أعني على نفسك بكثرة السجود

منذ 2021-03-04

فإذا قام بكثرة السجود التي أوصاه بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإنه حرى بأن يكون مرافقاً للرسول -صلى الله عليه وسلم- في الجنة.

{بسم الله الرحمن الرحيم }
أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي سلمة قال: سمعت ربيعة بن كعب الأسلمي يقول: «كنت أبيت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- [ [على باب بيته لأداء خدمته] ] فَأَتَيْتُه بوَضُوئِهِ وبحاجَته. فقال: (سلني) [ [حاجة أتحفك بها في مقابلة خدمتك] ] فقلت: مُرًافَقَتَكَ في الجنة. قال: (أَوَ غَيْرَ ذَلك؟) قلت: هو ذاك. قال: (فأعني على نفسك بكثرة السجود)» .[مسلم]

 

**  ربيعة بن كعب بن مالك الأسلمي، أبو فراس، الصحابي، خادم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حضراً وسفراً، ومن أهل الصُّفة، رضي الله عنه.

قال أبو نعيم: كان من أحلاس المسجد، ومن الملازمين لخدمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وله بأهل الصفة اتصال، روي عنه قال: كنت أبيت على باب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأعطيه الوضوء فأسمعه من الهويّ بالليل يقول: (سمع الله لمن حمده) وللهويّ من الليل يقول: (الحمد رب العالمين)

رُوي له عن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- اثنا عشر حديثاً، روى له مسلم حديثاً واحداً وهو هذا الحديث، ورواه البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود.

** قوله: (أو غير ذلك؟) .. أي أن تسألني غير ذلك. أراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يعرف مدى تصميمه على ما سأل.

** قوله: (أسألك مرافقتك في الجنة) أي: أن أكون معك فيها قريباً منك متمتعاً بنظرك وقربك حتى لا أفارقك، فلا يشكل حينئذٍ بأن منزله «الوسيلة» وهي خاصة به عن سائر الأنبياء فلا يساويه في مكانه منها نبيّ مرسل فضلاً عن غيرهم .. لأن المراد أن تحصل له مرتبة من مراتب القرب التام إليه، فكنى عن ذلك بالمرافقة.

** فإذا رأيت رجلاً تتوسم فيه الخير، وسألته أن يسأل الله لك، وصرت أنت وهو تدعوان الله سبحانه، فهذا مظنة الإجابة، وروي أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- عندما جاءه عمر -رضي الله عنه- وقال: كنت نذرت اعتكاف ليلة في الجاهلية، ولم أوف بنذري، فقال: أوفِ بنذرك يا عمر! فلما أراد الخروج قال له النبي: (لا تنسنا من دعائك يا أخي!) أي: من دعائك هناك عند الكعبة، فلا مانع في ذلك.

** هذا الصحابي الجليل في بعض أخباره أنه خدم النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكافئه، تقديراً لعمله، قال: ستعطيني إياه؟ قال: نعم، قال: أمهلني، فرجع إلى زوجته وأخبرها أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد طلب منه أن يسأله أي شيء مكافأة له، قالت: أو يفعل؟ قال: سألته فقال: نعم، قالت: سله مرافقته في الجنة.

لم تقل -رضي الله عنها-: سله عملاً أو منصباً أو مالاً !!

لكن ما هو الذي يخصها من مرافقة زوجها للنبي -صلى الله عليه وسلم- في الجنة؟ فلو سأل مالاً أو منصباً يمكن أن تحصل على شيء منه، لكن نقول: فعلت ذلك لأحد أمرين:

1/ إما من باب: النصح لله ولرسوله ولعامة الناس، وهذا من صلاح الزوجة وبركتها ووفائها لزوجها، أنها تحب له أقصى ما يمكن، فآثرت مصلحته على نفسها، ووجهته التوجيه العالي، فكم من امرأة أعقل من عشرات الرجال!

2/ وإما من جانب آخر: وذلك أنها ستدخل في قوله تعالى: { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ } [الطور:21] إذاً: تكون الزوجة ملحقة بالزوج إذا رفع إلى أعلى مراتب الجنة، وإذا دخل الجميع الجنة مع تفاوت مراتبهم، فيلحق الله تعالى الزوجة إلى مرتبة الزوج لتقر أعين الآباء بالأبناء والأزواج بالزوجات.

** قوله: (أعني) حينئذٍ (على نفسك) المتخلفة بطبعها عن السعي في نيل المعالي لميلها إلى الدعة والرفاهية والشهوات والبطالات، وفي قوله: «أعني» إشارة إلى أنه -صلى الله عليه وسلم- كان مجتهداً في إصلاحه كغيره، وأنه كالطبيب الساعي في شفائه، والطبيب يحتاج لمساعدة المريض بتعاطيه ما يصفه له (بكثرة السجود) المحصل لنيل مرتبة القرب المطهر للنفس عن خبائثها، المخرج لها عن شهواتها وعاداتها، المبعد لها عن النقائص، كما أنه يؤدي إلى دوام المراقبة فيحصل الرقي إلى المرافقة والمجاورة.

** والصحابي -رضي الله عنه- لم يطلب مجرد دخول الجنة، بل طلب مرافقة النبي -صلى الله عليه وسلم- فيها، وهذه مسألة غير عادية، فمراتب النبيين وعباد الله المكرمين شيء عال، فقال له -صلى الله عليه وسلم-: (أو غير ذلك؟) اسأل مالاً أعطيك، اسأل منصباً أوليك، قال: هو ذاك، فتمسك الرجل بوعد رسول الله.

** انظروا إلى سماحة وسعة هذا الدين، لم يقل له أنا أضمن لك هذا، بل وجهه إلى ما يفعله هو، قال: (أعني على نفسك بكثرة السجود) أي يمكن أن يكون لك ما أردت بمساعدة من عندي، بما له -صلى الله عليه وسلم- من حق الشفاعة، وبما له عند الله من جاه وطلب وبر، ومن استجابة دعوة، ولكن أرشده إلى أمر فقال: (أعني على نفسك بكثرة السجود)

** في الحديث دليل على أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا يملك أن يدخل أحداً الجنة، ولهذا لم يضمن لهذا الرجل أن يعطيه مطلوبه، ولكنه قال له: فأعني على نفسك بكثرة السجود فإذا قام بكثرة السجود التي أوصاه بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإنه حرى بأن يكون مرافقاً للرسول -صلى الله عليه وسلم- في الجنة.

** والسجود هنا بمعنى «الصلاة». وليس المقصود السجود بدون صلاة، وإنما يصلي؛ لأن الصلاة يطلق عليها سجود، ويقال للركعة: سجدة، كما في قوله تعالى: {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} [ق:40] يعني: أدبار الصلوات.

** حمل أهل العلم (كثرة السجود) على «الصلاة نفلاً» فجعل الحديث دليلاً على التطوع، وكأنه صرفه عن الحقيقة كون السجود بغير صلاة غير مرغب فيه على انفراده، والسجود وإن كان يصدق على الفرض، لكن الإتيان بالفرائض لا بد منه لكل مسلم، وإنما أرشده -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- إلى شيء يختص به ينال به ما طلبه

فكثرة السجود توحي بزيادة سجود مطلقة سواء كانت راتبة مع الفريضة، أو كانت غير راتبة كسنة مطلقة غير مقيدة لا بزمان ولا بمكان .. وهذا -كما هو معلوم- له ولغيره.

**قال أهل العلم: فمن كثر سجوده حصلت له تلك الدرجة العلية التي لا مطمع في الوصول إليها بمزيد الزلفى عند الله في الدنيا إلا بكثرة السجود المشار إليه بقوله تعالى: {واسجد واقترب} (العلق:19) فكل سجدة فيها قرب مخصوص لتكفلها بالرقى إلى درجة من درجات القرب، وهكذا حتى ينتهي إلى درجة المرافقة لحبيبه -صلى الله عليه وسلم-،

كما قال تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} [آل عمران:31] فدل على أن القرب من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يحصل إلا بالقرب من الله تعالى، وأن القرب من الله تعالى لا ينال إلا بالقرب من رسوله. فالقربان متلازمان لا انفكاك لأحدهما عن الآخر البتة: ومن ثم أوقع تعالى في الآية «متابعة رسوله» بين تلك المحبتين ليعلمنا أن محبة العبد ومحبته للعبد متوقفتان على متابعة رسوله.

** لا شك في أن الوقت الذي فيه الإتيان بالصلاة على وجه أكمل هو الليل، والحديث يشمل الصلاة في الليل وغير الليل، ولا يختص بالليل، ولكن الصلاة في الليل لها فضيلة ومزية، ولهذا أورده أبو داود رحمة الله عليه فيما يتعلق بصلاة الليل، ولكنه لا يختص بذلك، بل يمكن أن الإنسان يصلي في الضحى، ويصلي بعد الظهر وبعد المغرب، وفي كل الأوقات التي تجوز الصلاة فيها.

** من نعمة الله تبارك وتعالى أنه شرع لعبادة سننا من جنس الفرائض فالصلوات المفروضة لها تطوع: سنن، والزكاة لها تطوع: صدقة، والصيام له تطوع: صوم النافلة، والحج له تطوع [كحديث الجلوس حتى شروق الشمس]، الجهاد له تطوع [الحج جهاد لا شوكة فيه]، وذلك أن الإنسان لا يخلو من تقصير في الواجبات فجعل الله تعالى هذا التطوع جبرا لما يحصل من التقصير، ومن نعمة الله تعالى أن شرع لعباده هذا التطوع ليزدادوا عملا صالحا ولتجبر به فرائضهم فلله الحمد والمنة.

** كثرة التطوع تؤهل إلى مرافقة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد جاء عنه -صلى الله عليه وسلم- فيمن يكون قريباً منه في الجنة، أنه قال: (أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة)، وقال: (أقربكم مني منزلاً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً)، (أكثروا من الصلاة عليَّ يوم الجمعة ...) فهناك مميزات وأعمال تدني من تلك الدرجة الشريفة.

** الأعمال تتفاضل فطلب العلم أفضل من صلاة النافلة لأن طلب العلم من الجهاد في سبيل الله .. قال الإمام احمد -رحمه الله تعالى-: "تذاكر ليلة أحب إلى من قيامها" يعني التذاكر في العلم أحب إل] من قيامها، ولكن إذا كان الإنسان ليس أهلا لطلب العلم لعدم فهمه أو لعدم حفظه أو ما أشبه ذلك فالصلاة خير والله الموفق

 

جمع وترتيب

د/ خالد سعد النجار

alnaggar66@hotmail.com

 

خالد سعد النجار

كاتب وباحث مصري متميز