الجار أنواع وحقوق ومواقف وأفكار (1)
الجار هو ذلك الذي اختار حيَّك من بين الأحياء ليسكن فيه، واختار بيتك الموقر ليقرب منه، وفضَّلك على كثير من الناس ليسعد برؤيتك والسلامِ عليك بين الحين والآخر، واطمأنت نفسه إليك وإلى أهلك؛ ليشعر بالأمانِ على نفسه وأهله وأولاده وماله.
أ.د/فيصل بن سعود الحليبي
أستاذ الدراسات العليا بكلية الشريعة بالأحساء
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي هدانا لأعظم دين، وأرسل لنا أفضل رسول، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد ان محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
ـ من هو الجار الذي له حق الجوار؟ وأيهم أحق؟
الجار..هو ذلك الذي اختار حيَّك من بين الأحياء ليسكن فيه، واختار بيتك الموقر ليقرب منه، وفضَّلك على كثير من الناس ليسعد برؤيتك والسلامِ عليك بين الحين والآخر، واطمأنت نفسه إليك وإلى أهلك؛ ليشعر بالأمانِ على نفسه وأهله وأولاده وماله.
وقد حدَّه أمير المؤمنين علي رضي الله عنه بقوله: ((من سمع النداء فهو جار)).
وقيل: ((من صلى معك الصبح في المسجد فهو جار)).
وقيل: ((من سمع الإقامة فهو جار)).
وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ((حد الجوار أربعون دارًا من كل جانب)).
وكل من سبق يطلق عليه: (جار) وله حق الجوار.
ولعل الأرجح ـ والله أعلم ـ: أن من تعارف الناس على تسميته بالجار يسمى كذلك، وله حق الجوار، كما أشار إلى ذلك الألوسي فقال: ((الظاهر أن مبنى الجوار على العرف)).
أما الأحق بحقوق الجوار: فقد حدده لنا النبي صلى الله عليه وسلم ، في حديثِ عائشةَ -رضي الله عنها – أنها قالت: (( «قلت: يا رسول الله، إن لي جارين، فإلى أيهما أهدي؟ قال: إلى أقربهما منكِ بابًا» ))؛ [رواه البخاري] .
ـ الأدلة على حق الجوار:
من عظمة حق الجوار أوصى به الكريم سبحانه، وأنزله في كتابه العزيز، مقترنًا بأوجب الواجبات وهو الأمر بعبادته وحده لا شريك له، فقال عز وجل: { {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} }.
فالجار جزء من إيماننا لا يكمل إلا بإكرامنا له؛ فإن الحبيب صلى الله عليه وسلم يقول: (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ) رواه البخاري.
وتبدأ رحلة الجيرةِ الطيبةِ بالحب، حينما تبذر بذرته في قلبك لجيرانك، فيبادلونك هذه المحبة، فتحبُ لهم كل خير، وترجو ألا يصيبهم مكروه، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( «إِذَا أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِعَبْدٍ خَيْرًا عَسَلَهُ، قِيلَ: وَمَا عَسَلُهُ؟ قَالَ: يحببه إلى جيرانه» ) رواه أحمد وإسناده جيد.
ويترجم المؤمن هذا الحب بالبذلِ والعطاء، والإحسان والهدية، فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: ( «إِنَّ خَلِيلِي صلى الله عليه وسلم أَوْصَانِي: إِذَا طَبَخْتَ مَرَقًا فَأَكْثِرْ مَاءَهُ، ثُمَّ انْظُرْ أَهْلَ بَيْتٍ مِنْ جِيرَانِكَ فَأَصِبْهُمْ مِنْهَا بِمَعْرُوفٍ» ) [رواه مسلم] .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع إلى جنبه))، رواه الحاكم وصححه الذهبي في التلخيص، والألباني في صحيح الأدب المفرد.
وصاغها أبو فراس الحمَداني شعرًا فقال:
وكيف يَسيغُ المرءُ زاداً وجارُه خَفيفُ المِعى، بادي الخصَاصةِ والجهدِ!
ولقد تعلَّم الصحابة رضي الله عنه من الرسول صلى الله عليه وسلم حسنَ معاملة الجيران، فقد ذُبحت شاةٌ لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، فجعل يقول لغلامه: ((أهديتَ لجارنا اليهودي؟ أهديتَ لجارنا اليهودي؟ فإني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه» )).
قالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الشُّمَيْطِ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى الْحَسَنِ تَشْكُو الْحَاجَةَ، فَقَالَتْ: إِنِّي جَارَتُكَ، قَالَ: «كَمْ بَيْنِي وَبَيْنَكِ؟» قَالَتْ: سَبْعُ دُورٍ، أَوْ قَالَتْ: عَشْرُ، فَنَظَرَ تَحْتَ الْفِرَاشِ فَإِذَا سِتَّةُ دَرَاهِمَ أَوْ سَبْعَةٌ، فَأَعْطَاهَا إِيَّاهَا وَقَالَ: «كِدْنَا نَهْلِكُ» أي كاد أن يهلك بتضييع حق جيرتها، ذكرها ابن أبي الدنيا في مكارم الأخلاق.
وربما كانت الكلمةُ الطيبة للجار تصنع ما لا يصنعه المالُ أو الغذاء، فهل اخترت أجمل الكلمات تحيي بها جارك، وتسر بها خاطره؟ هل أدركت حجم الجزاء الذي ينتظرك بسبب عذوبة كلامك مع جيرانك وطيبِ حديثك إليهم، وهل أدركت ما ينتظر من يؤذي جيرانه بلسانه وفحش كلامه؟ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: (( «قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا، غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: هِيَ فِي النَّارِ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا وَصَلَاتِهَا، وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالْأَثْوَارِ مِنَ الْأَقِطِ ـ أي بالقطع ـ وَلَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: هِيَ فِي الْجَنَّةِ» ) رواه أحمد والحاكم وصححه، وابنُ أبي شيبة بإسناد جيد.
ـ حقوق الجار:
دلت النصوص الشرعية على أن الجيران ثلاثة:
1ـ جارٌ له ثلاثة حقوق، وهو الجار المسلم القريب ذو الرحم، له حق الجوار، وحق الإسلام، وحق القرابة.
2ـ جارٌ له حقان، وهو الجار المسلم، له حق الجوار، وحق الإسلام.
3ـ جارٌ له حق واحد، وهو الجار الكافر، له حق الجوار فقط.
ولذا يجب أن يكون الجار مصدرَ أمن واستقرار نفسي لك ولأسرتك، فإنك تريد بحق ألا تشعر بالقلق على أولادك وأهلك ومالك في حلك وترحالك.
فكن ذلك الجار الذي يبدأ بالتحية والترحيب والبشاشة والابتسامة، وكن ذلك الجار تفزعُ لفزع جارك، وتحزن لحزنه، وتفرح لفرحه، وإذا استعانك أعنته، وإذا افتقر عدت إليه بما يكيفه حاجته، وإذا أصابه خير هنأته، وإذا أصابته مصيبة واسيته وعزيته، تعفو عن زلاته، وتستر عوراتِه، وتغض بصرك عن محامه، ولا تسمع فيه كلامًا، بل تكون مدافعًا عنه في غيبته، وحارسًا تكون على منزله في سفره وكأنه بيتك وحلالك، ولا تستطيل عليه بالبنيان لتحجب عنه الريح إلا بإذنه، ولا تكون لك وليمةُ طعام إلا دعوته أو أعطيته منها؛ تقديرًا لحقه، وإبهاجًا لقلبه، تلبي دعوته، وتهديه ما تيسر لك، وتقبل هديته مهما قلَّت، وتتناصح وتتواصى معه في تعلم العلم، وعمل المعروف، بالحق والصبر، وبالحكمة والموعظة الحسنة، بل حتى إذا وافته المنية تبعت جنازتًه ودعوتَ له بالرحمة والمغفرة، ووصلتَ ذريته بالرحمة والإحسان.
وأصدق الحقوق أن تحب لجار ما تحبه لنفسك، وقد أكد ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «والذي نفسي بيده، لا يؤمن عبد حتى يحب لجاره أو قال لأخيه ما يحب لنفسه» رواه مسلم.
أيها الأحبة: لنحرص على حقوق جيراننا، فهي ليست شاقة ولا مكلفة، ولنمسح صفحات التقصير.
ويكفي الجار تكريمًا وصيةُ جبريلَ عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم ، ووصيةُ النبي صلى الله عليه وسلم لأمته، قال عليه الصلاة والسلام: (مَا زَالَ يُوصِينِي جِبْرِيلُ بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ) رواه البخاري.
وروى الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (( «لا يَمْنَعْ جَارٌ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَهُ فِي جِدَارِهِ، ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: مَا لِي أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ، وَاللَّهِ لَأَرْمِيَنَّ بِهَا بَيْنَ أَكْتَافِكُمْ» )).
ولقد خص النبي صلى الله عليه وسلم النساء بالوصية بالجارة فقال عليه الصلاة والسلام: (( «يا نساء المسلمات لا تَحْقِرن جارةٌ لجارتها ولو فرسن شاة» )) متفق عَلَيْهِ.
فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث النساءَ مِن استحقارِ أن تُهدي لجارتها هديةً قد تظن أنها غَيرُ ذاتِ قِيمة، بَل ينبغي عَليها أنْ تهدي جَارتها بما هو مُتاحٌ عِندها حتى ولو قلَّ شأنه، كما أنه ينبغي للمرأةِ المسلمةِ التي أهدتها جَارتهُا شيئًا أن لا تحتقرَ هذا الشيء ولا تُقلل من قيمته، بل تأخذه بعين الرضا وتشكر لجارتها حسنَ صنيعها.
وما أروع أن تسري الغيرة على محارمك إلى محارم جارك، فلا تمدَّن عينيك إلى ستره أو إلى أحد من نسائه، قال حاتم الطائي:
ناري ونارُ الجار واحدةٌ --- وإليه قبلي تنزل القِدْرُ
ما ضر جارًا لي أجاوره --- ألا يكون لبابه سترُ
أغضي إذا ما جارتي برزت --- حتى يواري جارتي الخدر
وقال عنترة:
وأغض طرفي إن بدت ليَ جارتي *** حتى يواريَ جارتي مثواها
ـ معنى قول الإمام علي بن أبي طالب: (الجار قبل الدار):
روي عن أمير المؤمنين عليِ بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: (الجار قبل الدار، والرفيق قبل الطريق).
وحق لنا أن نردد لأنفسنا ولأجيالنا لنقول: (الجار قبل الدار)، فإني على يقين أن الناس ربما اشتروا الأراضي الغالية الثمن، أو المنازل عالية الكلفة، ليس إلا من أجل اختيار الجار الطيب، قديمًا وحديثًا.
ومن ذلك أن أبا جهم العدوي باع داره بمائه ألف درهم ثم قال للمشتري: بكم تشترون جوار سعيدِ بن العاص قالوا: وهل يشترى جوار قط؟! قال: إذاً ردوا علىّ داري وخذوا مالكم؛ فإني والله لا أدعُ جوار رجل إن قعدتُ سأل عني، وإن رآني رحَّب بى، وإن غبتُ حفظني، وإن شهدتُ قربني، وإن سألتُه قضى حاجتي، وإن لم أسأل بدأني، وإن نابتني حاجةٌ فرَّج عنى، فبلغ ذلك سعيداً فبعث إليه بمائة ألف درهم.
وذكر الذهبي: ((أن جارًا لأبي حمزة السكري أراد أن يبيع داره فقيل له: بكم؟ قال: بألفينِ ثمنَ الدار، وبألفينِ لجوار أبي حمزة؛ لمنزلة هذا الرجل، وإحسانِه إلى جيرانه، حَسِبَ جيرته بمثل قيمة الدار، فوجه إليه أبو حمزة بعدما سمع ذلك، وجه له بأربعة آلاف، وقال: لا تبع دارك)).
وذكر الذهبي أيضًا: أن جاراً ليعلى بن عبيد سئل عنه يعلى، وهذا الرجل اسمه الوليد بن القاسم الهمداني، فقال يعلى بن عبيد عن هذا الرجل: نعم الرجل؛ هو جارنا منذُ خمسين سنة، ما رأينا منه إلا خيراً)) سبحان الله: ما رأى منه شيئاً يعاب عليه خمسين سنة!! فما أطيب هذا الجار.
ما موقفنا من جار السوء:
أيها المستمعون والمستمعات: أذية الجار لا يرضاها دين ولا عقل ولا عرف ولا طبع سليم، ويتنزه عنها الشرفاء والكرماء، لا فرق بين جار صالح أو غيره، بل حتى ولو كان كافرًا.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: « «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره» » [متفق عليه] .
فأي جار هذا الذي تتوجس منه خيفة، وتستثقل مقدمه وتفرح برحيله!! يقول النبي صلى الله عليه وسلم : (وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ، قِيلَ: وَمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الَّذِي لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائقَهُ) رواه البخاري.
وإذا وقع الأذى من الجار ـ لا قدر الله ـ فيبدأ بالصبر على أذاه ويعظه ويذكره بالله تعالى، فقد روي أن رجلاً جاء إلى ابن مسعود رضي الله عنه فقال له: إن لي جارًا يؤذيني ويشتمني ويضيّقُ عليّ، فقال: اذهب فإن هو عصى الله فيك، فأطع الله فيه)).
فإن استجاب للنصح والتذكير، وقدَّر صبرك عليه، فالحمد لله، وإن لم يقدِّر ذلك، واستطعت أن تفارق جيرته فلتفعل، فإن الجيرة الطيبة من السعادة، والجيرةُ السيئة تؤذن بالشقاء، قال النبي صلى الله عليه وسلم : (من سعادة المرء: الجار الصالح، والمركب الهنيّ، والمسكن الواسع) رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.
وفي ذلك يقول الشاعر:
دَارِ جارَ السَّوْءِ بِالصَّبْرِ فَإِنَّ **** لم تَجِدْ صَبْرًا فَمَا أَحْلَى النَّقَلْ
وإني لأخشى على جار السوء من الهلكة إن اضطر جارَه إلى بيع داره بسببه، فقد روى البخاري في الأدب المفرد عن ثوبان قال: (( «ما من جار يظلم جاره ويقهرُه، حتى يحمله ذلك على أن يخرج من منزله، إلا وهلك» )) صححه الألباني.
ولقد باع أحدهم منزله فلمَّا لاموه في ذلك قال:
يلومونني أَنْ بِعتُ بالرخص منزلي *** ولم يعرفوا جاراً هناك ينغــِّصُ
فقلتُ لهم:كفوا الملام فإنمــا *** بجيرانها تغلوا الديار وترخصُ
وقَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ في مثل ذلك:
أَلَا مَنْ يَشْتَرِي دَارًا بِرُخْصٍ * كَرَاهَةَ بَعْضِ جِيرَتِهَا تُبَاعُ
لكن إن لم يستطع بيعَ داره والانتقالَ منه بسبب أذية جاره، وزاد هذا الأذى بحيث لا يصبرُ عليه، وخشي أن يتمادى في غيه وأذيته وكيده لجيرانه، فإن من النصح له أن يوضع له حدٌ، ويمنع من تعديه على جيرانه، وتكفُ يده المعتدية بكل وسيلة شرعية نظامية، فإنه ((لا ضرر ولا ضرار))، وحتى لا يسري الأذى إلى جار آخر، وقد دل على ذلك حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: (( «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَشْكُو جَارَهُ، فَقَالَ: اذْهَبْ فَاصْبِرْ، فَأَتَاهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَقَالَ: اذْهَبْ فَاطْرَحْ مَتَاعَكَ فِي الطَّرِيقِ، فَطَرَحَ مَتَاعَهُ فِي الطَّرِيقِ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَسْأَلُونَهُ فَيُخْبِرُهُمْ خَبَرَهُ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَلْعَنُونَهُ ـ أي: يلعنون ذلك الجار المؤذي فيقولون: فَعَلَ اللَّهُ بِهِ وَفَعَلَ وَفَعَلَ، فَجَاءَ إِلَيْهِ جَارُهُ فَقَالَ لَهُ: ارْجِعْ لَا تَرَى مِنِّي شَيْئًا تَكْرَهُهُ» ) رواه أبو داود والحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
ولقد هجا الشاعر أحمد سالم باعطب جار السوء فقال فيه:
وجارٍ في حُقوقِ الحَيِّ جارا*** شَكا مِنه التَطَفُّلُ واسْتجارا
يُقِضُّ مَضاجِعي ليلاً ويُدْمي***مَشاعرَ أسرَتي كَمَداً نَهارا
تَفُوحُ ثيابُ ملبسه غُروراً*** وينضَحُ وجهُهُ حِقْداً وعَارا
يهيمُ بكلِّ مُعْتَلِّ السَّجايا*** ويصطَحِبُ الدَّناءةَ أينَ سَارا
ومما نقلَ عن لُقْمَانِ الحكيم أنه قال لابنه: ((يَا بُنَيَّ، قَدْ حَمَلْتُ الْحِجَارَةَ وَالْحَدِيدَ وَالْحِمْلَ الثَّقِيلَ، فَلَمْ أَجِدْ شَيْئًا قَطُّ أَثْقَلَ مِنْ جَارِ السَّوْءِ)).
أيها الكرام والكريمات: إن من أشد الإيذاء التطاولَ على الجار باليد، أو بسوء الحديث، أو بالاستهزاء والسخرية، أو بوضع الأذى في طريقه أو قرب منزله، أو بالسماح للصبية أن يعتدوا عليه أو على أحد من أهله، أو بإيذائه بأي لون من ألوان الأذى كالغيبة والنميمة والكيد ونحو ذلك.
ولقد استوقفني ـ يا أحبتي الكرام ـ دعاء للنبي صلى الله عليه وسلم يقول فيه: (اللهم إني أعوذ بك من جار السوء في دار المقامة، فإنَّ جار البادية يتحوّل) رواه ابن حبان وصححه والحاكم وصححه ووافقه الذهبي.فواعجبًا
ممن يضطر جارَه أن يستعيذ بالله العظيم من شره وأذاه.
لنعلم أيها ـ أيها الأحبة ـ أن الله يحب منا أن نكون كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، وإن تلاحم الجيران على الصلاح لهو يجسد تلاحمَ هذا المجتمعِ الطيب بأسره، وكلما تلاحم المجتمع كلما كان أكثرَ هيبةً في قلوب أعدائه المتربصين به.
يروى أن جارًا لابن المقفع أراد بيع داره في دَيْن ركبه، وكان يجلس في ظل داره، فقال: ما قمت إذًا بحرمة ظل داره إن باعها معدمًا، فدفع عنه ثمن الدار وقال: لا تبعها).
الجيرة يا أحبتاه: ذكريات، فاختر كيف تكون ذكرياتك مع جيرانك، لأنها مهما طالت سوف تنقضي، فربما انقضت بالرحيل والتبديل إلى سكن آخر في الدنيا، وربما انقضت بالموت والرحيل إلى دار الآخرة، فسطِّر هذه الذكريات مع جيرانك بسطور الحب والسخاء والتراحم وكف الأذى، وليكن الملكان المجاوران لك أشدَّ الجيران قربًا فاحفظ حقهما فلا يريا منك إلا خيرا.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( « كَيْفَ لِي أَنْ أَعْلَمَ إِذَا أَحْسَنْتُ وَإِذَا أَسَأْتُ؟ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا سَمِعْتَ جِيرَانَكَ يَقُولُونَ: أَنْ قَدْ أَحْسَنْتَ فَقَدْ أَحْسَنْتَ، وَإِذَا سَمِعْتَهُمْ يَقُولُونَ: قَدْ أَسَأْتَ فَقَدْ أَسَأْتَ» )) رواه ابن ماجه وصححه الألباني.
إِنِّي لأَغبطُ جَارَكُمْ لِجِوَارِكُمْ * طُوبَى لِمَنْ أَمْسَى لِدَارِكَ جَارَا
يَا لَيْتَ جَارَكَ بَاعَنِي مِنْ دَارِهِ * شِبْرًا فَأُعْطِيهِ بِشِبْرٍ دَارَا.
كان لأبي حنيفة رحمه الله جار بالكوفة إسكافي يعمل نهارَه أجمع، حتى إذا حبَسه الليل رجع إلى منزله وقد حمل لحماً فطبخه، ثم لا يزال يشرب الخمر، حتى إذا دبَّ الشراب فيه غنى بصوت وهو يقول:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا***** ليوم كريهة وسداد ثغر
ويردد هذا البيت حتى يأخذه النوم، وكان أبو حنيفة يسمع جلبته وهو يصلي الليل، ففقد أبو حنيفةُ صوته، فسأل عنه فقيل: أخذه العسس منذ ليال، وهو محبوس، فصلى أبو حنيفة الفجر من الغد، وركب بغلته واستأذن على الأمير، فأذن له، ولم يزل الأمير يوسع له في مجلسه، وقال ما حاجتك؟ فقال: لي جار إسكاف أخذه العسس في تلك الليلة إلى يومنا هذا، فأمر بتخليته، فركب أبو حنيفة والإسكاف يمشي وراءه، فلما نزل أبو حنيفة، مضى إليه وقال: يا فتى أترانا قد أضعناك؟! فقال: لا، بل حفظت ورعيت وجزاك الله خيراً عن حرمة الجوار ورعاية الحق، وتاب الرجل ولم يعد إلى ما كان عليه.
حقوق الجار الكافر:
أوجز الشيخ ابن باز ـ رحمه الله تعالى ـ حقوق الجار الكافر، وجعلها في خمسة نقاط:
أولًا: الدعوة إلى الله، بأن يدعوه إلى الله ويبينَ له حقيقة الإسلام، حيث أمكنه ذلك، وحيث كانت لديه البصيرة؛ لأن هذا هو أعظم الإحسان، وأهم الإحسان، الذي يُهديه المسلم إلى من اجتمع به من اليهود أو النصارى أو غيرهم من المشركين؛ لقوله عليه الصلاة والسلام لعلي رضي الله عنه لما بعثه إلى خيبر وأمره أن يدعو إلى الإسلام قال: (فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً خيرٌ لك من حمر النعم) متفق على صحته.
ثانياً: لا يجوز أن يظلمه في نفس ولا في مال ولا في عرض، إذا كان ذميًا أو مستأمنًا أو معاهدًا، فإنه يؤدي إليه الحق؛ لكونه معصومًا بذمته أو أمانه في بلاد المسلمين.
ثالثاً: لا مانع من معاملته في البيع والشراء والتأجير ونحو ذلك، فقد صح عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه اشترى من الكفار وهم عباد أوثان، واشترى من اليهود، وهذه معاملة، وقد صح أنه توفي عليه الصلاة والسلام ودرعُه مرهونة عند يهودي في طعام اشتراه لأهله.
رابعًا: لا يبدأه بالسلام؛ ولكن يرد عليه السلام كما علمنا النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (لا تبدأوا اليهود ولا النصارى بالسلام) رواه مسلم في صحيحه، وقال عليه الصلاة والسلام: ( «إذا سلم عليكم أهل الكتاب، فقولوا: وعليكم» )، متفق على صحته.
خامسًا: حسن الجوار إذا كان جارا تحُسن إليه ولا تؤذيه في جواره، وتتصدق عليه إذا كان فقيرًا، وتهدي إليه وتنصح له فيما ينفعه؛ لأن هذا مما يسبب رغبتَه في الإسلام ودخولَه فيه؛ ولأن الجار له حق، قال النبي ﷺ: (( «مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه» )) متفق على صحته، وإذا كان الجار كافرا كان له حق الجوار، وإذا كان قريبا وهو كافر صار له حقان: حق الجوار وحق القرابة، ومن المشروع للمسلم أن يتصدق على جاره الكافر وغيره من الكفار غير المحاربين من غير الزكاة، لقول الله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } [الممتحنة:8]، وللحديث الصحيح عن أسماءَ بنتِ أبي بكر رضي الله عنهما أن أمها وفدت عليها بالمدينة في صلح الحديبية وهي مشركة تريد المساعدة، فاستأذنت أسماءُ النبيَ ﷺ في ذلك هل تصلها؟ فقال: صليها ا.هـ.
أما الزكاة: فلا مانع من دفعها للمؤلفة قلوبهم من الكفار، لقوله تعالى: { {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۖ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} }.
ـ أخيرًا مقترحات ووصايا للجيران:
يمكنني أن أختم الحديث عن حقوق الجار بعدد من المقترحات تعزز من الصلة، وتوثقُ العلاقة، وتعين بعد الله تعالى على أداء حقوق الجيرة وخصوصًا في عصرنا الحاضر، منها:
1- إيجادُ جلسة أسبوعية يجتمع فيها الجيران، تُتبادل فيها الأحاديث، وتكونُ متنوعة الأفكار.
2- التفطن لأحوال شباب الحي، ذكورًا وإناثًا، والحرصُ عليهم بتوجهيهم نحو ما ينفعهم في دينهم ودنياهم، كتحبيبهم للصلاة، وحثهم على الجد على طلب العلم، والعمل الكريم، والتعاون في افتتاح حلقة القرآن الكريم، وغرس القيم الفاضلة في أنفسهم، وتعزيز حب دينهم ووطنهم وولاة أمرهم، وإبعادُهم عن الأفكار الضالة والمنحرفة.
3- الاشتراك في رحلات العمرة أو الحج أو الرحلاتِ السياحية داخلَ هذا البلد الكريم.
4- عملُ المسابقات الهادفة للرجال والنساء.
5- عمل مجموعة إلكترونية للتواصل الحديث.
6- الحرص على المتعففين من فقراء الجيران وأيتامهم، وتلبيةُ حاجتهم.
7- الشفاعة الحسنة لمن احتاجها.
8- نشر ثقافة العمل التطوعي بين الشباب والمتقاعدين لخدمة دينهم ووطنهم.
9- تعزيز جانب النظافة للحي، والحفاظِ على مرافقه، سواء أكان المسجد، أو الحديقة، أو الشوارع والأرصفة وغيرها.
10- التواصي على زيارة المريض، وتهنئةِ أصحاب المناسبات السعيدة.
11- إصلاح ذات البين بين المتخاصمين، وتقديمُ الاستشارة من أهل الاختصاص.
هذه جملة من الأفكار، ولا أشك أن القارئ لديه ما هو أكثر إبداعًا، والله أسأل أن يعيننا على أداء حقوق جيراننا، وأن يعفو عنا تقصيرنا، وأن يحفظ علينا أمننا ورخاءنا، وأن يوفق ولاة أمرنا، وأن يعز ديننا ووطننا، وأن ينصر جندنا، ويبارك لنا فيما أعطانا، وأن يرزقنا الإخلاص في قولنا وعملنا ويتقبل منا، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
---------------------------------
([1]) أصل هذا المقال مشاركة في البرنامج الصباحي الشهير: ((اللهم بك أصبحنا)) في إذاعة القرآن الكريم في المملكة العربية السعودية، في حلقة بعنوان: (الجار قبل الدار)، في فقرة: (ضيف الحلقة) في تاريخ 8/6/1441هـ.
فيصل بن سعود الحليبي
دكتوراه في أصول الفقه وعضو هيئة التدريس بكلية الشريعة بالأحساء
- التصنيف:
- المصدر: