مكارم الأخلاق وأثرها فى بناء الحضارات
فانظر إلى المحافظة على حرمة الجار ، ورعاية حريمه ، والبعد عن التلصص على نساء الجيران ، وقارن هذا بما ترى من تدن فى الأخلاق فى شباب اليوم وشيبتهم .
حمد لله رب العالمين ، أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أرسله ربه بين يدى الساعة هاديا ومبشرا ونذيرا ، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد
فالدين كله خلق ، فمن زاد عليك فى الخلق زاد عليك فى الدين .
بهذه الكلمات يلخص طبيب القلوب وحكيم الإسلام ابن قيم الجوزية الدين الإسلامى كله ، فهو دين يقوم على الخلق الحسن ، وكلما ازداد المرء من الأخلاق الحسنة كان أقرب إلى حد الكمال فى دينه ، ولا خير فى تدين مغشوش لا يقوم على خلق حسن .
إن الإسلام يدعوا إلى الأخلاق الحسنة ، ويجعلها أساس القبول للأعمال عند الله عزوجل ، فلا قبول لعمل مهما ظهر صلاحه دون سناد من خلق حسن .
ألم يُسأل النبى صلى الله عليه وسلم عن امرأة تقوم الليل وتصوم النهار لكنها تؤذى جيرانها بلسانها فقال هى فى النار .
فهذه عبادات يُخضع لها ، قيام ليل وصيام نهار ، لو أن القبول عند الله مرجعه إلى العبادات وحدها لكانت صاحبتها فى أعلى عليين ، وفى منزلة تالية للأنبياء والصديقين ، لكن لما كان القبول متوقفا على شرط آخر وهو الخلق الحسن ، كانت هذه المرأة فى النار .
ولما كان المرجع للخلق الحسن كانت المرأة الأخرى صاحبةُ العبادات القليلة التى تذكر من قلة صيامها وصلاتها لكنها تحسن إلى جيرانها فى الجنة .
وها هو أبوالدرداء تحدِّث عنه زوجته أم الدرداء فتقول : بات أبوالدرداء الليلة يصلى فجعل يبكى ويقول : اللهم حسَّنت خَلقى فأحسن خلقى حتى أصبح فقلت : يا أبا الدرداء ما كان دعاؤك منذ الليلة إلا فى حسن الخلق ، قال : يا أم الدرداء إن العبد المسلم يحسُن خلقه حتى يُدخِله حسن خلقه الجنة ، ويسوء خلقه حتى يُدخله سوء خلقه النار ( الزهد للإمام أحمد) .
فهاهو أبوالدرداء يمضى ليله كله فى الدعاء بحسن الخلق ، لعلمه بأن حسن الخلق هو المعراج الذى تصعد عليه الأعمال الصالحة إلى الله عزوجل ، وأنها بغيره لن تصعد إلى ربها عزوجل .
إن الذين يظنون أن العبادات بدون خلق حسن ترفع قدر العبد عند ربه عزوجل هم فى الحقيقة واهمون ، فإنه حين توزن الأعمال بين يدى الله يكون حسن الخلق أثقلها عند الله عزوجل ، فعن أبى الدرداء أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : ما من شئ أثقل فى ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن ، وإن الله يبغض الفاحش البذئ (رواه الترمذى وابن حبان فى صحيحه وقال الترمذى حديث حسن صحيح ) .
وزاد فى رواية له وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصوم والصلاة .
وعند الطبرانى من حديث أبى أمامة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجة القائم بالليل الظامئ بالهواجر .
بل إن النبى صلى الله عليه وسلم ليخبر أن صاحب الخلق الحسن فى أعلى الدرجات يوم القيامة فيقول صلى الله عليه وسلم : أنا زعيم ببيت فى ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا ، وببيت فى وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحا ، وببيت فى أعلى الجنة لمن حسن خلقه (رواه أبوداود )
والمتدبر لهذا الحديث يجد أنه جعل الدرجات الثلاث فى الجنة مبنية على حسن الخلق ، فالدرجة الأولى وهى ربض الجنة لمن تخلى عن خلق سئ وهو المراء ، والدرجةَ الوُسطى فى الجنة لمن تخلى عن الكذب وهو خلق سئ ، من تركه كان موعودا ببيت فى وسط الجنة ، والدرجة العليا لمن حسن خلقه ، فالدرجات الثلاث كما ترون بنيت على التخلى والتحلى ، التخلى عن الخلق السئ ، والتحلى بالخلق الحسن ، وصدق ابن القيم (ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة )
إن الأخلاق الحسنة هى أصل كل خير ، وهى مفتاح القبول عند الله ، وإن صاحبها ليحظى بالقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن من أحبكم إلى وأقربكم منى مجلسا يوم القيامة أحسنكم أخلاقا (رواه الترمذى وقال : حديث حسن )
وفى رواية للطبرانى قال صلى الله عليه وسلم إن أحبكم إلى أحاسنكم أخلاقا الموطئون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون وإن أبغضكم إلى المشاءون بالنميمة المفرقون بين الأحبة الملتمسون للبرءاء العيب .
فأقرب الناس من رسول الله وأحبهم إليه هم أصحاب الخلق الحسن ، وأبغض الناس إليه صلى الله عليه وسلم هم أصحاب الأخلاق السيئة .
ولقد لخص النبى صلى الله عليه وسلم الغرض من بعثته فقال : إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ( أخرجه الإمام أحمد والبخارى فى الأدب المفرد )
وهذا الحديث يبين لنا أمرين :
الأمر الأول : أن الهدف الاساسى لدعوة النبى صلى الله عليه وسلم هو إصلاح الأخلاق .
الأمر الثانى : أن العرب الذين بعث فيهم النبى صلى الله عليه وسلم كانوا على أخلاق حسنة لكن لم تبلغ حد الكمال ، ولقد جاء النبى صلى الله عليه وسلم ليصل بهم إلى حد الكمال الأخلاقى ، وهذا المعنى نفهمه من قوله صلى الله عليه وسلم بعثت لأتمم ، فهو صلى الله عليه وسلم وجد عند القوم أخلاقا حسنة فهو لم يبعث إلى قوم ذهبت أخلاقهم ولم يبق عندهم رصيد من الخلق الحسن ، بل كانوا على أخلاق حسنة لكنها لم تصل إلى الكمال ، لهذا بعث الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم ليتمم ما نقص عن الكمال .
والناظر فى أحوال العرب قبل الإسلام يجد أن القوم كانوا يملكون من الرصيد الأخلاقى الشئ الكثير ، فلقد امتازوا بأخلاق عظيمة أبان عنها الشعر والنثر العربى على السواء ، ومن يسبح فى بحور ديوان العرب سيرى رأى العين ما كان يتمتع به القوم من أخلاق عظيمة ، وسنذكر شيئا من ذلك لنريك عظمة أخلاق العرب قبل الإسلام .
يقول الزير سالم فى رثاء أخيه كليب :
على أن ليس عِدلا من كليب إذا برزت مخبأة الخدور
على أن ليس عدلا من كليب إذا طرد اليتيم عن الجزور
فمخبأة الخدور هى الفتاة التى قاربت البلوغ , فخبأها أهلها فى خدرها ، فهى لا تخرج إلا للأمر الجلل ، فليس هناك من يقوم للأمر الجلل ويعفى ربات الخدور مثل كليب ، وفى البيت الثانى يقول أنه لا أحد يعدل كليبا إذا نحر البعير وقسم لحمه ومنع اليتامى لصغرهم ، ولأنهم لا يجدون من يحفظ لهم حقهم ، فلو كان كليب حيا لما منعوا من حقهم ، بل لوصل إليهم حقهم موفورا غير منقوص .
وهذا هو عروة بن الورد الملقب بأبى الصعاليك يقول عن نفسه :
إنى امرؤ عافى إنائى شركة
وأنت امرؤ عافى إنائك واحد
أتهزأ منى أن سمنت وأن ترى
بوجهى شحوب الحق والحق جاهد
أقسم جسمى فى جسوم كثيرة
وأحسوا قَراح الماء والماء بارد
يقول : إنه لا يأكل طعامه وحده ، فهذا عمل البخيل ، لكنه لما كان من الكرم بالمحل الأسمى والمنزل الأعلى لهذا لا يخلوا بإنائه وحده ، بل لابد أن يكون على خوانه من يأكل معه ، لهذا بدت الشحوب على وجهه ، وما أجمل قوله أقسم جسمى فى جسوم كثيرة ، فكأنه يقتطع من جسمه ليطعم الآخرين .
هذه الكلمات جعلت الخليفة الأموى عبد الملك بن مروان يقول : ما تمنيت أن أحدا ممن لم يلدنى قد ولدنى إلا عروة بن الورد لهذه الأبيات .
وانظر إلى هذه الأبيات الرائقة التى نسبت لحاتم الطائى ، وقيل بل هى لمسكين الدارمى وهما جاهليان ، يقول الشاعر:
نَارِي وَنَــارُ الْجَارِ وَاحِدَةٌ
. وَإِلَيْهِ قَبْلِي تَنْزِلُ الْقِدْرُ
مَـا ضَرَّ جَـارًا لِي أُجَــاوِرُهُ
. أَنْ لَا يَكُونَ لِبَابِهِ سِتْرُ
أَعْمَى إذَا مَا جَارَتِي بَرَزَتْ
. حَتَّى يُوَارِي جَارَتِي الْخدْرُ
فانظر إلى المحافظة على حرمة الجار ، ورعاية حريمه ، والبعد عن التلصص على نساء الجيران ، وقارن هذا بما ترى من تدن فى الأخلاق فى شباب اليوم وشيبتهم .
إن المتدبر فى أمر صعود نجم الحضارات وأفولها يرى أنه ما قامت حضارة إلا على خلق حسن ، وبمقدار مافى الحضارة من خلق حسن يكون استمرار هذه الحضارة ودوامها ، ومحال أن تقوم حضارة بدون خلق حسن ، إذ الخلق الحسن هو الصمام الحافظ للحضارات من الإنهيار ، وإنما تظل الحضارة قائمة بمقدار ما بقى فيها من خلق حسن فإذا مافسدت الأخلاق انهارت الحضارات ، ولقد بين النبى صلى الله عليه وسلم هذا المعنى فيما رواه ابن ماجة فى سننه من حديث أبى سعيد الخدرى قال : جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يتقاضاه دينا كان عليه فاشتد عليه حتى قال له أحرج عليك إلا قضيتني فانتهره أصحابه وقالوا ويحك تدري من تكلم قال إني أطلب حقي فقال النبي صلى الله عليه وسلم هلا مع صاحب الحق كنتم ثم أرسل إلى خولة بنت قيس فقال لها إن كان عندك تمر فأقرضينا حتى يأتينا تمرنا فنقضيك فقالت نعم بأبي أنت يا رسول الله قال فأقرضته فقضى الأعرابي وأطعمه فقال أوفيت أوفى الله لك فقال أولئك خيار الناس إنه لا قدست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع.
فانظر إلى قول النبى صلى الله عليه وسلم إنه لا قدست أمة يأخذ فيها الضعيف حقه غير متعتع ، فهو يبين لك المعنى الذى سقناه لك وهو أن الفساد الأخلاقى نذير انهيار للحضارات ، وهو السوس الذى ينخر فى بنيان الحضارات ، ولا بقاء لحضارة قوم قد فسدت أخلاقهم ، بل باطن الأرض خير لهم من ظاهرها .
وإذا أصيب القوم فى أخلاقهم
فأقم عليهم مأتما وعويلا
أسأل الله عزوجل أن يهدينا لأحسن الأخلاق ، وأن يصرف عنا سيئها ، إنه ولى ذلك والقادر عليه .
كتبه
المعتز بالله الكامل
المعتز بالله الكامل محمد علي
إمام وخطيب بوزارة الأوقاف المصرية
- التصنيف: