فوائد من كتاب مفتاح دار السعادة (1-2)
فوائد من كتاب مفتاح دار السعادة لابن القيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين؛ أما بعد:
فمن مصنفات العلامة ابن القيم رحمه الله كتابه الموسوم بـ"مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة"، وهو كتاب اسمه موافق لمسمَّاه، فيه الكثير من الفوائد، ومن رام أن يعرف فضل العلم الموروث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرفه، فليقرأ الكتاب؛ فقد استقصى في ذكر فضائل العلم وفوائده.
وقد اشتمل الكتاب على الكثير من المباحث الفرعية التي فيها فوائد متناثرة في مختلف الفنون، وقد يسر الله الكريم لي فانتقيتُ شيئًا منها، أسأل الله أن ينفع بها ويبارك فيها.
من أقوى أسباب الشكر أن يرى العبد غيره في ضد حاله من الكمال والفلاح:
سبحانه اقتضت حكمته وحمده أن فاوت بين عباده أعظم تفاوتٍ وأَبْيَنَه؛ ليشكره منهم من ظهرت عليه نعمته وفضله، ويعرف أنه حُبِيَ بالإنعام وخُصَّ دون غيره بالإكرام، ولو تساووا جميعهم في النعمة والعافية، لم يعرف صاحب النعمة قدرها ولم يبذل شكرها؛ إذ لا يرى أحدًا إلا في مثل حاله.
ومن أقوى أسباب الشكر وأعظمها استخراجًا له من العبد: أن يرى غيره في ضد حاله الذي هو عليها من الكمال والفلاح.
القلب السليم:
القلب السليم الذي ينجو من عذاب الله ... هو القلب الذي قد سلِم لربه وسلَّم لأمره، ولم تبقَ فيه منازعة لأمره ولا معارضة لخبره، فهو ... لا يريد إلا الله ولا يفعل إلا ما أمره الله، فالله وحده غايته وأمره وشرعه ووسيلته وطريقته، لا تعترضه شبهةٌ تَحُولُ بينه وبين تصديق خبره، لكن لا تمر عليه إلا وهي مجتازة تعلم أنه لا قرار لها فيه، ولا شهوةٌ تحول بينه وبين متابعة رضاه.
ومتى كان القلب كذلك، فهو سليم من الشرك، وسليم من البدع، وسليم من الغي، وسليم من الباطل، وكل الأقوال التي قيلت في تفسيره فذلك ينتظمها.
تشبيه العلماء بالنجوم:
أما تشبيه العلماء بالنجوم؛ فلأن النجوم يُهتدى بها في ظلمات البر والبحر وكذلك العلماء، والنجوم زينة للسماء وكذلك العلماء زينة للأرض.
وهي رجومٌ للشياطين حائلة بينهم وبين استراق السمع لئلَّا يلبسوا بما يسترقونه من الوحي الوارد إلى الرسل من الله على أيدي ملائكته، وكذلك العلماء رجوم لشياطين الإنس الذين يوحي بعضهم إلى بعض زخرفَ القول غرورًا، فالعلماء رجوم لهذا الصِّنف من الشياطين، ولولاهم لطُمست معالمُ الدين بتلبيس المُضلِّين، ولكن الله سبحانه أقامهم حُرَّاسًا وحفظةً لدينه ورجومًا لأعدائه وأعداء رسله.
أنواع السعادات التي تؤثِرُها النفوس:
أنواع السعادات التي تؤثرها النفوس ثلاثة:
سعادة خارجية عن ذات الإنسان، بل هي مستعارة له من غيره تزول باسترداد العارية؛ وهي: سعادة المال والجاه وتوابعهما، فبينا المرء بها سعيدًا ملحوظًا بالعناية مرموقًا بالأبصار، إذ أصبح في اليوم الواحد أذل من وتد بقاع.
ويُحكى عن بعض العلماء أنه ركِب مع تجار في مركب، فانكسرت بهم السفينة؛ فأصبحوا بعد عز الغِنى في ذلِّ الفقر، ووصل العالِم إلى البلد فأُكرم وقُصد بأنواع التحف والكرامات، فلما أرادوا الرجوع إلى بلادهم قالوا له: هل لك إلى قومك كتاب أو حاجة؟ فقال: نعم، تقولون لهم: إذا اتخذتم مالًا، فاتخذوا مالًا لا يغرق إذا انكسرت السفينة.
السعادة الثانية: سعادة في جسمه وبدنه؛ كصحته، واعتدال مِزاجه، وتناسب أعضائه، وحسن تركيبه، وصفاء لونه، وقوة أعصابه.
فهذه ألصق به من الأولى، ولكن في الحقيقة خارجة عن ذاته وحقيقته؛ فإن الإنسان إنسان بروحه وقلبه لا بجسمه وبدنه.
السعادة الثالثة: هي السعادة الحقيقية وهي سعادة نفسانية روحية قلبية؛ وهي: سعادة العلم النافع وثمرته؛ فإنها هي الباقية على تقلب الأحوال، والمصاحِبة للعبد في جميع أسفاره وفي دوره الثلاثة - أعني: دار الدنيا ودار البرزخ ودار القرار - وبها يترقى في معارج الفضل ودرجات الكمال.
أما الأولى فإنما تصحبه في البقعة التي فيها ماله وجاهه.
والثانية فعُرضَةٌ للزوال والتبدل بنكس الخَلْقِ والردِّ إلى الضعف.
فلا سعادة في الحقيقة إلا هذه الثالثة التي كلما طال عليها الأمد ازدادت قوةً وعلوًّا، وإذا عُدم المال والجاه فهي مال العبد وجاهه، وتظهر قوتها وأثرها بعد مفارقة البدن إذا انقطعت السعادتان الأوليتان.
وهذه السعادة لا يعرف قَدْرَها ويبعث على طلبها إلا العلم بها، فعادت السعادة كلها إلى العلم وما يقتضيه والله يوفق من يشاء، لا مانعَ لِما أعطى ولا معطيَ لما منع
وإنما رغب أكثرُ الخلق عن اكتساب هذه السعادة وتحصيلها؛ لِوُعُورةِ طريقِها ومرارةِ مباديها وتعبِ تحصيلها، وأنها لا تُنال إلا على جسر من التعب، فإنها لا تحصل إلا بالجد المحض بخلاف الأوليتين؛ فإنهما حظٌّ قد يحوزه غيرُ طالبه وبختٌ قد يحرزه غير جالبه من ميراث أو هبة أو غير ذلك، وأما سعادة العلم فلا يورثك إياها إلا بذل الوسع وصدق الطلب وصحة النية.
ومن طمحت همته إلى الأمور العالية، فواجب عليه أن يشد على محبة الطرق الدينية.
وهي السعادة وإن كانت في ابتدائها لا تنفك عن ضرب من المشقة ... وإنها متى أُكرهت النفس عليها، وسيقت طائعةً وكارهةً إليها، وصبرت على لأوائها وشدتها - أفضت منها إلى رياض مؤنقة، ومقاعد صدق، ومقام كريم تجد كل لذة دونها.
فالمكارم منوطة بالمكاره، والسعادة لا يُعبَر إليها إلا على جسر المشقة، فلا تُقطع مسافتها إلا في سفينة الجد والاجتهاد.
ولولا جهلُ الأكثرين بحلاوة هذه اللذة وعِظمِ قدرها، لتجالدوا عليها بالسيوف، ولكن حُفَّت بحجاب من المكاره، وحُجبوا عنها بحجاب من الجهل؛ ليختص الله بها من يشاء من عباده والله ذو الفضل العظيم.
من رحمة الله وبرِّه بعباده كسرُهم بأنواع المصائب والمحن لينالوا رضاءه ومحبته:
ومن تدبر حكمته سبحانه ولطفه وبره بعباده وأحبابه في كسره لهم، ثم جبره بعد الانكسار؛ كما يكسر العبد بالذنب ويُذلُّه به، ثم يجبره بتوبته عليه ومغفرته له، وكما يكسره بأنواع المصائب والمحن، ثم يجبره بالعافية والنعمة - انفتح له باب عظيم من أبواب معرفته ومحبته وعلِم أنه أرحم بعباده من الوالدة بولدها، وأن ذلك الكسر هو نفس رحمته به وبره ولطفه، وهو أعلم بمصلحة عبده منه، ولكن العبد لضعف بصيرته ومعرفته بأسماء ربه وصفاته لا يكاد يشعر بذلك، ولا ينال رضا المحبوب وقربه والابتهاج والفرح بالدنوِّ منه والزُّلفى لديه إلا على جسر من الذل والمسكنة، وعلى هذا قام أمر المحبة؛ فلا سبيل إلى الوصول إلى المحبوب إلا بذلك
مداخل الشيطان على الإنسان وما ينجيه منها:
الله سبحانه بحكمته سلَّط على العبد عدوًّا عالمًا بطرق هلاكه وأسباب الشر الذي يلقيه فيه، متفنِّنًا فيها خبيرًا بها حريصًا عليها، لا يفتُر عنه يقظة ولا منامًا، ولا بد له من واحدة من ستٍّ ينالها منه:
أحدها: وهي غاية مراده منه: أن يحول بينه وبين العلم والإيمان فيلقيه في الكفر، فإذا ظفر بذلك فرغ منه واستراح.
فإن فاتته هذه وهُديَ للإسلام، حرص على تلوِ الكفرِ وهي: البدعة، وهي أحب إليه من المعصية؛ فإن المعصية يُتاب منها، والبدعة لا يُتاب منها؛ لأن صاحبها يرى أنه على هدًى.
فإن أعجزته ألقاه في الثالثة وهي الكبائر، فإن أعجزته ألقاه في اللَّمَمِ وهي الرابعة وهي الصغائر.
فإن أعجزَّته شغله بالعمل المفضول عما هو أفضل منه؛ ليرتجَّ عليه الفضل الذي بينهما وهي الخامسة.
فإن أعجزه ذلك صار إلى السادسة وهي: تسليط حزبه عليه يؤذونه ويشتمونه ويبهتونه ويرمونه بالعظائم؛ ليحزنه ويشغل قلبه عن العلم والإرادة وسائر عمله.
فكيف يمكن أن يحترز منه مَن لا علم له بهذه الأمور ولا بعدوِّه ولا بما يحصنه منه؟ فإنه لا ينجو من عدوه إلا من عرفه، وعرف طرقه التي يأتيه منها، وجيشه الذي يستعين به عليه، وعرف مداخله ومخارجه، وكيفية محاربته وبأي شيء يحاربه، وبماذا يداوي جراحته، وبأي شيء يستمد القوة لقتاله ودفعه، وهذا كله لا يحصل إلا بالعلم؛ فالجاهل في غفلة وعمى عن هذا الأمر العظيم والخطب الجسيم.
وجوه فضل العلم على المال:
فضل العلم على المال يُعلم من وجوه:
أحدها: أن العلم ميراث الأنبياء، والمال ميراث الملوك والأغنياء.
الثاني: أن العلم يحرس صاحبه، وصاحب المال يحرس ماله.
الثالث: أن المال تُذهِبه النفقات، والعلم يزكو على النفقة.
الرابع: أن صاحب المال إذا مات فارقه ماله، والعلم يدخل معه قبره.
الخامس: أن العلم يحكم على المال، والمال لا يحكم على العلم.
السادس: أن المال يحصل للمؤمن والكافر والبَرِّ والفاجر، والعلم النافع لا يحصل إلا للمؤمن.
السابع: أن العالم يحتاج إليه الملوك فمن دونهم، وصاحب المال إنما يحتاج إليه أهل العدم والفاقة.
الثامن: أن النفس تشرف وتزكو بجمع العلم وتحصيله وذلك من كمالها وشرفها، والمال لا يزكيها ولا يكملها ولا يزيدها صفةَ كمالٍ، بل النفس تنقص وتشح وتبخل بجمعه والحرص عليه، فحرصها على العلم عين كمالها، وحرصها على المال عين نقصها.
التاسع: أن المال يدعوها إلى الطغيان والفخر والخُيلاء، والعلم يدعوها إلى التواضع والقيام بالعبودية.
العاشر: ما أطاع الله أحدٌ قطُّ إلا بالعلم، وعامةُ مَن يعصيه إنما يعصيه بالمال.
الحادي عشر: أن العلم جاذب موصِّلٌ لها إلى سعادتها التي خُلقت لها، والمال حجاب عنها وبينها.
الثاني عشر: أن المال يستعبد مُحبَّه وصاحبه فيجعله عبدًا له، والعلم يستعبده لربه وخالقه.
الثالث عشر: أن قيمةَ الغنيِّ مالُه وقيمةَ العالِم علمُه، فهذا متقوم بماله فإذا عُدم عُدمت قيمته فبقي بلا قيمة، والعالم لا تزول قيمته، بل هي في تضاعف وزيادة دائمة.
الرابع عشر: أن العالم يدعو الناس إلى الله بعلمه وحاله، وجامع المال يدعوهم إلى الدنيا بحاله وماله.
الخامس عشر: أن اللذة الحاصلة من غِنى المال؛ إما لذة وهمية، وإما لذة بهيمية، فإن صاحبه إن التذَّ بنفس جمعه وتحصيله فتلك لذة وهمية خيالية، وإن التذَّ بإنفاقه في شهواته فهي لذة بهيمية، وأما لذة العلم فلذة عقلية روحانية، وهي تشبه لذة الملائكة وبهجتها، وفرقٌ بين اللَّذَّتين.
السادس عشر: أن غِنى المال مقرون بالخوف والحزن؛ فهو حزين قبل حصوله خائف بعد حصوله، وكلما كان أكثر كان الخوف أقوى، وغِنى العلم مقرون بالأمن والفرح والسرور.
السابع عشر: أن الغِنى بالمال هو عين فقر النفس، والغِنى بالعلم هو غناها الحقيقي، فغناها بعلمها هو الغِنى، وغناها بمالها هو الفقر.
الثامن عشر: أن من قُدِّم وأُكرم لماله، إذا زال ماله ذهب تقديمه وإكرامه، ومن قُدِّم وأُكرم لعلمه، فإنه لا يزداد إلا تقديمًا وإكرامًا.
التاسع عشر: أن غَنيَّ المال يُبغِض الموتَ ولقاء الله؛ فإنه لحبِّه مالَه يكره مفارقته ويحب بقاءه...وأما العلم فإنه يُحبِّب للعبد لقاء ربه، ويزهِّده في هذه الدنيا..الفانية.
العشرون: أن الأغنياء يموت ذكرهم بموتهم، والعلماء يموتون ويحيا ذكرهم.
مراتب العلم:
أولها: حسن السؤال، الثانية: حسن الإنصات والاستماع، الثالثة: حسن الفَهم، الرابعة: الحفظ، الخامسة: التعليم، السادسة: وهي ثمرته وهي العمل به ومراعاة حدوده.
- التصنيف: