البدع المحدثة وآثارها السيئة

منذ 2021-12-19

من أهمِّ خصائص أهل السنة والجماعة تحذيرهم من المحدثات والبدع، سواء كانت في الاعتقاد أو العبادة أو السلوك، وذمُّهم لأهل البدع والأهواء والتحذير منهم، لا تأخذهم في الله تعالى لومة لائم. والحديثُ عن "البِدَع المُحْدَثة وآثارها السَّيِّئة" يُجمَع في أربعة مطالب:

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد:

من أهمِّ خصائص أهل السنة والجماعة تحذيرهم من المحدثات والبدع، سواء كانت في الاعتقاد أو العبادة أو السلوك، وذمُّهم لأهل البدع والأهواء والتحذير منهم، لا تأخذهم في الله تعالى لومة لائم. والحديثُ عن "البِدَع المُحْدَثة وآثارها السَّيِّئة" يُجمَع في أربعة مطالب:

المطلب الأول: تعريف البدعة.

المطلب الثاني: ضابط البدعة.

المطلب الثالث: التحذير من البدع.

المطلب الرابع: الآثار السيئة للبدعة.

 

 

المطلب الأول: تعريف البدعة:

البدعة في اللغة هي: من بَدَعَ. يقال: بَدَعَ الشيء يبدَعه بَدعاً وابتدعه: أنشأه وبدأه[1]. وأَبْدَعَ الشَّاعِرُ: أَتَى بالبَدِيعِ من القَوْلِ المُخْتَرَعِ على غَيْرِ مِثَالٍ سَابقٍ[2]. فالبدعة: هي الشيء المُحدَث المُختَرع على غير مثالٍ سابق، ومنه قوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة: 117][3].

 

ومن تعريفات البدعة في الاصطلاح ما جاء عن بعض المحقِّقين من أهل العلم:

1- عرَّف أبو شامة رحمه الله البدعةَ بأنها: (ما لم يكن في عصر النبيِّ صلى الله عليه وسلم مِمَّا فَعَلَه، أو أَقَرَّ عليه، أو عُلِمَ مع قواعد شريعته الإذن فيه، وعدم النكير عليه)[4].

 

2- وقال ابن تيمية رحمه الله: (البدعة: ما لم يشرَعْه الله من الدِّين، فكلُّ مَنْ دان بشيءٍ لم يشرعْه الله فذاك بدعة)[5]. وقال أيضاً: (البدعة في الدِّين: هي ما لم يشرعه اللهُ ورسولُه، وهو ما لم يأمر به أمرَ إيجابٍ ولا استحباب)[6]. وقال أيضاً: (البدعة: ما خالفت الكتابَ والسنةَ، أو إجماعَ سلفِ الأُمَّة من الاعتقادات والعبادات)[7].

 

3- وقال الشاطبي رحمه الله: (البدعة: طريقةٌ في الدِّين مخترعة تُضاهي الشرعية، يُقصد بالسلوك عليها المبالغة في التَّعَبُّد لله سبحانه)[8]. ولعلَّ تعريف الشاطبي من أوضح التعريفات؛ إذ أوضَحَ القصدَ منها، وهو التعبد لله تعالى، ولكنها ليست على منهج السنة التي شرعها الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ورغم عظمة المقصد وهو التعبد لله إلاَّ أنه لا يشفع للعمل بها؛ إذ أنَّ الله سبحانه لا يُعْبَدُ إلاَّ بما شاء وشرع.

 

المطلب الثاني: ضابط البدعة:

الأصل في ضوابط البدعة قوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» [9]. وقوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» [10].

 

قال النووي رحمه الله: (قال أهل العربية: الرَّد هنا بمعنى المردود، ومعناه: فهو باطلٌ غير معتدٍّ به، وهذا الحديث قاعدةٌ عظيمة من قواعد الإسلام، وهو من جوامع كَلِمِه صلى الله عليه وسلم؛ فإنه صريح في ردِّ كلِّ البدع والمخترعات، وفي الرواية الثانية زيادة، وهي: أنه قد يُعاند بعض الفاعلين في بدعة سُبِقَ إليها، فإذا احْتُجَّ عليه بالرواية الأُولى، يقول: "أنا ما أحدثتُ شيئاً!" فيُحْتَجُّ عليه بالثانية، التي فيها التَّصريح بردِّ كلِّ المحدثات؛ سواء أحْدَثَها الفاعلُ أو سُبِقَ بإِحداثها، وفي هذا الحديث دليل لمَنْ يقول من الأصوليين: أنَّ النهي يقتضي الفساد، وهذا الحديث مما ينبغي حِفْظُه واستعمالُه في إبطال المنكرات، وإشاعة الاستدلال به)[11].

 

ومما تقدَّم يظهر لنا جليًّا الضوابط التي تُعرف بها البدع، ويمكن حصرها في أمرين:

1- الإحداث في الدِّين.

2- ألاَّ يستند هذا الإحداث إلى أصل شرعي.

 

(فكلُّ مَنْ تعبَّد لله تعالى بشيءٍ لم يشرعه الله، أو بشيءٍ لم يكن عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون فهو مُبتَدِع، سواء كان ذلك التَّعبُّد فيما يتعلَّق بأسماء الله وصفاته أو فيما يتعلَّق بأحكامه وشرعه، وأمَّا الأمور العادية التي تتَّبِع العادة والعرف فهذه لا تُسمَّى بدعةً في الدِّين، وإن كانت تُسمَّى بدعةً في اللغة)[12].

 

المطلب الثالث: التحذير من البدع:

أ- النصوص الشرعية تشهد بخطورة البدع:

ومما جاء في النصوص الشرعية في التحذير من البدع ما يلي:

1- قوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} [النحل: 116]. وجه الدلالة: إنكار الله تعالى على مَنْ يُحدِثون في الدِّين فيُحلِّلون ويُحرِّمون بأهوائهم.

 

2- قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21]. وجه الدلالة: إنكار الله سبحانه على مَنْ شرَعَ في دينه ما لم يأذن به.

 

3- عن جَابِرِ بنِ عبدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قال: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا خَطَبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ، وَعَلاَ صَوْتُهُ، وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ، حتى كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ، يَقُولُ: صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ. وَيَقُولُ: أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ خَيْرَ الحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرُ الْهُدَيِ هُدَيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ)[13]. وجه الدلالة: تحذيرُ المُحْدِث ووعيدُه على إحداثِه في دين الله تعالى.

 

ب- تحذير السلف الصالح من البدع:

ما سُمِّيَ أهل السنة والجماعة بهذا الاسم إلاَّ لا تِّباعهم سنة نبيِّهم وهديه صلى الله عليه وسلم؛ ولذا فقد شَدَّدوا في التحذير من البدع والمحدثات في الدِّين وقد تناقلوا السُّنة خلفاً عن خلف، كما تناقلوا في الوقت ذاته التحذير من البدعة، وممَّا ورد عن السلف الصالح من آثار في تحذيرهم من البدع ما يلي:

1- قول ابن مسعودٍ رضي الله عنه: (اتَّبِعُوا، ولا تَبْتَدِعُوا؛ فَقَدْ كُفِيتُمْ، كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ)[14].

 

2- قول ابن عمر رضي الله عنهما: (كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ، وَإِنْ رَآهَا النَّاسُ حَسَنَةً)[15].

 

3- قول ابن عباسٍ رضي الله عنهما: (عَلَيْكُمْ بِالاسْتِقَامَةِ وَالأَثَرِ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّبَدُّعَ)[16].

 

4- قول حذيفة رضي الله عنه: (يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ! اسْتَقِيمُوا؛ فَقَدْ سَبَقْتُمْ سَبْقًا بَعِيدًا، فَإِنْ أَخَذْتُمْ يَمِينًا وَشِمَالاً لقد ضَلَلْتُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا)[17].

 

5- قول عمر بن عبد العزيز رحمه الله: (أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالاقْتِصَادِ في أَمْرِهِ، وَاتِّبَاعِ سُنَّةِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم، وَتَرْكِ ما أَحْدَثَ الْمُحْدِثُونَ بَعْدَ ما جَرَتْ بِهِ سُنَّتُهُ، وَكُفُوا مُؤْنَتَهُ، فَعَلَيْكَ بِلُزُومِ السُّنَّةِ؛ فَإِنَّهَا لك بِإِذْنِ اللَّهِ عِصْمَةٌ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ لم يَبْتَدِعِ النَّاسُ بِدْعَةً إِلاَّ قَدْ مَضَى قَبْلَهَا ما هو دَلِيلٌ عليها، أو عِبْرَةٌ فيها؛ فإنَّ السُّنَّةَ إنَّما سَنَّهَا مَنْ قَدْ عَلِمَ ما فِي خِلاَفِهَا مِنَ الخطأِ وَالزَّلَلِ وَالْحُمْقِ وَالتَّعَمُّقِ، فَارْضَ لِنَفْسِكَ مَا رَضِيَ بِهِ الْقَوْمُ لِأَنْفُسِهِمْ؛ فَإِنَّهُمْ على عِلْمٍ وَقَفُوا، وَبِبَصَرٍ نَافِذٍ كَفُّوا، وهُمْ عَلَى كَشْفِ الأُمُورِ كَانُوا أَقْوَى)[18].

 

قال ابن تيمية رحمه الله: (من طريقة أهل السنة والجماعة: اتِّباعُ آثارِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم باطناً وظاهراً، واتِّباعُ سبيلِ السابقين الأوَّلين من المهاجرين والأنصار، واتِّباعُ وصيَّةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: " «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ؛ تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ» " [19]، ويعلمون أنَّ أصدقَ الكلامِ كلامُ الله، وخيرَ الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ويُؤثِرون كلامَ اللهِ على غيرِه من كلام أصناف الناس، ويُقدِّمون هديَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم على هدي كلِّ أحدٍ؛ ولهذا سُمُّوا أهلَ الجماعة؛ لأنَّ الجماعة هي الاجتماع، وضِدُّها الفُرقة، وإنْ كان لفظ "الجماعة" قد صار اسْمًا لِنَفس القومِ المُجتمِعين)[20].

 

وهذا المنهج المسلوك من أهل السنة والجماعة لم يحيدوا عنه، ولم يُخالفوه إلى غيره، فكانوا وما زالوا إلى يومنا هذا يُعلون شأن السُّنة ويعملون بها، وينبِّهون الناس من البدعة وخطرها وينهونهم عن فِعلها، وهذا الذي عليه أهل السنة نتيجة طبيعية وحتمية لمنهجهم؛ إذ أنهم جعلوا قدوتَهم في نبيِّهم وسلفِهم الصالح، وكلَّما بعُد زمانُهم عن زمن نبيِّهم وسلفهم ازدادوا تمسُّكاً وارتباطاً بهم، فلا يتبدَّل حالهم ولا يتغيَّر منهجهم، وفي ثباتهم شاهدٌ صدق على عظمة منهجهم وعظمتهم في ثباتهم.

 

المطلب الرابع: الآثار السيئة للبدعة:

أ- البِدعةُ ضلالٌ مَحْض:

قال الله تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ} [يونس: 32]؛ لأنَّ ما جاء به النبيُّ فهو الحقُّ الخالص، وضِدُّه الضَّلال. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ» [21]؛ وكون كلِّ بدعة ضلالة يُبطِل كلَّ قولٍ بأنَّ هناك من البدع بدعة حسنة.

 

بطلان تقسيم البدعة إلى حسنة وسيِّئة: ذهب المُحقِّقون من أهل العلم إلى بطلان تقسيم البدعة إلى حسنةٍ وسيئة، أو جَعْلِها مِمَّا تجري عليه الأحكامُ الخمسة التكليفية[22]؛ لأنَّ قول النبيِّ: «كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ» [23]، يُبطِل هذا التقسيم، وأنه ما من بدعة إلاَّ وهي ضلالة، وفي بعضِ الروايات: (وَكُلُّ ضَلاَلَةٍ فِي النَّارِ)[24]، فكيف يجتمع الوصف بالضلالة مع الوصف بالحُسن؟

 

قال ابن تيمية رحمه الله: (ولا يحِلُّ لأحدٍ أنْ يُقابل هذه الكلمة الجامعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلية، وهي قوله: " «كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ» "، بسلب عمومها، وهو أنْ يُقال: ليست كل بدعة ضلالة؛ فإنَّ هذا إلى مُشاقَّة الرسولِ أقربُ منه إلى التأويل)[25].

 

والدين الإسلامي ما جاء إلاَّ ليهدي البشرية إلى الحقِّ ويخرجهم من الضلال، وأيُّ إحداثٍ في دين الله تعالى هي محاولةٌ لجرِّ البشرية إلى الضلال وانتكاسة بهم إلى الوراء؛ إذ ما حُرِّفت الدِّيانات السماوية السابقة إلاَّ بما أدخله فيها أصحابها من بدعٍ بأهوائهم وعقولهم، فجَرَت بأصحابها إلى الوقوع في الضلال والشرك.

 

وبنظرةٍ فاحصةٍ إلى الفِرَق المنتسبة إلى الإسلام وآرائهم في العقيدة أو العبادة تلحظ هذا الأمر واضحاً جليًّا؛ إذ هم بما أحدثوه وأدخلوه في الدِّين قد بعدوا عنه، كلٌّ حسبما أدخل، وقَدْرَ ما بدَّل.

 

ب- البدعة خروجٌ عن اتِّباع النبي صلى الله عليه وسلم:

البدعة تُنافي تحقيق شهادة "أنَّ محمداً رسول الله"، والعبد يدخل الإسلام بشهادة "أن لا إله إلاَّ الله، وأنَّ محمداً رسول الله" ولا يتم ذلك حقيقة إلاَّ بتحقيقها قولاً وعملاً واعتقاداً، فكيف يحقق العبد شهادة "أنَّ محمداً رسول الله" وهو لم يتَّبع هديه وسنَّته، فكيف بمَنْ يبتدع في الدِّين ثم هو يدَّعي أنه يتَّبع هدي النبي صلى الله عليه وسلم؟ والله تعالى يقول لنبيه الكريم صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31].

 

ج- البدعة تتضمَّن الطَّعن في الإسلام:

يزعم المبتدع - بلسان حاله: أنَّ الدِّين لم يكتمل بعد، وقد أتى هو بما يُكمِّل الدِّين، فابتدع شيئاً جديداً! والله سبحانه يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].

 

قال الإمام مالك رحمه الله: (مَن ابتدع في الإسلام بدعةً يراها حسنةً، فقد زعم أنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم خان الرسالة؛ لأنَّ الله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} فما لم يكن يومئذٍ ديناً، فلا يكون اليوم دِيناً)[26].

 

وقال السعدي رحمه الله: (ولهذا كان الكتاب والسنة، كافِيين كلَّ الكفاية، في أحكام الدِّين، وأصوله وفروعه. فكلُّ متكلِّفٍ يزعم: أنه لا بد للناس في معرفة عقائدهم وأحكامهم، إلى علومٍ، غيرِ علم الكتاب والسنة، من علم الكلام وغيره، فهو جاهل، مُبطِلٌ في دعواه، قد زعم أنَّ الدِّين لا يكمل، إلاَّ بما قاله، ودعا إليه. وهذا من أعظم الظلم، والتجهيل لله ولرسوله)[27].

 

ومما يتضمنه الابتداع في الدِّين: الطعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ يزعم المُبتدع - بلسان حاله: أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم إمَّا أنه قد جهل هذه العبادة المُبتَدعة، أو قد علم بها، لكنه كتمها عن أُمَّته، ولازم ذلك أنْ يكون كاتماً للرسالة أو لبعضها! وحاشاه بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم. وكذا يزعم المبتدع - بلسان حاله: أنَّ الصحابة رضي الله عنهم كتموا شيئاً من الشريعة، أو جهلوا هذا الأمر الذي أحدثه المتأخرون! وحاشاهم رضي الله عنهم.

 

د- انتشار البدع يُفرِّق الأمة:

في فتح باب البدع على مصراعيه تفريق لأمَّة محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وفيه تشتيت للجهود، إذْ يُصبح كلُّ حزب بما لديهم فرحون؛ كما قال سبحانه لنبيِّه الكريم: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام: 159].

 

وجه الدلالة: توَعَّد الله تعالى الذين فرَّقوا دينهم، وتفرَّقوا فيه؛ من أهل البدع والضلال المُفرِّقين للأُمة، وأخذ كلٌّ منهم لنفسه طريقاً غيرَ طريق محمدٍ صلى الله عليه وسلم.

 

قال السعدي رحمه الله: (دلَّت الآية الكريمة أنَّ الدِّين يأمر بالاجتماع والائتلاف، وينهى عن التَّفرُّق والاختلاف في أهل الدِّين، وفي سائر مسائله الأصولية والفروعية. وأمره أنْ يتبرَّأ ممَّنْ فرَّقوا دينهم فقال: {لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} أي: لست منهم، وليسوا منك؛ لأنهم خالفوك وعاندوك. {إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ} يُرَدُّون إليه، فيجازيهم بأعمالهم، {ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ})[28].

 

ونهى الله تعالى عبادَه المؤمنين، فقال سبحانه: {وَلاَ تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ * مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 31، 32].

 

وجه الدلالة: أنَّ كلَّ فِرقة تحزَّبت وتعصَّبت، على نَصْرِ ما معها من الباطل، ونابذتْ غيرَها وحاربَتْه؛ فهي فَرِحَةٌ بما لديها من العلوم المخالفة لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك يحكمون لأنفسهم بأنهم على الحق، وإنَّ غيرهم على الباطل.

 

قال السعدي رحمه الله: (وفي هذا تحذيرٌ للمسلمين من تشتُّتِهم وتفرُّقهم فِرَقاً، كلُّ فريق يتعصَّب لما معه من حقٍّ وباطل، فيكونون مشابهين بذلك للمشركين في التَّفرُّق، بل الدِّين واحد، والرسول واحد، والإله واحد)[29].

 

ه- المُبتدِع عليه وِزْرُ مَن اتَّبَعَه:

من شؤم الابتداع في الدِّين أنَّ المُبتدع عليه وِزْرُ وإثمُ مَن اتَّبعه إلى يوم الدِّين؛ مِصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَنَّ في الإِسْلاَمِ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ كُتِبَ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا، وَلاَ يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ» [30].

 

وجه الدلالة: أنَّ الإحداث والابتداع في الدِّين داخل في الأمور السَّيِّئة المُحرَّمة شرعاً؛ لذا كان على المبتدع مثلُ وزرِ كلِّ مَنْ يعمل ببدعتِه وضلالِه إلى يوم القيامة، سواء ابتدعه هو أم كان مسبوقاً إليه[31].

 


[1] انظر: المحكم والمحيط الأعظم، (2/ 33).

[2] انظر: تاج العروس، (20/ 311).

[3] انظر: المعجم الوسيط، (1/ 43).

[4] الباعث على إنكار البدع والحوادث، (ص20).

[5] الاستقامة، (1/ 42).

[6] مجموع الفتاوى، (4/ 107).

[7] مجموع الفتاوى، (18/ 346).

[8] الاعتصام، (ص37).

[9] رواه البخاري، (2/ 959)، (ح2550)، ومسلم، (3/ 1343)، (ح1718).

[10] رواه مسلم، (3/ 1343)، (ح1718).

[11] شرح النووي على صحيح مسلم، (12/ 16).

[12] أهل السنة والجماعة، د. صالح الدخيل. (ص255).

[13] رواه مسلم، (2/ 592)، (ح867).

[14] رواه الدارمي في (سننه)، (1/ 80)، (رقم205)؛ والطبراني في (الكبير)، (9/ 154)، (رقم8770) وقال الهيثمي في (مجمع الزوائد)، (1/ 181): (رجاله رجال الصحيح).

[15] رواه اللالكائي في (اعتقاد أهل السنة)، (1/ 92)، (رقم126)؛ والبيهقي في (الكبرى)، (1/ 180)، (رقم191)؛ وصححه الألباني في (أحكام الجنائز)، (ص200)، (رقم127).

[16] رواه ابن وضاح في (البدع)، (ص64)؛ والمروزي في (السنة)، (ص29)، (رقم83)؛ والهروي في (ذم الكلام)، (4/ 250)، (رقم712).

[17] رواه البخاري، (6/ 2656)، (رقم6853).

[18] رواه أبو داود، (4/ 203)، (رقم6412)

؛ وابن وضاح في (البدع)، (ص77)؛ وأحمد في (الزهد)، (ص296). وصححه الألباني في (صحيح سنن أبي داود)، (3/ 121)، (رقم4612).

[19] رواه أبو داود، (4/ 200)، (ح17182)؛ والترمذي، (5/ 44)، (ح2676) وقال: (حسن صحيح). وصححه الألباني في (صحيح سنن أبي داود)، (3/ 119)، (ح4607).

[20] العقيدة الواسطية، (ص46).

[21] رواه مسلم، (2/ 592)، (ح867).

[22] انظر: اقتضاء الصراط المستقيم، (ص270، 274)؛ الاعتصام، (2/ 36) وما بعدها.

[23] رواه مسلم، (2/ 592)، (ح867).

[24] رواه النسائي، (3/ 189)، (ح1578)؛ وابن خزيمة في (صحيحه)، (3/ 143)، (ح1785). وصححه الألباني في (صحيح سنن النسائي)، (1/ 512)، (ح1577).

[25] اقتضاء الصراط المستقيم، (ص274).

[26] الاعتصام، (1/ 49)؛ السنن والمبتدعات، (ص6).

[27] تفسير السعدي، (ص220).

[28] تفسير السعدي، (ص282).

[29] المصدر نفسه، (ص641).

[30] رواه مسلم، (4/ 2059)، (ح1017).

[31] انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، (16/ 226).