ومضات في تربية الأولاد

منذ 2021-10-17

الذريةُ عطاءٌ من اللهِ كريمٌ؛ يُمتحَنُ به إيمانُ المرءِ؛ شُكرًا، وصبرًا، وقيامًا بواجبِ المسؤوليةِ التي قلَّدَها اللهُ عنقَ كلِّ والدٍ؛ فهو عطاءٌ مسؤولٌ..

الذريةُ عطاءٌ من اللهِ كريمٌ؛ يُمتحَنُ به إيمانُ المرءِ؛ شُكرًا، وصبرًا، وقيامًا بواجبِ المسؤوليةِ التي قلَّدَها اللهُ عنقَ كلِّ والدٍ؛ فهو عطاءٌ مسؤولٌ، كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «كُلُّكُمْ رَاعٍ فَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ؛ فَالأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسؤولٌ عَنْهُمْ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْؤولٌ عَنْهُمْ، وَالمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ وَهِيَ مَسْؤولَةٌ عَنْهُمْ، وَالعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْؤولٌ عَنْهُ، أَلَا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» (رواه البخاريُّ ومسلمٌ).

 

ووعْيُ هذه المسؤوليةِ، واستشعارُ حسابِها بين يدي العليمِ الخبيرِ - خيرُ ما يَحمِلُ الوالدَ على القيامِ بها، وتحمُّلِ رَهَقِها الذي فاقَ كلَّ رَهَقٍ، سيما في عصرِ بروزِ الشبهاتِ، ورواجِ الشهواتِ، ودنوِّ الشرورِ، وترهُّلِ الترفِ وتصدُّرِ التافهين وخفوتِ القدواتِ، وانشغالِ الوالدِ بأعباءِ تحصيلِ سُبلِ المعيشةِ، خاصةً إنْ شحَّتْ؛ مما لا يزيدُ رهقَ التربيةِ إلا شدةً وعناءً.

 

غيرَ أنَّ مِن رحمةِ اللهِ وسنتِه في عبادِه المؤمنين أنْ يُنْزِلَ عليهم مع البلاءِ ما يُسرِّي عنهم، ويُعينُ عليه، ويخففُ من وطْأتِه، ويُشعرُهم بضعفِهم وعظيمِ فقرِهم وحاجتِهم إليه، فيوسعُ عليهم رحابةَ فضاءِ الرجاءِ عند ضيقِ أسبابِ الأرضِ أو انعدامِها أو ضعفِها، ويبارِكُ تلك الأسبابَ، أو يُحدِثُ غيرَها، كما باركَ ضربةَ العصا لتفلقَ بحرًا متلاطمًا؛ إنجاءً لموسى عليه السلام وقومِه، وإغراقًا للظالمين.

 

وكان ذا منهجَ الأنبياءِ في الأزماتِ؛ إذ يبلغُ تفاؤلُهم ذراه عندما يبلغُ البلاءُ ذراه؛ فليس بعد الشدةِ إلا الفرجُ، وليس بعد اشتدادِ حُلْكَةِ الليلِ إلا انبلاجُ الفجرِ؛ فالقيامُ بمسؤوليةِ التربيةِ حسبَ الوسعِ، واستصحابُ عظمِ جزائِها، واستجداءُ اللهِ إعانتَه وتوفيقَه، والصبرُ لحكمِه - ضمانةٌ لتخطي عنائِها بأجرٍ موفورٍ، وبراءةِ ذمةٍ، وحُسنِ عاقبةٍ، وطمأنينةٍ تملأُ فؤادَ الوالدِ وإنْ فتَّتَه مرارةُ انحرافِ ولدِه، وأوحشَه سيلُ الفتنِ الهادرُ.

 

عبادَ اللهِ!

إنَّ مسؤوليةَ التربيةِ تحمِلُ الوالدَ على الأخذِ بالأسبابِ الممكنةِ التي تُفضي بأمرِ اللهِ إلى رُشدِ الولدِ وصلاحِه، وأساسُها الذي تقومُ عليه تعبُّدُه لربِّه بتربيةِ ولدِه وتوكلُّه عليه؛ حين فوَّضَ أمرَه إليه، واثقًا بإعانتِه وحُسنِ تدبيرِه، وملازمًا أدبَ الصبرِ لحكمِه، وانتظارِ فرجِه، متبرئًا مما سوى اللهِ؛ فإنَّ لهذِه الركيزةِ الراسخةِ أكبرَ الأثرِ في مباركةِ اللهِ لأيِّ جُهدٍ تربويٍّ مبذولٍ من الوالدِ.

 

وأعظمُ ذلك الجهدِ ملازمتُه عَتَبةَ الدعاءِ المضمونِ إجابتُه بقولِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «ثلاثُ دعواتٍ مستجاباتٌ لا شكَّ فيهنَّ: دعوةُ الوالدِ، ودعوةُ المسافرِ، ودعوةُ المظلومِ»  (رواه أبو داودَ وحسَّنه الألبانيُّ). قال مجاهدٌ: "دعوةُ الوالدِ لا تُحجبُ دونَ اللهِ عزَّ وجلَّ".

 

والدعاءُ عُدَّةُ الأنبياءِ والصالحين في تربيةِ أولادِهم؛ فقد دعا إبراهيمُ عليه السلامُ قائلًا: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ}  [إبراهيم: 35]، {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [إبراهيم: 40]، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يدعو قائلًا: «اللهمَّ باركْ لنا في أسماعِنا، وأبصارِنا، وقلوبِنا، وأزواجِنا، وذرياتِنا» (رواه أبو داودَ وصححه الألبانيُّ)، وكان يُعَوِّذُ الحسنَ والحسينَ، ويقولُ: «إنَّ أباكما كان يُعَوِّذُ بها إسماعيلَ وإسحاقَ: أعوذُ بكلماتِ اللهِ التامة، من كلِّ شيطانٍ وهامَّة، ومن كلِّ عينٍ لامَّة»  (رواه البخاريُّ).

 

شكا أبو معشرٍ ابنَه إلى طلحةَ بنِ مُصَرِّفٍ، فقالَ: استعنْ عليه بهذه الآيةِ: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} [الأحقاف: 15].

 

وكان للفُضَيلِ بنِ عياضٍ ابنٌ اسمُه عليٌّ، وكان يدعو له قائلًا: "اللهمَّ إني اجتهدتُ أنْ أؤدِّبَ عليًّا، فلم أقدرْ على تأديبِه؛ فأدِّبْهُ أنت لي"، فاستجابَ الله دعاءَه، وأصلَحَ ابنَه، ومات عليٌّ باكيًا وهو يستمعُ القرآنَ!

 

وتَجَسُّدُ القدوةِ في استقامةِ الوالدِ من أعظمِ ما يُجِلُّهُ في عينِ ولدِه، ويدفعُه نحوَه، ويُدْنيه منه، ويعودُ بالأثرِ الحَسَنِ عليه، كما كان عبادُ الرحمنِ يَجْأرونَ إلى اللهِ بإبلاغِهم نُزَلَ الاقتداءِ الرفيعَ، {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74].

 

واهتبالُ سِنِي الولدِ الأولى من عمرِه - إذ العُودُ ليِّنٌ طيِّعٌ، سيما زمن الفتنِ واضطرابِ المفاهيمِ - في زرعِ العقيدةِ الصحيحةِ، والأخلاقِ الحسنةِ، والقيمِ الحقَّةِ من ضرورةِ الاعتصامِ بالكتابِ والسُّنةِ بفهمِ السلفِ الصالحِ، والتحلِّي بخُلقِ الصبرِ والعفةِ والشجاعةِ والعدلِ؛ إذ هي أصولُ الأخلاقِ التي يتفرَّعُ منها غيرُها - كما قال ابنُ القيمِ -، والتذكيرُ بقوةِ الحقِّ وبقائِه وإن قلَّ أهلُه، وضَعْفِ الباطلِ وزوالِه وإن كَثُرَ أهلُه - مِن ألزمِ ما يلزمُ تعاهدُه في نفوسِ الناشئةِ؛ إذ هو أساسٌ راسخٌ يُشادُ عليه البناءُ التربويُّ، وغالبًا ما يعودُ إليه الولدُ وإنِ انحرفَ زمنًا؛ وبه يُعْلَمُ فَدْحُ جنايةِ الوالدِ على صغيرِه إنْ أهملَه بدايةَ عمرِه، وتركَه صيْدًا مهملًا لفتنِ الأجهزةِ الالكترونيةِ وأيدي المفسدين والعابثين والتافهين، ثم عادَ يشكو فسادَه وعقوقَه بعدما كَبِرَ!

 

واستغلالُ الوالدِ مُجرياتِ الحياةِ وأحداثِها في تربيةِ ولدِه، وتخوُّلُه بالموعظةِ الحسنةِ، وإحسانُ اختيارِ زمنِها، وتقصيرُ وقتِها، والاكتفاءُ بالإشارةِ إنْ أغنَتْ عن العبارةِ، وجودةُ ضربِ المَثَلِ لتقريبِ المعنى بالأمرِ المحسوسِ، والتدليلُ عليه بالدليلِ المقنِعِ، والتذكيرُ بضرورةِ الاعترافِ بالخطأِ، ودوامُ تجديدِ التوبةِ، وكثرةُ الاستغفارِ - كلُّ ذلك مما يُسهِمُ في توعيةِ الولدِ، وبناءِ جوانبِ الخيرِ فيه، وحفظِها، وترميمِ ما تصدَّعَ منها.

 

أيها المؤمنون!

وحتى تُؤتي التربيةُ ثمارَها؛ فإنه لا بدَّ للوالدِ من بناءِ علاقةٍ متميزةٍ مع أهلِ بيتِه؛ وذلك بأن يكونَ قريبًا منهم؛ ليفتحوا له قلوبَهم، ويبُثُّوا له همومَهم وما يعانونه في حياتِهم؛ لئلا يلجؤوا في بثِّها لمن لا تؤمَنُ غائلتُه؛ فيندمَ ولاتَ حينَ مَنْدَمٍ.

 

وسبيلُ ذلك القربِ أن يلازمَ الوالدُ خَصلةَ الرفقِ واللطفِ مع أهل بيتِه؛ فتلك أمارةٌ لإرادةِ اللهِ الخيرَ لأهلِ بيتِه، كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «يا عائشةُ، ارفقي؛ فإنَّ اللهَ إذا أراد بأهلِ بيتٍ خيرًا دلَّهم على بابِ الرفقِ»  (رواه أحمدُ وصححه الألبانيُّ).

 

ومما يقضيه خلقُ الرفقِ أن تكونَ للوالدِ عادةٌ في إهداءِ ما يحسنُ وإن قلَّ، وأنْ يتباسطَ في حديثِه مع أهلِ بيتِه، ويمازحَهم، ويشاركَهم لهوَهم المباحَ واهتماماتِهم وإن بدتْ هامشيةً، ويستشيرَهم مُظْهِرًا احترامَه لرأيِهم، وإعجابَه لصوابِهم، دون مصادمةٍ، أو تسفيهٍ، أو رفعِ صوتٍ، وإن أخطأ بادرَ بالاعتذارِ، وإن أخطَؤوا عليه بادَر بالصفحِ إن اعتذروا، وأن يلازمَ الصبرَ في احتمالِ نفارِهم وزلاتِهم، وأن يجعلَ لهم وقتًا كافيًا في الجلوسِ الإيجابيِّ معهم دون انشغالٍ بجهازٍ أو إظهارٍ للتبرُّمِ والمَلَلِ؛ متحدثًا إليهم، ومُحسنًا الإنصاتَ لهم.

 

وليس من بابةِ الرفقِ تركُ تعوديهم المسؤوليةَ، وإغداقُ العطاءِ بما يصلُ إلى الترفِ؛ بل ذاك سببٌ لفسادِ الخُلُقِ وضَعْفِ الشخصيةِ؛ قال زيدُ بنُ عليٍّ لابنِه: "يا بُنيَّ، إنَّ اللهَ لم يَرْضَك لي فأوصاك بي، ورضيني لك فحَذَّرنيك، واعلمْ أنَّ خيرَ الآباءِ للأبناءِ من لم يَدْعُهُ الحبُّ إلى التفريطِ، وخيرَ الأبناءِ للآباءِ مَن لم يَدْعُهُ التقصيرُ إلى العقوقِ".

 

وبعدُ - معشرَ الآباءِ والأمهاتِ - استعينوا باللهِ في عبادةِ التربيةِ، وأدمِنوا الدعاءَ لفلذاتِ الأكبادِ، واصبروا على مرارةِ الجَهْدِ وبطءِ النتيجةِ أو خفوتِها، وكونوا قدواتِ خيرٍ لهم، باذلينَ وسْعَكم في استصلاحِهم وكسْبِ قلوبِهم، وثِقُوا بأن اللهَ لن يضيعَ جهدَكم؛ إذ لا جزاءَ للإحسانِ عنده إلا الإحسانُ.