النبوة وفن العيش
دأب النبي صلى الله عليه وسلم في علاقته مع أصحابه على تأكيد بشريته، ولزوم التواضع الذي يبدد الهيبة المصطنعة. ولما قام بين يديه رجل فارتعد، قال صلى الله عليه وسلم : هَوّن عليك فإني لست بملك
بما أن الأنبياء هم أعلى النماذج البشرية، فإنهم الأنسب بلا شك لأن يكونوا قدوة للإنسانية. غير أن المشكلة التي تُطرح قبل تفعيل النموذج هي الحاجة إلى التفاصيل، بمعنى : هل عرض النبي على أتباعه نموذجا مكتملا للحياة الطيبة، يُسعفهم في تحقيق سعادتي الدنيا والآخرة؟ وإذا كان الرد بالإيجاب، فهل حفظت لنا المكتبة الإنسانية تفاصيل النموذج وخطواته، وأجوبة عن الأسئلة والانشغالات التي تضايق الإنسان في مسار حياته من المهد إلى اللحد؟
رغم أن قائمة الأنبياء والرسل تضم الآلاف منهم، إلا أن سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم تنفرد بالناحية العملية، وبالدقائق والتفاصيل التي تعين الفرد على بلوغ فن العيش، وتدبير مسار حياته بالحكمة اللازمة. فلا نجد في أسفار موسى أو إنجيل عيسى عليهما السلام سوى مواعظ حسنة وتعاليم سامية. كذلك لا تسعفنا أخبار الحكماء بغير آرائهم وتوجيهاتهم، بينما الذي يعوز الناس هو العمل بها، وتمثلها سلوكا وموقفا ونهج حياة.
تعرض السيرة المحمدية دليلا عمليا لفن العيش، بمقوماته الثلاثة التي صاغها الفيلسوف الألماني أرتور شوبنهاور كموجه للحياة البشرية؛ أعني الكينونة والحيازة والتمثلات؛ حيث تحيل الأولى على شخصية الإنسان من حيث القوة، والصحة، والطبع الأخلاقي، والجمال.
بينما تشمل الحيازة ما يملكه الإنسان من أشياء.
أما التمثلات فهي المعايير التي تعكس تقدير الآخرين لنا من عدمه، وتشمل المكانة والمجد والشرف وغيرها.
والغاية من فن العيش النبوي هي ربط المحبة بالاتباع، وتأسيس الحركة الدنيوية للمسلم على منهاج يحقق له السعادة التي يتوق إليها الإنسان، من الوهلة التي يتفتح فيها وعيه على العالم.
القاعدة الأولى في فن العيش النبوي، كما أرساها النبي صلى الله عليه وسلم في مستهل دعوته، هي اقتلاع رواسب العبودية لغير الله، وبناء شخصية مسلمة تمتزج فيها خواص التكريم والاصطفاء الإلهي مع تجريد الخضوع له سبحانه. وسواء تعلق الأمر بصنم أو حاكم أو شهوة، فإن الاعتزاز بدين التوحيد حرر المسلم من الانقياد للمادة، وأبطل ذوبانه في قبلية تحكمها العوائد، ثم انتزع خوفه من الموجودات لتتحرر طاقته ومواهبه.
عرض النبي صلى الله عليه وسلم في أحواله كلها مثالا لكينونة سمتها التوازن والاعتدال. فكان لا يخير بين أمرين إلا اختار أيسرهما مالم يكن إثما، وجعل البساطة والبعد عن التكلف ديدنا في حياته اليومية كزوج ورب أسرة، وفي علاقته مع الجماعة المسلمة.
السمة الثانية التي رعاها النبي صلى الله عليه وسلم قولا وفعلا هي الاستعلاء الإيماني. فلم تعد مفردات القوة والصحة والذكاء ومكارم الأخلاق غاية في حد ذاتها، وإنما وسيلة لرضى الله ورسوله، وتحصيل الأجر والثواب. وذاب الطموح الشخصي في حركة جماعية للتعمير وبناء المجتمع المسلم، كما ارتبط جهد الفرد بتمتين آصرة الدين التي تسمو فوق الروابط المعتادة، لذا يمكن أن نعد حادثة المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار لحظة ميلاد الشخصية المسلمة ،وإعلانا عن منعطف حضاري حاسم.
ولأن فن العيش لا يسلم من مخاوف وآلام تُكدّر صفوه، فقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تهذيب نفوس أصحابه، وتصويب النظر فيما تجري به الأقدار من هَم وحزن ومرض وغيرها. فأرشدهم إلى الحكمة الإلهية من الابتلاء، وهدَم التصور الجاهلي لحركة الإنسان في الواقع، حيث تسود الخرافة والطيرة والشؤم، ثم حرّر النفس من زخرف الحياة الدنيا بالحديث عن نعيم الدار الآخرة. فصار الموت فاصلا خفيفا بين الوجودين، ولم يعد المسلم يبالي على أي جنب كان في الله مصرعه، كما ردد خبيب بن عدي رضي الله عنه حين أجمع المشركون على قتله !
إن الانقلاب الهائل الذي يمس شخصية الإنسان العربي لحظة إسلامه، يمتد أثره على الفور إلى الحيازة، أي علاقته بما يملكه إن كان من ذوي الثراء، أو بطرق تحصيله للمال إن كان غير ذلك. فبين دائرتي الحلال والحرام حدد النبي صلى الله عليه وسلم سبل كسب المال الصالح، ثم أشاد بفضيلة الإنفاق ووجوهها المشروعة، كتعبير عن وظيفة المال في المجتمع المسلم.
وجاءت موقعة أحد لتقطع مع عادة السلب والنهب التي ألفها العربي في جاهليته كمصدر للثروة، ولتضع المسلم أمام اختبار الغنيمة، والضرر الذي يلحقه إذا تقدمت الحيازة على النصرة، والسعي للتملك بدل حمل الرسالة. أما على مستوى البيت النبوي فلم يلحظ المسلمون أية مفارقة بين التوجيهات التي تحض على الاعتدال والتقشف، وبين ما كان يحياه النبي صلى الله عليه وسلم بالفعل: بيت يمضي على أهله شهر أو شهران لا يجدون طعاما غير التمر والماء، وقد يصبح النبي وليس في بيته شيء فيقول: إني صائم؛ حتى إذا حضره مال أو طعام بسط يديه بالإنفاق على مساكين أهل الصفة.
ويبلغ جوده في رمضان درجة الريح المرسلة، فيعطي كما قال الأعرابي عطاءَ من لا يخشى الفقر. كل هذا والمؤمنون يتابعون نهجه في الحيازة: حيازة مبدؤها العطاء لا المنع، وشعارها: أنفق يُنفق عليك ! فيبادرون بدورهم للإنفاق، ويتبارون في تلبية نداء القرض الحسن الذي وعد الله تعالى أن يضاعفه لهم أضعافا كثيرة. ومن لم يجد ما ينفقه فخير له أن يحتطب حزمة على ظهره من أن يسأل الناس فيعطوه أو يمنعوه. إنه فن عيش يُدار فيه المال الصالح بنية التكافل وسد الحاجات، ويلتمس أهله البركة والثواب، فتصبح الثروة تحصيل حاصل أمام هامش ربح أعظم، تدركه البصيرة لا البصر.
وبما أن الإنسان لا يطيب عيشه إلا بوجوده في جماعة، فإنه سرعان ما يتأثر بآراء الآخرين وأحكامهم، ويشغله كل حين سؤال: كيف هي تمثلاتهم بشأني؟ وقد يبالغ في تقدير آرائهم بشكل يهدد سعادته الخاصة. وهذا التمادي يجعله في النهاية عبدا لأحكام الناس، فيوجه أفعاله ومواقفه بشكل يعزز مكانته، ويحقق له المجد والشرف ولو على حساب راحته وسكينته. ومن هنا تتولد جل أشكال المعاناة الإنسانية.
لقد زكى النبي صلى الله عليه وسلم نفوس أصحابه لتتجرد من دواعي الشرف والمكانة والمجد، وليصير مرادها ومطلوبها هو رضى الله تعالى. وأصبح للنية حضور بارز في العبادات والمعاملات على السواء، كما تأسست مرجعية أخلاقية من داخل النص القرآني، تسمو بالفرد عن التماس رضى الناس أو تحقيق مكسب دنيوي.
دأب النبي صلى الله عليه وسلم في علاقته مع أصحابه على تأكيد بشريته، ولزوم التواضع الذي يبدد الهيبة المصطنعة. ولما قام بين يديه رجل فارتعد، قال صلى الله عليه وسلم : هَوّن عليك فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد. وتلك البساطة أسهمت إلى حد كبير في تهذيب التفاوت الاجتماعي، وإذكاء روح التنافس والتسابق، لا على الشهرة والسمعة والثناء، وإنما على جلائل الأعمال والطاعات. وتظل الشكوى التي تقدم بها بعض الصحابة شاهدا على هذا التحول يوم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم، فدلّهم على ما يعدل ذلك من التسبيح والتهليل والأمر بالمعروف وغيرها.
يقتضي فن العيش كما ترسمه شمائل النبي صلى الله عليه وسلم حِسا عاليا بالمسؤولية إزاء الآخر، مع التجرد من أي مكسب دنيوي. بينما تغذي الحكمة العملية في بعض حدوسها وفرضياتها الميل إلى التجاهل، والنفور من الناس، وتكريس اللامبالاة كوصفة لراحة البال والسكينة. فالنزوع البشري إلى إرضاء الناس سببه الحرص على تضخيم الذات، والإحساس بالزهو والمكانة، لذا تضافرت بعض توجيهات النبوة لتؤكد على التقييم الموضوعي لما نحن عليه فعلا، حيث ابن آدم خطاء، ولا يملأ جوفه إلا التراب؛ وحيث محبة الآخر لا تكتمل إلا بالنصيحة، وتمني الخير، والصبر على أذى المخالطة وتبعاتها.
يصف زيد بن ثابت رضي الله عنه تجليا رفيعا لفن العيش النبوي، والبساطة العميقة التي توشك اليوم أن تندثر تحت حُجب التزلف، واصطناع المقامات والهيبة فيقول: كنا إذا جلسنا إليه، صلى الله عليه وسلم، إن أخذنا بحديث في ذكر الآخرة أخذ معنا، وإن أخذنا في ذكر الدنيا أخذ معنا، وإن أخذنا في ذكر الطعام و الشراب أخذ معنا، كل هذا أحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم !
حميد بن خيبش
كاتب إسلامي
- التصنيف: