فوائد من زاد المعاد (1-4)

منذ 2019-12-07

فوائد من زاد المعاد في هدى خير العباد لابن القيم

 

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين...أما بعد: فمن أفضل وأشهر كتب العلامة ابن القيم كتابه الموسوم بـ " زاد المعاد في خير العباد" فقد جمع واستوعب في بيان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم, مع استطراد في ذكر فوائد متنوعة, يسّر الله الكريم فجمعتُ شيئاً منها, لا تغني عن قراءة الكتاب, أسأل الله أن ينفع بها, ويبارك فيها.

القرآن الكريم شفاء لجميع الأدواء القلبية والبدنية:

قال الله تعالى:   {وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحمَةٌ لِلمُؤمِنينَ } [الإسراء:82] والصحيحُ: أن " من " هاهنا لبيان الجنس لا التبعيض, وقال تعالى:   {يا أَيُّهَا النّاسُ قَد جاءَتكُم مَوعِظَةٌ مِن رَبِّكُم وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدورِ }  [يونس:57]

فالقرآن هو الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية والبدنية, وأدواء الدنيا والآخرة, وما كل أحدٍ يُؤهل ولا يُوفق للاستشفاء به, وإذا أحسن العليل التداوي به, ووضعه على دائه بصدق وإيمان, وقبول تام, واعتقاد جازم, واستيفاء شروطه, لم يقاومه الداء أبداً, وكيف تقاوم الأدواء كلام ربِّ الأرض والسماء الذي لو نزل على الجبال لصدعها, أو على الأرض لقطعها.

فاتحة الكتاب وأم القرآن والسبع المثاني, والشفاء التام, والدواء النافع, والرقية التامة, ومفتاح الغنى والفلاح, وحافظة القوة, ودافعة الهم والغم والخوف والحزن لمن عرف مقدارها وأعطاها حقها, وأحسن تنزيلها على دائه, وعرف وجه الاستشفاء والتداوي بها, والسر الذي لأجله كانت كذلك.

علاج حرِّ المصيبة وحُزنها:

قال تعالى:   {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّـهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَـٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}    [البقرة:155-157] وفي المسند عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:  {ما من أحد تصيبه مُصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيراً منها إلا أجاره الله في مصيبته, وأخلف له خيراً منها}  وهذه الكلمة من أبلغ علاج المصاب, وأنفعه له في عاجلته وآجلته فإنها تتضمن أصلين عظيمين إذا تحقق العبد بمعرفتهما تسلَّى عن مصيبته

أحدهما: أن العبد وأهله وماله ملك له عز وجل حقيقية, وقد جعله عند العبد عارية, فإذا أخذه منه, فهو كالمعير يأخذ متاعه من المستعير, وأيضاً فإنه محفوف بعدمين: عدم قبله, وعدمٍ بعده, وملك العبد له متعة معارة في زمن يسير, وأيضاً فإنه ليس الذي أوجده عن عدمه, حتى يكون ملكه حقيقةً, ولا هو الذي يحفظه من الآفات بعد وجوده, ولا يُبقي عليه وجوده, فليس له فيه تأثير, ولا ملك حقيقي.

والثاني: أن مصير العبد ومرجعه إلى الله مولاه الحق, ولا بد أن يُخلِّف الدنيا وراءَ ظهره, ويجيء ربه فرداً كما خلقه أول مرة بلا أهل ولا مال ولا عشيرة, ولكن بالحسنات والسيئات, فإذا كانت هذه بداية وما خُوله ونهايته, فكيف يفرح بموجود, أو يأسى على مفقود, ففكره في مبدئه ومعاده من أعظم علاج هذا الداء.

ومن علاجه: أن ينظر إلى ما أصيب به, فيجد ربه قد أبقي عليه مثله, أو أفضل منه, وادخر له – إن صبر ورضي – ما هو أعظم من فوات تلك المصيبة بأضعافٍ مُضاعفة, وأنه لو شاء لجعلها أعظم مما هي.

ومن علاجها: أن يعلم علم اليقين أن ما أصابه لم يكن ليخطئه, وما أخطأه لم يكن ليصيبه.قال تعالى:   {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّـهِ يَسِيرٌ * لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّـهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ }  [الحديد:22-23]

ومن علاجه: أن يُطفئ نار مصيبته ببرد التأسي بأهل المصائب, وليعلم أنه في كل وادٍ بنو سعد, ولينظر يمنة فهل إلا محنة ؟ ثم ليعطف يسرة, فهل يرى إلا حسره ؟ وأنه لو فتش العالم لم ير فيهم إلا مبتلى, إما بفوات محبوب, أو حصول مكروه, وأن شرور الدنيا أحلامُ نوم أو كظل زائل, إن أضحكت قليلاً, أبكت كثيراً, وإن سرت يوماً ساءت دهراً, وإن متعت قليلاً منعت كثيراً, وما ملأت داراً خيرةً إلا ملأتها عبرة, ولا سرته بيوم سرور إلا خبأت له يوم شرور.

ومن علاجها: أن يعلم أن الجزع لا يردها, بل يُضاعفها, وهو في الحقيقة من تزايد المرض.

ومن علاجها: أن يعلم أن فوات ثواب الصبر والتسليم, وهو الصلاة والرحمة والهداية التي ضمنها الله على الصبر والاسترجاع أعظمُ من المصيبة في الحقيقة.

ومن علاجها: أن يروح قلبه بروح رجاء الخلف من الله, فإنه من كل شيء عوض إلا الله, فما منه عوض.

ومن علاجها: أن يعلم أن ما يعقبه الصبرُ والاحتساب من اللذة والمسرة أضعاف ما كان يحصل له ببقاء ما أُصيب به لو بقي عليه, ويكفيه من ذلك بيتُ الحمد الذي يُبنى له في الجنة على حمده لربه واسترجاعه, فلينظر: أي المصيبتين أعظم ؟ مصيبةُ العاجلة, أو مصيبة فوات بيت الحمد في جنة الخلد.

ومن علاجها: أن يعلم أن الجزع يُشمت عدوه, ويسوء صديقه, ويُغضب ربه, ويسرُّ شيطانه, ويُحبط أجره, ويُضعف نفسه, وإذا صبر واحتسب أنضى شيطانه, ورده خاسئاً, وأرضى ربه, وسرَّ صديقه, وساء عدوه, وحمل عن إخوانه, وعزَّاهم هو قبل أن يُعزُّوه, فهذا هو الثبات والكمال الأعظم, لا لطم الخدود, وشقّ الجيوب, والدعاءُ بالويل والثبور, والسخط هو المقدور.

ومن علاجها: أن يعلم أن حظه من المصيبة ما تُحدث له, فمن رضي فله الرضى, ومن سخط فله السخط, فحظك منها ما أحدثته لك, فاختر خير الحظوظ أو شرها, فإن أحدثت له سخطاً وكفراً كُتِبَ في ديوان الهالكين, وإن أحدثت له جزعاً وتفريطاً في ترك واجب, أو فعل محرم كتب في ديوان المفرِّطين, وإن أحدثت له شكاية وعدم صبر كتب في ديوان المغبونين, وإن أحدثت له اعتراضاً على الله وقدحاً في حكمته فقد قرع باب الزندقة أو ولجه, وإن أحدثت له صبراً وثباتاً لله كتب في ديوان الصابرين, وإن أحدثت له الرضى عن الله كتب في ديوان الراضين, وإن أحدثت له الحمد والشكر كتب في ديوان الشاكرين, وكان تحت لواء الحمد مع الحمَّادين, وإن أحدثت له محبة واشتياقاً إلى لقاء ربه, كُتِبَ في ديوان المحبين المخلصين, وفي مسند أحمد والنرمذي من محمود بن لبيد يرفعه:  «إن الله إذا أحبَّ قوماً ابتلاهم, فمن رضي فله الرضى, ومن سخط فله السخط»  زاد أحمد:  «ومن جزع فله الجزع» 

ومن علاجها: أن يعلم أنه وإن بلغ في الجزع غايته فآخر أمره إلى صبر الاضطرار, وهو غير محمود ولا مُثاب, قال بعض الحكماء: العاقلُ يفعل في أول يوم من المصيبة ما يفعله الجاهل بعد أيام, ومن لم يصبر صبر الكرام, سلا سُلُوَّ البهائم.

ومن علاجها: أن يعلم أن أنفع الأدوية له موافقة ربه وإلهه فيما أحبه ورضيه له, وأن خاصية المحبة موافقة المحبوب, فمن ادعى محبة محبوب ثم سخط ما يُحبُّه وأحبَّ ما يُسخطه, فقد شهد على نفسه بكذبه, وتمقَّت إلى محبوبه.

ومن علاجها: أن يوازن بين أعظم اللذتين والتمتعين وأدومهما, لذة تمتعه بما أُصيب به, ولذة تمتعه بثواب الله له, فإن ظهر له الرجحان فآثر الراجح فليحمد الله على توفيقه, وإن آثر المرجوح من كل وجه فليعلم أن مصيبته في عقله وقلبه ودينه أعظم من مصيبته التي أُصيب بها في دنياه.

ومن علاجها: أن يعلم أن الذي ابتلاه بها أحكم الحاكمين, وأرحم الراحمين, وأنه سبحانه لم يرسل إليه البلاء ليهلكه به, ولا ليعذبه به, ولا ليجتاحه, وإنما افتقده به ليمتحن صبره ورضاه عنه وإيمانه, وليسمع تضرعه وابتهاله, وليراه طريحاً ببابه, لائذاً بجنابه, مكسور القلب بين يديه, رافعاً قصص الشكوى إليه.

ومن علاجها: أن يعلم أنه لولا مِحَنُ الدنيا ومصائبها لأصاب العبد من أدواء الكِبرِ والعجب والفرعنة وقسوة القلب ما هو سبب هلاكه عاجلاً وآجلاً, فمن رحمة أرحم الراحمين أن يتفقده في الأحيان بأنواع من أدوية المصائب تكون حمية له من هذه الأدواء, وحفظاً لصحة عُبوديته, واستفراغاً للمواد الفاسدة الرديئة المهلكة منه, فسبحان من يرحم ببلائه ويبتلي بنعمائه.

فلولا أنه سبحانه يداوي عباده بأدوية المحن والابتلاء لطغوا, وبغوا, وعتوا, والله سبحانه إذا أراد بعبد خيراً سقاه دواء من الابتلاء والامتحان على قدر حاله يستفرغُ به من الأدواء المهلكة حتى إذا هذبه ونقاه وصفاه أهَّله لأشراف مراتب الدنيا وهي عبوديته, وأرفع ثواب الآخرة, وهو رؤيته وقربه.