إنما الدنيا لأربعة نفر
وقلما قام غني بحق المال، فلا يقوم بحق المال إلا أفذاذ الرجال، ولذلك تنازع العلماء أيهم أفضل، الفقير الصابر أم الغني الشاكر
{بسم الله الرحمن الرحيم }
روى الترمذي عن أَبي كَبْشَةَ الأَنَّمَارِيّ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ( «ثَلاَثَةٌ أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا فَاحْفَظُوهُ قَالَ: مَا نَقَصَ مَالُ عَبْدٍ مِنْ صَدَقَةٍ، وَلاَ ظُلِمَ عَبْدٌ مَظْلِمَةً فَصَبَرَ عَلَيْهَا إِلاَّ زَادَهُ اللَّهُ عِزًّا، وَلاَ فَتَحَ عَبْدٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ إِلاَّ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا» ).
وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا فَاحْفَظُوهُ قَالَ: ( «إِنَّمَا الدُّنْيَا لأَرْبَعَةِ نَفَرٍ: عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَعِلْمًا فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالاً فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلاَنٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا، فَهُوَ يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ لاَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَلاَ يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَلاَ يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَخْبَثِ الْمَنَازِلِ، وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالاً وَلاَ عِلْمًا فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالاً لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلاَنٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ» )... [قال الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ] .
هذا التقسيم لأحوال الناس في الدنيا من أبدع التقسيمات التي لا يخرج عنها البشر أبدا .. قسم هو أفضل المنازل، وقسم آخر أخبث المنازل، والثاني والرابع تبع لهما.
والذي رفع الرجل الأول وحط الرجل الثالث هو «العلم»، فالأول غني ثري، هداه علمه لمراعاة الله تعالى في ماله، والثالث كان جهله قائدا له إلى هلكة ماله في الباطل، والثاني نجا بالعلم، والرابع هلك بالجهل، وفي هذا إشارة إلى فضل العلم على المال.
ولا يشترط للمرء الغني أن يكون عالما، بل يمكن أن يتعلق بعالم إن كان لا يعلم، فالمال لا يمدح وحده دون علم، قال -صلى الله عليه وسلم-: ( «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا، فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها» ) [رواه النسائي]
ففي الحديث قيد فضل الغني بإنفاقه المال في «الحق» وهذا يستلزم علما وبصيرة بما يرضي الله تعالى في الإنفاق في الحق، فبالعلم وحده يفرق المرء بين الحق والباطل.
قال أبو مسلم الخولاني: "مثل العلماء في الأرض مثل النجوم في السماء، إذا بدت للناس اهتدوا بها، وإذا خفيت عليهم تحيروا".
ولما حضرت أبي الإمام البخاري الوفاة، وقد كان تاجرا، قال له: يا بني تركت لك ألف ألف، ما أعلم فيها شبهة .. فقال هذا لأنه كان مصاحبا للعلماء، فانتفع بهم في التمييز بين الحلال الحرام، لذلك لما ترجم البخاري لوالده، قال: رأى حماد بن زيد، وصافح ابن المبارك بكلتا يديه .. وقد قالوا عن حماد بن زيد: لو قيل له القيامة غدا، ما قدر أن يزيد في عمله شيئا.
وكفى بالعلم شرفا، علو الذكر في الدنيا والآخرة، وطيب الثناء عبر القرون، فالتاريخ لم يذكر لنا أسماء الأغنياء في زمان مالك أو الشافعي أو البخاري أو الترمذي .. وإنما ذكر لنا الأفذاذ، الذين نترضى عنهم صباح مساء.
وخص في الرجل الأول «صلة الرحم» لعظم قدرها، فخصص بعد عموم .. قال –صلى الله عليه وسلم-: ( «أفضل الصدقة، الصدقة على ذي الرحم الكاشح» ) [صحيح الجامع:1110]
الكشح: جانب البطن، قال الزمخشري: "هو الذي يضمر العداوة ويطوي عليها كشحه. أو الذي يطوي عنك كشحه ولا يألفك". قال ابن الأَثير : وسُمِّيَ العَدُوُّ كاشحاً لأَنّه وَلاّكَ كَشْحَه وأَعْرَضَ عنك.
والمقصود أفضل الصدقة على ذي الرحم المضمر العداوة في باطنه، فالصدقة عليه أفضل منها على ذي الرحم الغير كاشح، لما فيه من قهر النفس للإذعان لمعاديها، وعلى ذي الرحم المصافي أفضل أجراً منها على الأجنبي لأنه أولى الناس بالمعروف.
وقال –صلى الله عليه وسلم-: ( «صدقة ذي الرحم على ذي الرحم صدقة وصلة» ) [صحيح الجامع:3763]
ففيها أجران بخلاف الصدقة على الأجنبي، ففيها أجر واحد، وفيه التصريح بأن العمل قد يجمع ثواب عملين لتحصيل مقصودهما به فلعامله سائر ما ورد في ثوابهما بفضل اللّه تعالى ومنته.
أما الرجل الثاني فهو «صادق النية» كما وصفه -صلى الله عليه وسلم-، والنية عبادة مستقلة لا تفتقر لغيرها من العبادات، أما سائر العبادات فتفتقر إلى النية، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه) [البخاري وسلم] أي لا عمل إلا بنية.
فقوله -صلى الله عليه وسلم-: «فهجرته إلى الله ورسوله» تكرار للتوكيد ولإعلاء شأن حسن القصد.
وقوله: (ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها) تخصيص بعد تعميم، لأن المرأة من الدنيا، لكنه خص ذكر المرأة لعظم الفتنة بها، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: (ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء) [رواه مسلم]، وقال: «ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن» [البخاري]
وقال تعالى حكاية عن يوسف: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف:33] أي أميل إليهن، يقال أصباني فصبوت أي حملني على الجهل وعلى ما يفعل الصبي ففعلت. [التبيان، تفسير غريب القرآن]
(ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها) لا يستشكل في هذا قصة زواج أم سليم، وخبرها أنه لما مات زوج أم سليم رضي الله عنها، جاءها أبو طلحة الأنصاري خاطبًا فكلمها في ذلك، فقالت: يا أبا طلحة، ما مثلك يرد، ولكنك امرؤ كافر وأنا امرأة مسلمة لا يصلح لي أن أتزوجك. فقال: ما ذاك دهرك! (ما هذه عادتك)، قالت: وما دهري؟ قال: الصفراء (الذهب) والبيضاء (الفضة)، قالت: فإني لا أريد صفراء ولا بيضاء، أريد منك الإسلام، فإن تسلم فذاك مهري، ولا أسألك غيره، قال: فمن لي بذلك؟ قالت: لك بذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فانطلق أبو طلحة يريد النبي -صلى الله عليه وسلم- ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس في أصحابه، فلما رآه قال: ( «جاءكم أبو طلحة غرة الإسلام بين عينيه» )، فأخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بما قالت أم سليم، فتزوجها على ذلك.
قال ثابت البناني، راوي القصة عن أنس: فما بلغنا أن مهرًا كان أعظم منه أنها رضيت الإسلام مهرًا.
قال العلماء: إذا تزاحمت نيتان فأولاهما أسبقهما، وإنما سبقت نية أبو طلحة للإسلام نيته للزواج، بدليل قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ( «جاءكم أبو طلحة غرة الإسلام بين عينيه» ).
وقوله (فهجرته إلى ما هاجر إليه) ولم يخصص أو يعين إمعانا في التحقير والازدراء، كما قال تعالى: { {قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} } [يوسف:75] أي افعلوا به ما يستحقه، وهذا أبلغ في العقوبة.
وكقوله تعالى: { {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} } [النساء:100] ولا شك أن من وقع أجره على الله: أن الله يرزقه الرزق الحسن كما لا يخفى.
قال أبو حيان: "وهذه مبالغة في ثبوت الأجر ولزومه، ووصول الثواب إليه فضلاً من الله وتكريماً، وعبر عن ذلك بالوقوع مبالغة". [البحر المحيط]
وقلما قام غني بحق المال، فلا يقوم بحق المال إلا أفذاذ الرجال، ولذلك تنازع العلماء أيهم أفضل، الفقير الصابر أم الغني الشاكر، والكثير منهم على أن الغني الشاكر أفضل، لأن صبر الفقير اضطراري، وشكر الغني اختياري وهو قليل.
جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار
alnaggar66@hotmail.com
خالد سعد النجار
كاتب وباحث مصري متميز
- التصنيف: