فوائد من طريق الهجرتين (3-3)
فوائد من طريق الهجرتين وباب السعادتين لابن القيم
الإيثار:
الدين كله في الإيثار.والفرق بين الإيثار والأثرة أن " الإيثار" تخصيص الغير بما تريده لنفسك, و" الأثرة" اختصاصك به على الغير.
الإيثار إما أن يتعلق بالخلق, وإما أن يتعلق بالخالق.
فإن تعلق بالخلق, فكماله أن تؤثرهم على نفسك بما لا يضيع عليك وقتاً, ولا يفسد عليك حالاً ولا يهضم لك ديناً ولا يسد عليك طريقاً ولا يمنع لك وارداً, فإن كان في إيثارهم شيء من ذلك, فإيثار نفسك عليهم أولى, فإن الرجل من لا يؤثر بنصيبه من الله أحداً كائناً من كان.فإن الإيثار المحمود الذي أثنى الله على فاعله الإيثار بالدنيا لا بالوقت والدين وما يعود بصلاح القلب قال الله تعالى {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9] فأخبر تعالى أن إيثارهم إنما هو بالشيء الذي إذا وقي الرجل الشح به كان من المفلحين, وهذا إنما هو في فضول الدنيا.
فإن قيل: فما الذي يُسهل على النفس هذا الإيثار, فإن النفس مجبولة على الأثرة, لا على الإيثار ؟ قيل: يسهله أمور:
أحدها: رغبة العبد في مكارم الأخلاق ومعاليها
الثاني: النفرة من أخلاق اللئام, ومقت الشح وكراهته له.
الثالث: تعظيم الحقوق التي جعلها الله للمسلمين بعضهم على بعض...فهو لخوفه من تضيع الحق والدخول في الظلم يختار الإيثار بما لا ينقصه ولا يضره, ويكتسب به جميل الذكر في الدنيا, وجزيل الأجر في الآخرة, مع ما يجلبه له الإيثار من البركة
والإيثار المتعلق بالخالق أجل من هذا وأفضل, وهو إيثار رضاه على رضى غيره, وإيثار حبه على حب غيره, وإيثار خوفه ورجائه على خوف غيره ورجائه, وإيثار الذل له والخضوع والاستكانة والضراعة والتملق على بذل ذلك لغيره, وكذلك إيثار الطلب منه والسؤال وإنزال الفاقات به على تعلق ذلك بغيره.
وعلامة صحة هذا الإيثار شيئان:
أحدهما: فعل ما يحبه الله إذا كانت النفس تكرهه وتهرب منه
الثاني: ترك ما يكرهه إذا كانت النفس تحبه وتهواه.
فبهذين الأمرين يصح مقام الإيثار.
ومؤنة هذا الإيثار شديدة...والنفس عنه ضعيفة, ولا يتم صلاح العبد وسعادته إلا به, وإنه ليسير على من يسره الله عليه.
ولا تتحقّق المحبة إلا بهذا الإيثار, والذي يسهله على العبد أمور:
أحدها: أن تكون طبيعته لينة منقادة سلسة, ليست بجافية ولا قاسية, بل تنقاد معه بسهولة.
الثاني: أن يكون إيمانه راسخاً ويقينه قوياً, فإن هذا ثمرة الإيمان ونتيجته.
الثالث: قوة صبره وثباته.
والنقص والتخلف في النفس عن هذا يكون من أمرين:
أن تكون جامدة غير سريعة الإدراك بل بطيئة, فلا يكاد يرى حقيقة الشيء إلا بعد عسر, وإن رآها اقترنت به الأوهام والشكوك والشبهات والاحتمالات.
الثاني: أن تكون القريحة وقادة دراكة, لكن النفس ضعيفة مهينة, إذا أبصرت الحق والرشد ضعفت عن إيثاره.
من كانت قرة عينه في الصلاة فلا شيء أحب إليه وأنعم عنده منها:
قال رحمه الله: الصلاة..محك الأحوال وميزان الإيمان, بها يوزن إيمان الرجل, ويتحقق حاله ومقامه ومقدار قربه من الله ونصيبه منه, فإنها محل المناجاة والقربة, ولا واسطة فيها بين العبد وبين ربه, فلا شيء أقرً لعين المحب ولا ألذّ لقلبه ولا أنعم لعيشه منها إن كان محباً...فلا شيء أهم إليه من الصلاة, كأنه في سجن وضيق وغم حتى تحضر الصلاة, فيجد قلبه قد انفسح وانشرح واستراح, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لبلال: ( « يا بلال, أرحنا بالصلاة» ) ولم يقل: أرحنا منها, كما يقول المبطلون الغافلون.
فالصلاة قرة عيون المحبين, وسرور أرواحهم, ولذة قلوبهم, وبهجة نفوسهم, يحملون هم الفراغ منها إذا دخلوا فيها, كما يحمل الفارغ البطال همها حتى يقضيها بسرعة, فلهم فيها شأن وللنقارين شأن! يشكون إلى الله سوء صنيعهم بهم إذا ائتموا بهم, كما يشكو الغافل المعرض تطويل إمامه, فسبحانه من فاضل بين النفوس, وفاوت بينها هذا التفاوت العظيم.
وبالجملة فمن كانت قرة عينه في الصلاة فلا شيء أحب إليه وأنعم عنده منها, وبوده أن لو قطع عمره بها غير مشتغل بغيرها, وإنما يسلي نفسه إذا فارقها بأنه سيعود إليها عن قرب, فهو دائم يثوب إليها, ولا يقضي منها وطراً, فلا يزن العبد إيمانه ومحبته لله بمثل ميزان الصلاة, فإنها الميزان العادل, الذي وزنه غير عائل.
كتبه / فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ
- التصنيف: