ومقرها القاهرة، وكذلك "الجامعة الدولية"، وبرنامج "حفاظ الوحيين" للشيخ يحي اليحي، وهو شبيه بالكلية المتنقلة، ولابد أن تكون إنتاجيته لائقة بالحجم المبذول..! وأيضا الجامعة الإسلامية المفتوحة في مصر.
ولا يمكن تناسي الأثر التاريخي والعلمي لمدارس علمية : كالنظامية والصدرية ،والسكرية، والمستنصرية، ودار الحديث الأشرفية، والتي تنسب لأئمة وتجار مسلمين نفع الله بها، وازدهرت منها الحلق العلمية بعد التخرج من المساجد والكتاتيب .
وانقطاع كفاءات لهذا المشروع، ينتج عنه ما يلي :
• تكوين أجيال فاعلة علميا ، وتسهم في البناء الحضاري للأمة وحل مشكلاتها، والقضاء على الجهل والخرافة والانحراف .
• المحافظة على الحد التأصيلي المتوسط لحاملي التخصصات الشرعية، وتوثيق صلتهم بالأمهات ، وحمايتهم من حمى الاختصار والعَصرنة الهشة..!
• تقوية الغراس الدعوية وتنميتها بالعناصر المؤثرة، والمتنقلة في كل الجهات والأنحاءِ .
• السلامة من الاستبداد الإداري، والمركزية القاتلة لصنوف الإبداع والابتكار العلمي .
• إتاحة المنافذ لكل الفئات والبعداء والمنكوبين من بلدان الأزمات والتراجع التنموي .
• المشاركة التأليفية والتقنية في خدمة مجالات العلم الشرعي والردود الفكرية الملائمة لقضايا العصر وتحدياته .
والله الموفق...
حمزة بن فايع الفتحي
رئيس قسم الشريعة بجامعة الملك خالد فرع تهامة، وخطيب جامع الفهد بمحايل عسير
- التصنيف: