لماذا نخاف من النقد الذاتي ...؟!
لقد أحال الشيطان خطأه لمصدر خارجي، إذ قال: {رب بِمَآ أَغْوَيْتَنِى} لكن آدم وزوجه كان لهما شأن آخر مع المخالفة، كانت نقدا للذات، ومحاسبة للنفس، حيث قالا: { ربنا ظلمنا أنفسنا}
بنداود رضواني.
قال الشيطان: { رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى}
و أما آدم وزوجه فقالا: { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا}
فما أعظم الفرق بين قال..، وقالا...!!!!
يقال في المجاملة: المصانعة...، و في أكثر الأحيان يراد باللفظتين مسايرة عمرو لزيد في كلامه، أو الموافقة على أفعاله دون النظر و التدقيق فيهما، وإن احتويا تغييرا للحقائق و ترويجا للأباطيل...، هذه الممارسة يهيمن عليها أحد أمرين، أو هما معا: ضعف شخصية عمرو، أو مصانعته لزيد رغبة في المنفعة، واستجداء للمصلحة.
و غالبية الناس متواطؤون على استقباح هذه الممارسة و التشنيع على أصحابها، لكن قَلَّ فيهم من يعيب مجاملة الذات ويستهجن مصانعتها و متابعتها وإن ساخت في المخازي و الرذائل، و غاصت في القبائح و المثالب...
و لإعمال النظر في الذات نقدا و سبرا، و الاهتمام بها مراجعة و فحصا ...، نجد في البيان الإلهي فضاء واسعا لذلك، لأن في الناس من لا يفتر عن تعقب أخطاء الغير و التنقيب في تصرفاته في حين أن أحواله تعج بالمخالفات و تفوح بالسيئات !!!...، يقول ابن عباس رضي الله عنهما: " إذا أردت أن تذكر عيوب صاحبك فاذكر عيوبك ". رواه البخاري في الأدب المفرد. و في المغرب مثال مشهور في هذا الباب مفاده أن:" الجمل لا يرى إلا سنام رفاقه من الإبل، في حين أن بصره كليل عن رؤية السنام الذي يعلو ظهره ".
والأرجح أن غالبية المشتغلين بنقد الناس تطوقهم سيئتان: أولاهما، البطالة والفراغ، فلا شغل لهم يعمرون به يومهم، أو مصالح بناءة تستفز حركتهم، لذا لا يجدون أليق لملء أوقاتهم من الخوض في نقد الغير والترصد له... !!! وثانيهما، أن الواحد من هؤلاء لسانه أطول من ذراعه، فهو في المجالس أسرع حديثا و أمضى لسانا وأشد انتقادا...، لكنه نظير ذلك مداهن لما عليه أحواله من النقائص والمعايب.!!
والمعضلة أن ثقافة نقد الآخر لم تلبث سلوكا فرديا فحسب، بل أضحت تحكم الوعي الجمعي للمسلمين، فطريقة التداول الثقافي لنظرية المؤامرة وربط جميع الإخفاقات الحضارية للمسلمين بالآخر، يعوزهما الكثير من التدقيق والإنصاف، فسنن التغيير وقوانين العمران لا تبرئ العامل الذاتي من الأحوال التي عليها الناس البتة، فهم إما أن يكونوا سببا في بروز المشكل، أو أساسا في إنتاج الحل، لأنهم - كما أكد القرآن - مبتكرو الفعل حقيقة في ساحة الأحداث والوقائع {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا ۖ قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران/165] .
فلا حاجة إذن للإلتفات إلى الغير و تركيز الإنتباه إلى الخصوم، بل إن الاستغراق في هذا الأمر سيعزز حالة التيه الحضاري نتيجة مجاملة الذات و الإنتشاء بالخيبة والتراجع.!!!
لقد قعد القرآن الكريم للممارسة النقدية بصورة غير معهودة في كتب السابقين و ملل الأولين، فرغم المقام الأسنى الذي تربع عليه رسول الله لم يشفع له أمام الأوامر الإلهية المضَمَّنة بالتوجيه والتصويب والتذكير حين يخالف عليه الصلاة والسلام ما هو أولى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ۖ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [ التحريم/1] .
{عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ أَن جَاءَهُ الْأَعْمَىٰ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَىٰ أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَىٰ فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّىٰ وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَىٰ وَهُوَ يَخْشَىٰ فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّىٰ} [عبس/ من الآية1 إلى 10] .
{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ۚ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [الأنفال/67] .
{ عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [ التوبة/43] .
ولم تشفع للصحابة رضي الله عنهم كذلك منزلة الصحبة أمام حجم ما اقترفوا في موقعة أحد من نقدهم و تقريعهم..
فإذا كانت هذه بعض من أحوال نبي الإسلام وصحبه مع هذه القيمة الحضارية الكبرى التي تعرف بنقد الذات,فلم يخاف المسلمون اليوم من النقد الذاتي...؟، لماذا يتهيبون فحص عيوبهم وكشف مكامن قصورهم وتقصيرهم...؟
الأكيد أن استفحال كثير من العلل الإجتماعية والحضارية مردها إلى الإعراض المتعمد و التغاضي المقصود عن محاسبة الذات، نتيجة الخوف المرضي من محاسبة النفس، و كذلك بسبب الاهتزاز الذي تعاني منه الثقة في النفوس.
و المأمول في علاج هذه الأدواء أن يحصل من طريقين لا غنى لأحدهما عن الآخر، الطريق الأول: يتم بإحاطة مساوئ الناس برداء الستر، و تغليف مزالقهم بثوب التغافل، والطريق الثاني: بأن يضع المسلمون أسقامهم النفسية والحضارية على طاولة التشريح القرآني مستمسكين بعد عون الله ومدده بمبضع النقد الذاتي دون خوف أو وجل..، ليداووا هذه الأمراض التي تعتريهم و يستأصلوا الأورام التي تهدد هويتهم ( {وَفِي أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ } [الذاريات/21] .
لقد أحال الشيطان خطأه لمصدر خارجي، إذ قال: {رب بِمَآ أَغْوَيْتَنِى} لكن آدم وزوجه كان لهما شأن آخر مع المخالفة، كانت نقدا للذات، ومحاسبة للنفس، حيث قالا: { ربنا ظلمنا أنفسنا} كانت من أهم المراجعات القاسية في التاريخ الإنساني، لكنها مثلت نجاحا لآدم وحواء، أما الشيطان كان تبرؤه من خطئه سببا في هوانه و استبعاده...
بنداود رضواني
حاصل على شهادة الدكتوراة في الفكر الإسلامي ومقارنة الأديان
- التصنيف: