فوائد من طريق الهجرتين (2-3)

منذ 2019-12-19

فوائد من طريق الهجرتين وباب السعادتين لابن القيم

الناس يريدون منفعة أنفسهم لا منفعتك:

لا أحد من المخلوقين..يقصد منفعتك...بل إنما يقصد منفعته بك, وقد يكون عليك في ذلك ضرر...وأما الربُّ تبارك وتعالى فهو يريد لك ولمنفعتك لا لينتفع بك, وذلك منفعة لك محضة لا ضرر فيها.

فتدبر هذا حق التدبر وراعه حق المراعاة, فملاحظته تمنعك أن ترجو المخلوق أو تطلب منه منفعته لك فإنه لا يريد ذلك البتة بل إنما يريد انتفاعه بك عاجلاً أو آجلاً, فهو يريد نفسه لا يريدك ويريد نفع نفسه بك لا نفعك بنفسه, فتأمل ذلك, فإن فيه منفعة عظيمةً, وراحةً ويأساً من المخلوقين, وسداً لباب عبوديتهم, وفتحاً لباب عبودية الله وحده, فما أعظم حظَّ من عرفَ هذه المسألة ورعاها حقَّ رعايتها. 

ولا يحملنك هذا على جفوة الناس, وترك الإحسان إليهم واحتمال أذاهم, بل أحسن إليهم لله لا لرجائهم, فكما لا تخفهم لا ترجُهم.

صاحب الحاجة أعمى لا يريد إلا قضاءها, فهم لا يبالون بمضرتك إذا أدركوا منك حاجاتهم, بل لو كان فيها هلاك دنياك وآخرتك لم يبالوا بذلك

وهذا إذا تدبره العاقل علم أنه عداوة في صورة صداقة, وأنه لا أعدى للعاقل اللبيب من هذه العداوة, فهم يريدون أن يصيروك كالكير, تنفخ بطنك وتعصر أضالعك في نفعهم ومصالحهم, بل لو أبيح لهم أكلك لجزروك كما يجزُرون الشاة! وكم يذبحونك في كل وقت بغير سكين لمصالحهم, وكم اتخذوك جسراً ومعبراً لهم إلى أوطارهم وأنت لا تشعر وكم بعت آخرتك بدنياهم وأنت لا تعلم وربما علمت   

والله إن هم إلا أعداء في صورة أولياء, وحرب في صورة مسالمين, وقطاع طريق في صورة أعوان, فواغوثاه ثم واغوثاه بالله الذي يغيث ولا يغاث.

سلب النعم:

الله سبحانه...قضى فيما قضى به أن ما عنده لا يُنال إلا بطاعته, وأنه ما استُجلبت نعم الله بغير طاعته, ولا استُديمت بغير شكره, ولا عُوقت وامتنعت بغير معصيته, وكذلك إذا أنعم عليك ثم سلبك النعمة فإنه لم يسلبها لبخل منه ولا استثار بها عليك, وإنما أنت السبب في سلبها عنك, فإن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم. { ذلِكَ بِأَنَّ اللَّـهَ لَم يَكُ مُغَيِّرًا نِعمَةً أَنعَمَها عَلى قَومٍ حَتّى يُغَيِّروا ما بِأَنفُسِهِم وَأَنَّ اللَّـهَ سَميعٌ عَليمٌ }[الأنفال:53]فما أُزيلت نعمُ الله بغير معصيته:

إذا كنت في نعمةٍ فارعها        فإن الذنوب تُزيلُ النِّعم

فآفتك من نفسك, وبلاؤك منك, وأنت في الحقيقة الذي بالغت في عداوتك, وبلغت من معاداة نفسك ما لا يبلغ العدو منك.

ولو شعرت بدائك, وعلمت من أين دُهيت ومن أين أُصبت, لأمكنك تدارك ذلك

ولكن فسدت الفطرة وانتكس القلب, وأطفأ الهوى مصابيح العلم والإيمان منه, فأعرضت عمَّن أصلُ بلائك ومصيبتك منه, وأقبلت تشكو من كلُّ إحسان دقيق أو جليل وصل إليك منه, فإذا شكوته إلى خلقه كنت كما قال بعض العارفين وقد رأى رجلاً يشكو إلى آخر ما أصابه: يا هذا تشكو من يرحمك إلى من لا يرحمك.

موقف العبد من البلاء:

إذا ابتلى الله عبده بشيء من أنواع البلايا والمحن فإن رده ذلك الابتلاء والامتحان إلى ربه, وجمعه عليه, وطرحه ببابه, فهو علامة سعادته وإرادة الخير به, والشدة بتراء لا دوام لها وإن طالت, فتقلع عنه حين تقلع, وقد عُوِّض منها أجلَّ عوض وأفضله, وهو رجوعه إلى الله بعد أن كان شارداً عنه, وإقباله عليه بعد أن كان نائياً عنه, وانطراحه على بابه وقد كان عنه معرضاً, وللوقوف على أبواب غيره متعرضاً

وكانت البلية في حق هذا عين النعمة وإن ساءته وكرهها طبعه, ونفرت منها نفسه.

وقوله تعالى في ذلك هو الشفاء والعصمة   {وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّـهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}  [البقرة:216]وإن لم يرده ذلك البلاء إليه, بل شرد قلبه عنه, ورده إلى الخلق, وأنساه ذكر ربه, والضراعة إليه, والتذلل بين يديه, والتوبة والرجوع إليه, فهو علامة شقاوته وإرادة الشرّ به, فهذا إذا أقلع عنه البلاء رده إلى حكم طبيعته, وسلطان شهواته ومرحه وفرحه, فجاءت طبيعتهُ عند القدرة بأنواع الأشر والبطر والإعراض عن شكر المنعم عليه بالسراء, كما أعرض عن ذكره والتضرع إليه في الضراء. فبليةُ هذا وبال عليه وعقوبة ونقص في حقه, وبلية الأول تطهير له ورحمة.

ذكر الله بالاسم المفرد " الله, الله" والاسم المضمر" هو, هو"

رتب..بعضهم أن الذكر بالاسم المفرد وهو " الله, الله " أفضل من الذكر بالجملة المركبة كقوله " سبحان الله, والحمد لله, ولا إله إلا الله, والله أكبر "

وهذا فاسد مبني على فاسد, فإن الذكر بالاسم المفرد غير مشروع أصلاً, ولا مفيد شيئاً, ولا هو كلام أصلاً, ولا يدل على مدح ولا تعظيم, ولا يتعلق به إيمان, ولا ثواب, ولا يدخل به الذاكر في عقد الإسلام جملةً, فلو قال الكافر" الله, الله " من أول عمره إلى آخره لم يصر بذلك مسلماً, فضلاً أن يكون من جملة الذكر, أو يكون أفضل الأذكار.

وبالغ بعضهم في ذلك حتى قال: الذكر بالاسم المضمر أفضل من الذكر بالاسم الظاهر! فالذكر بقوله " هو, هو" أفضل من الذكر بقولهم: " الله. الله"  وكل هذا من أنواع الهوس والخيالات الباطلة المفضية بأهلها إلى أنواع من الضلالات.

من عرف طريقاً موصلاً إلى الله ثم تركها:

من...عرف طريقاً موصلة إلى الله, ثم تركها, وأقبل على إرادته وراحاته وشهواته ولذاته, وقع في آبار المعاطب, وأودع قلبه سجون المضايق, وعُذب في حياته عذاباً لم يعذبه أحداً من العالمين, فحياته عجز وغم وحزن, وموته كمد وحسرة, ومعاده أسف وندامة, قد فرط عليه أمره, وشُتِّت عليه شمله, وأحضرت نفسه الغموم والأحزان, فلا لذة الجاهلين, ولا راحة العارفين, يستغيث فلا يُغاث, ويشتكي فلا يُشكى, قد ترحلت أفراحه وسروره مدبرةً, وأقبلت آلامه وأحزانه وحسراته مقبلة, قد أبدل بأنسه وحشةً, وبعزه ذلاً, وبغناه فقراً, وبجمعيته تشتتاً.

ذلك بأنه عرف طريقه إلى الله, ثم تركها ناكباً عنها مكباً على وجهه, فأبصر ثم عمى, وعرف ثم أنكر, وأقبل ثم أدبر, ودُعي فما أجاب, وفُتح له فولى ظهره الباب

فلو نال بعض حظوظه, وتلذذ براحاته وشهواته, فهو مقيد القلب عن انطلاقه في فسيح التوحيد, وميادين الأُنس, ورياض المحبة, وموائد القرب.

قد انحط بسبب إعراضه عن إلهه الحق إلى أسفل سافلين...قبر يمشي على وجه الأرض فروحه في وحشةٍ في جسمه وقلبه في ملالٍ من حياته يتمنى الموت ويشتهيه, ولو كان فيه ما فيه, حتى إذا جاء الموت على تلك الحال – والعياذ بالله – فلا تسأل عما يحل به من العذاب الأليم بسبب وقوع الحجاب بينه وبين مولاه الحق, وإحراقه بنار البعد عن قربه والإعراض عنه, وقد حيل بينه وبين سعادته وأمنيته.

فمن أعرض عن الله بالكلية أعرض الله عنه بالكلية, ومن أعرض الله عنه لزمه الشقاء والبؤس والبخس في أحواله وأعماله, وقارنه سوء الحال وفساده في دينه ومآله, فإن الرب تعالى إذا أعرض عن جهة دارت بها النحوس, وأظلمت أرجاؤها, وانكشفت أنوارها, وظهر عليها وحشة الإعراض, وصارت ماوى للشياطين.

الخوف:

قال رحمه الله: قد أمر سبحانه بالخوف منه في قوله:   {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}  [آل عمران:175] فجعل الخوف منه شرطاً في تحقق الإيمان.

وقال تعالى:   {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ}    [المائدة:44]

وقد أثنى سبحانه على أقرب عباده إليه بالخوف منه, فقال تعالى عن أنبيائه بعد أن أثنى عليهم ومدحهم:   {إنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا}  [الأنبياء: 90] فالرغب: الرجاء والرغبة, والرهب: الخوف والخشية.

وقال عن ملائكته الذين قد آمنهم من عذابه:  {يخافونَ رَبَّهُم مِن فَوقِهِم وَيَفعَلونَ ما يُؤمَرونَ }  [النحل:50]

وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( «إني أعلمكم بالله وأشدكم له خشية» ) وكان صلى الله عليه وسلم يصلي ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء.

وقد قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّـهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّـهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر:28] فكلما كان العبد بالله أعلم كان له أخوف...ونقصان الخوف من الله إنما هو لنقصان معرفة العبد به, فأعرف الناس أخشاهم لله, ومن عرف الله اشتدَّ حياؤه منه وخوفه له وحبه له, وكلما ازداد معرفةً ازداد حياءً وخوفاً ورجاءً.

العبد إما أن يكون مستقيماً, أو مائلاً عن الاستقامة.

فإن كان مائلاً عن الاستقامة فخوفه من العقوبة على ميله, ولا يصح الإيمان إلا بهذا الخوف, وهو ينشأ من ثلاثة أمور:

أحدها: معرفة بالجناية وقبحها.

والثاني: تصديق الوعيد وأن الله رتب على المعصية عقوبتها.

والثالث: أنه لا يعلم لعله يمنع من التوبة ويُحال بينه وبينها إذا ارتكب الذنب.

فبهذه الأمور الثلاثة يتم له الخوف, وبحسب قوتها وضعفها تكون قوة الخوف وضعفه, فإن الحامل على الذنب إما أن يكون عدم علمه يقبحه, وإما عدم علمه بسوء عاقبته, وإما أن يجتمع له الأمران لكن يحمله عليه اتكاله على التوبة, وهو الغالب من ذنوب أهل الإيمان, فإذا علم قبح الذنب, وعلم سوء مغبته, وخاف أن لا يفتح له باب التوبة بل يمنعها ويحال بينه وبينها اشتد خوفه, هذا قبل الذنب, فإن عمله كان خوفه أشدّ

وأما إن كان مستقيماً مع الله, فخوفه يكون مع جريان الأنفاس, لعلمه بأن الله مقلب القلوب, وما من قلب إلا هو بين إصبعين من أصابع الرحمن عز وجل, فإن شاء أن يقيمه أقامه, وإن شاء أن يزيغه أزاغه, كما ثبت عن النبي صلى اله عليه وسلم, وكانت أكثر يمينه صلى الله عليه وسلم: ( لا ومقلب القلوب, ولا ومقلب القلوب ) قال بعض السلف: مثل القلب في سرعة تقلبه كريشةٍ مُلقاة بأرض فلاة تقلبها الرياح ظهراً لبطن ) ويكفي في هذا قوله تعالى :   {وَاعلَموا أَنَّ اللَّـهَ يَحولُ بَينَ المَرءِ وَقَلبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيهِ تُحشَرونَ}  [الأنفال:24]

فأيّ قرار لمن هذه حاله ؟ ومن أحق بالخوف منه ؟ بل خوفه لازم له في كل حال.

فالخوف الأول ثمرة العلم بالوعد والوعيد, وهذا الخوف ثمرة العلم بقدرة الله وعزته وجلاله, وأنه الفعال لما يريد, وأنه المحرك للقلب, المصر ف له, المقلب له كيف يشاء, لا إله إلا هو.