مكارم الأخلاق - (3) علو الهمة

منذ 2021-09-21

"علو الهمة"، التي تميز النفوس العالية من السافلة، وتدفع إلى العمل الشريف، ونبذ الكسل والتواني.

سبق معنا في الحلقتين الماضيتين حديث عام حول موقع الأخلاق والآداب في الإسلام، وعرفنا أهمية هذا الجانب في صلاح الأمة الإسلامية، واستقامتها على الصراط السوي، الذي أمر به الله عز وجل في قوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}  [الأنعام: 153].


ونود اليوم - إن شاء الله - وضمن "سلسلة مكارم الأخلاق"، أن نفصل في بعض هذه الأخلاق، وسنبدأ بصفة جليلة، عليها مدار النجاح، وفي كنفها سبيل الفلاح، إنها صفة "علو الهمة"، التي تميز النفوس العالية من السافلة، وتدفع إلى العمل الشريف، ونبذ الكسل والتواني.

وعلو الهمة - كما شرحه أهل العلم -: هو استصغار ما دون النهاية من معالي الأمور.

ولا شك أن أعظم ما تبلِّغك همَّتُك أن تنجح في امتحان الآخرة، وتفوز بجنة الرضوان، وتكون في كنف عرش الرحمن؛ قال تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء: 19].


قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "ارتحلَتِ الدنيا مدبرة، وارتحلت الآخرة مقبلة، ولكل واحدة منهما بَنُون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل"؛ رواه البخاري.


فالمسلم لا ترضى همته بما دون الجنة؛ ولذلك يُكثِر من الطاعات، ويضاعف فعل الخيرات؛ ليرضي رب الأرض والسموات؛ قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}  [آل عمران: 133]، وهم أصحاب الهمم العالية، وقال تعالى في بيان حقيقة الرجال: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور: 36، 37]، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى يحب معالي الأمور وأشرافها، ويكره سفسافها» - حقيرها -)؛ "ص. الجامع"، ويقول صلى الله عليه وسلم: «إن قامت الساعة، وفي يد أحدكم فسيلة [النخلة الصغيرة]، فإن استطاع ألا تقوم حتى يغرسها، فليغرسها»؛ "ص. الأدب المفرد"؛ بل يأمرنا نبينا صلى الله عليه وسلم إذا ما سألْنا اللهَ تعالى أن تكون هممنا في المسألةِ عظيمةً، يقول - صلى الله عليه وسلم -: «إذا سألتم الله، فاسألوه الفردوس؛ فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، فوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة»   (البخاري).

ومع ذلك، بيَّن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أن مِن الناس مَن يخلد إلى الدعة والراحة، ويعتقد أن النجاح على جناح الكسل، وأن الفوز منوط بالخمول، وليس الأمر كذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «تجدون الناس كإبل مائة، لا يجد الرجلُ فيها راحلة» (الصالحة للركوب)))؛ مسلم.

يعيش الواحد منا خمسين سنة، أو ستين، أو سبعين، وأعمار الناس، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما بين ستين إلى سبعين، وأقلهم من يجوز ذلك»؛ "ص. الترمذي"، وعند البخاري: «أعذر الله إلى امرئ أخَّر أجلَه حتى بلغ ستين سنة»، وعند الترمذي بسند حسن، يقول - عليه الصلاة والسلام -: «خير الناس مَن طال عمره، وحسُن عمله، وشر الناس مَن طال عمره، وساء عمله»، أقول: من الناس من يعيش كل هذه السنين، فإذا تأمل، وجد أنه كان يأكل ويشرب وينام، ولسان حاله في الدنيا يقول:

إِنَّمَا الدُّنْيَا  طَعَامٌ  وَشَرَابٌ  وَمَنَامُ ♦♦♦ فَإِذَا فَاتَكَ هَذَا فَعَلَى الدُّنْيَا السَّلاَمُ

 

وفي الآخرة يقول: {يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر: 56]، ويقول: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} [النساء: 73]، سأل معاوية بن أبي سفيان صعصعة بن صوحان - وكان من حكماء العرب - فقال: "يا ابن صوحان، صف لي الناس، فقال: خلق الله الناس أطوارًا: فطائفة للسيادة والولاية، وطائفة للفقه والسنة، وطائفة   للبأس والنجدة، وطائفة رِجرِجة بين ذلك، يُغلون السعر، ويُكَدِّرون الماء، إذا اجتمعوا ضروا، وإذا تفرقوا لم يُعْرفوا".


قال أحد الصالحين: "همتَك فاحفظها؛ فإن الهمة مقدمة الأشياء، فمَن صلَحت له همته، وصدق فيها، صلح له ما وراء ذلك من الأعمال"، وهل تعتقد أن نيل المنى يتم بغير تعب ولا نصب، وأن الذين اشتهروا بالعبادة والصلاح، أو بالمراكز العالية المرموقة كانوا ساكنين خاملين؟ كلاَّ، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من خاف أدلج [سار من أول الليل؛ أي: شمر في الطاعة] ومَن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة»  "ص. الترمذي".

أَحْزَانُ قَلْبِي لاَ تَزُولْ   ***   حَتَّى أُبَشَّرَ بِالقَبُـــــولْ 

وَأَرَى كِتَابِي بِاليَمِينْ   ***   وَتُسَرَّ عَيْنِي بِالرَّسُـولْ 

 

يقول ابن ناصر السعدي رحمه الله في "تفسيره": "كلما عظم المطلوب، عظمت وسيلته، فلا تنال الراحة إلا بترك الراحة، ولا النعيم إلا بترك النعيم".

بَصُرْتَ بِالرَّاحَةِ الكُبْرَى فَلَمْ تَرَهَا ♦♦♦ تُنَالُ إِلاَّ  عَلَى  جِسْرٍ  مِنَ  التَّعَبِ

 

فيا أيها الشباب الذين شغلوا زهرة عمرهم باللهو والخفة، واهتبال النزوات، واقتناص الشهوات:

ارفعوا من هممكم، وارفعوا هاماتكم، فالكسل قرين الخفوق، والخمول قرين الرسوب، قال أبو زيد: "ما زلت أقود نفسي إلى الله وهي تبكي، حتى سقتها وهي تضحك"، وقال محمد بن عبدالباقي: "ما أعلم أني ضيعت ساعة من عمري في لهو أو لعب"، ولما سئل الشعبي رحمه الله: من أين لك هذا العلم كله؟ قال: "بنفي الاعتماد، والسير في البلاد، وصبر كصبر الجماد، وبكور كبكور الغراب".


واسمع يا من يتكاسل عن صلاة الصبح، ويتأخر عن الصلوات الأخرى، فلا يدخل المسجد إلا وهو يلهث من السرعة، يدرك ركعة أو ركعتين، من غير خشوع ولا تدبُّر، هذا وكيع يقول: "كان الأعمش قريبًا من سبعين سنة، لم تفُتْه التكبيرةُ الأولى، واختلفتُ إليه أكثر من ستين سنة، فما رأيته يقضي ركعة"؛ {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ}  [الأحقاف: 35]، وقد قيل للإمام أحمد: "متى يجد العبد طعم الراحة؟ فقال: عند أول قدم في الجنة".

إِذَا مَا مَضَى يَوْمٌ  وَلَمْ  أَصْطَنِعْ  يَدًا ♦♦♦ وَلَمْ أَقْتَبِسْ عِلْمًا فَمَا هُوَ مِنْ عُمْرِي

 

تظهر قيمة علوِّ الهمَّة في محاربة البَطالة والفراغِ القاتل، ومقاومة الإحساسِ باليأس والاكتئاب، الذي يغذيه شعار الوجوديين: "لا حَل إلا اليأس"، وهو ما يفسر حدوث انتحار في العالم كل 40 ثانية، ففي العالم ما يقارب 200 مليون عاطل، في العالم العربي منهم ما يقارب 30 مليونًا، ويتوقع أن يضاف إليهم 51 مليونًا آخرين في سنة 2009؛ بسبب الأزمة المالية، فكانت النتيجة أن تعاظَم الإحساس بالحقد وحب الانتقام، فكثرت الجرائم، والاعتداء على ممتلكات الغير.


فالدراسات الوطنية الرسمية تقول: إن عدد قضايا الإجرام خلال الأشهر السبعة الأولى من سنة 2008، فاق عدد جرائم 2007 كاملة، وبلغ قرابة 220000 جريمة، ليس لها من مسوغ إلا أن بعض الشباب أرادوا الوصول إلى النجاح بالطرق الحرام، وتركوا طرق الحلال؛ حتى مَن أنعم الله عليهم بالوظيفة، لم يقنعوا بما في أيديهم، فطلبوا ما في أيدي الناس، وعلى الرغم من تشريع 300 قانون لمحاربة الغش في المغرب، نجد أن 6 % من مجموع المعاملات المالية هي معاملات غش، والرسول - صلى الله عليه وسلم - يحذر ويقول: «مَن غشَّنا فليس منا»؛ مسلم، ويقول - صلى الله عليه وسلم -: «والمكر، والخديعة، والخيانة في النار»؛ "ص. الترغيب".

وسَجلت وزارة التربية الوطنية أن غياب الموظفين وصل إلى مليوني يوم غياب بمسوغ، وبلا مسوغ، مما كلف الدولة 50 مليار سنتيم، وهو ما يعادل ميزانية بناء 100 مؤسسة تعليمية.

إن همة المسلم تدفعه ليرضى بالحلال وإن كان قليلاً، وينفر من الحرام وإن كان كثيرًا؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ازهد في الدنيا، يحبَّك الله، وازهد فيما في أيدي الناس، يحبَّك الناس» "ص. ابن ماجه".

المقال السابق
(2) حسن الخلق
المقال التالي
(4) من همم الكبار