العمل الجاد سبيل تقدم الأمة

منذ 2022-02-02

إنَّ ارتفاع الأممِ وهبوطها، وبقاءَها واندثارها يرتبط ارتباطًا كبيرًا بعملِ أبنائها وتطلُّعاتهم واهتماماتهم، فلن ترتقيَ أمةٌ يميلُ أبناؤها إلى الدَّعة والراحة والسكون...

أيُّها الإخوة المؤمنون، إنَّ ارتفاع الأممِ وهبوطها، وبقاءَها واندثارها يرتبط ارتباطًا كبيرًا بعملِ أبنائها وتطلُّعاتهم واهتماماتهم، فلن ترتقيَ أمةٌ يميلُ أبناؤها إلى الدَّعة والراحة والسكون، ويؤثرون على العمل الجاد - الذي يسهم في بناءِ الأمة - كلَّ عملٍ يُحَقِّق نصيبًا أكبر من الكسل والخمول، مع السعي في تحصيل عائد مالي جيدٍ يوفِّرُ متطلبات الرفاهية والتَّرف.

 

وإذا كان أفراد الأمَّة بتلك الصورة، فإنَّ الدنيا ومتعلقاتها تنقلبُ في مفهومهم إلى غاية تُقْصَدُ بعد أنْ كانتْ وسيلةً تُسْتَثْمَرُ، لا يهمُّ معها النظرُ في متطلبات الأمة وحاجاتها؛ فتبقى الأمةُ في تخلُّفها، بل يزداد تخلُّفها بقَدْرِ ازدياد تَرف أبنائها؛ حتى تكون عُرْضةً للانهيار والسقوط.

 

ولذا يقول علماء الحضارات: "إن شيوعَ الترفِ، وتفشِّيَ الانحراف الجنسي، والتحلُّل الأخلاقي، سببٌ لانهيار الحضارات، ونجد ذلك ظاهرًا في السُّنَّةِ المستخرجة من قوله - تعالى -: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16].

 

فترف ينضمُّ إليه فسوقٌ، يصاحبهما بلاغٌ وإنذار من المصلحين مع عدم استجابةٍ من الناس، تكون نتيجتُه دمارًا وانهيارًا"[1].

 

مِن أجل ذلك كانت الشريعة واضحة في التحْذير من الانْجِراف وراء حظوظ النفس وشهواتها؛ {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [النساء: 134]. والناس على فريقَيْن؛ فريق يسعى لبناء مجد أُمَّته، وآخر يلهثُ وراء شهوته؛ {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [البقرة : 200 - 202].

 

ويعيب اللهُ على اليهود حِرْصَهم على الحياة؛ لأنَّ الحرْصَ على الحياة لا يبني أمة ولا مَجْدًا؛ {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة: 96].

 

ومع أنَّ هذه الصفة فيهم، إلا أنهم تقدَّموا على المسلمين وانتصروا، وإن كان ذلك مؤقَّتًا؛ لأنَّ وعدَ الله حقٌّ، لكنَّهم في هذا العصر انتصروا؛ لأنهم أخذوا بأسباب الرُّقيِّ والتقدُّم، أما المسلمون، فتخَلّوا عن كثيرٍ من دينهم، مع تواكُلهم وتَرْكِهم الأخذَ بالأسباب؛ فكان مَرْجعُ الفَصْل بينهم وبين عدوِّهم إلى الأسباب والعَتَاد.

 

والسُّنَّةُ النبويَّة زاخرةٌ بنصوص الجدِّ والاجتهاد والحثِّ على العمل والبناء؛ فلقد كان من دعاء رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «اللهم إنِّي أسالك الثباتَ في الأمرِ، والعزيمةَ على الرشد»[2]، وكان يتعوَّذ بالله من العجز والكسل[3]، ويوصي بعضًا من أصحابه، فيقول: «احرصْ على ما ينفعك، واستعنْ بالله ولا تعجز»[4]، ويخبرهم: ((إنَّ الله - تعالى - يحبُ معالي الأمور، ويكره سفاسفها))[5]، ويبيِّن لهم: أنَّ المعونة تأتي من الله للعبد على قَدْرِ المؤْنَة[6].

 

لقد فَهِمَ المسلمون الأوائل هذه النصوصَ، وأحسنوا تلقِّيها؛ فكانتْ حركتُهم في سبيل بناء الحضارةِ والمجد تقوم على أساس أنَّ الاستعانة بالله ثُمَّ الجدّ في العمل هو الذي يخطُّ مصيرَ الأمة في واقع الحياة، وأنَّ عَرَق الأحياء في عملِهم هو الذي يتكفَّل ببناء حضارة هذه الأمة، وأنَّ وجودَ الحقِّ والانتساب إليه لا يكفي في التمكين له في الأرض، إلا أنْ يكون مَن يحملُ هذا الحقَّ يعملُ من أجل تمكينه ونُصرته[7].

 

وانطلاقًا من هذه المقدمةِ الموجزة نصلُ إلى تحديد معلْمٍ مُهمّ من معالم الأزمةِ التي تمرُّ بها اليوم عقليَّةُ كثيرٍِ من المسلمين، هذه العقلية التي غدتْ طافحةً بالأفكار النظريَّة المجرَّدة، ولكنها ما زالت على الرغم من ذلك عاجزة عن وضْعِ هذه الأفكار موضع التنفيذ العملي[8].

 

إن للمسلمين دينًا صحيحًا، ومنهجًا متكاملاً، مَنَّ الله به عليهم يومَ أكملَ لهم الدينَ، وأتمَّ عليهم النعمةَ، ولكنَّهم في واقع الحياة يعانون الاستلاب الحضاري، وانطفاءَ الفاعليَّة؛ ولذلك فإنهم يزحفون وراء غُبار الرَّكبِ البشري مع الزاحفين المنقطعين[9].

 

أما البلادُ المتقَدِّمة صناعيًّا، فرغم كُفْرها وإلحادها، وفسادها وانحطاطها في جوانب الأخلاق والسلوك الاجتماعيَّة، فإن العمل له أهميته في حياتهم، لا يتنصَّلُ الموظفُ عندهم من مسؤوليَّاته، ولا يملُّ الجلوسَ على كرسي وظيفته، ولا يتذرعُ بأوْهَى الحُجج من أجلِ قَبول إجازته، ولا يَشْترطُ في الوظيفة أنْ تكونَ بجوار بيتِ والده ووالدته، ولا يسعى في الوصول إلى دائرة تكونُ أقلَّ عملاً وأكثر فَرَاغًا؛ بل العمل يمثِّلُ حياتهم، فالفَرْقُ بيننا وبينهم مُنْحصرٌ في أنَّ الثرثرة تَكْثرُ كلَّما قلَّ النشاط والحركة؛ إذ حيثما يسود الكلام تُبْطِئ الحرَكة.

 

وميزانيَّة التاريخ ليست رصيدًا من الكلام؛ بل كُتَل مِن النشاط المادي، ومن الأفكار التي لها كثافةُ الواقع ووزنه؛ ولذلك كانتِ المجتمعات التي لا تمتلك إلا رصيدَ الكلام هي المجتمعات المتخلِّفة والنامية، وكانت المجتمعاتُ التي تملِكُ رصيدَ العملِ والنشاطِ هي المجتمعات المتقدمة ماديًّا[10].

 

إنَّ الأمة الإسلاميَّة قادرةٌ على النهوض من تخلُّفها وعجزها وهوانها وواقعها الراهن، كما نَهَضَ غيرُها من الأمم التي كانت في السابق أكثر تخلُّفًا منها، ويَكْمُنُ ذلك في القدرة على تسخير القُوَى المتاحة، وإيجاد القناعة لدى أفراد الأمة، أن مفاتيح التقدُّم في أيديهم، لكن عليهم أنْ يعملوا بجدٍّ ونشاط، عليهم أن يقتنعوا بأن الأمَّة لن تتقدَّمَ إلا إذا تَابَ أبناؤها من خطيئة الكلام الكثير والعمل القليل، وشَمَّر كلُّ واحدٍ منهم عن ساعِدَيه، وتعبَّدَ لله - تعالى - بالعمل الكثير، ودونَ ذلك سوف تبقى هذه الأمـة بين مطرقة الغـرب الحاقد، وسنـدان أفعال أبنائها الخاطئة[11].

 

أيها الإخوة:

يُطْرَحُ هذا الموضوعُ المهم ونحن على أبواب الإجازات، التي يُضيِّعها أولادُ المسلمين كلَّ عامٍ فيما لا ينفع ولا يفيد، إلا مَن رَحمَ الله، وقليل ما هُم.

 

هذا الوقت الثمين، وتلك الأيامُ الطويلة التي ينحصر هَمُّ الكثيرين في مدى الاستمتاع فيها، لا في كيفيَّة الاستفادة منها، وتنتهي الإجازة ولا أحد يسألُ نفسه: ما الذي استفاده منها؟ وما عائداتها العلمية، أو الثقافية، أو التقنية، أو حتى المالية؟ إنما هي أوقات تضيعُ، وأعمار تُهْدَرُ فيما لا ينفع في الدنيا والآخرة!!

سفرٌ محرَّم، أو لهوٌ محظور، سهر في الليل ونوم في النهار، وإيذاءٌ لعباد الله، تضييع للفرائض، وتقصير في الحقوق والواجبات، لسانُ الحال يقول: ليس مهمًّا، ما الذي استفدناه من الإجازة؟ وبماذا خرجنا منها؟ لكنَّ المهمَّ ألا يتخلَّف لونٌ من ألوان الترف والرفاهية.

 

فبالله عليكم، كيف تتقدَّمُ أمةٌ وهي على هذه الحال في كلِّ عام؟ وهل يمكنُ لرجالٍ بهذا التفكير والعقليَّات الخروجُ بالأمة من مرحلة القصعة المستباحة إلى التمكين والرِّيادة؟! كلاَّ؛ فهذه أحلامٌ وخيالات، هي رؤوسُ أموال المفلسين والبطَّالين؛ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿  «فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ»  ﴾ [الشرح : 7 - 8]، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

 

أيها الإخوة:

ما أجملَ أنْ نضعَ منهجًا واضحًا، وخُططًا محكمة؛ لإفادة أولادنا في إجازتهم، وملءِ فراغِهم الذي ضاقت به نفوسُهم؛ فنمْلَؤُه بما يناسب ميولَهم وطموحَهم، فإنْ كانتْ ميولُهم عِلْمًا شرعيًّا، فالكتب كثيرة، والعلماء موجودون، وإنْ كانتْ ميولُهم مِهَنيَّة وتِقَنيَّة؛ فالدورات كثيرة، والمعاهد الرسميَّة والتجاريَّة منتشرة، وإن كانتْ ميولهُم تجاريَّة، فسُبل التجارة كثيرة، وطرائقُها متنوعة، المهم انتشالُهم من الفراغ والكسل والنوم، وحمايتهم من قُرَناء السوء.

 

يجب أنْ تتضافرَ الجهودُ في علاج تلك المشكلات التي أثْمرتْ شبابًا لا يبالي، ولا يستطيع تحمُّل المسؤوليَّات الصغرى، فضلاً عن الكبرى، هَمُّ والِدَيه أنْ يسمنَ ويحفظَ جسدَه من الأمراض، لكنَّهما غَفَلا عن أمراض القلب التي أوْدَتْ به؛ حتى ظنَّا أنه خُلِقَ هملاً، يرتعُ ولا يُسألُ، يصيب فلا يُشَجَّعُ، ويُخْطِئ فلا يُعاتَبُ؛ حتى مات قلبُه؛ لأنَّ الصواب والخطأ، والجدَ والكسل، والاهتمام وعدمه في مجتمعه سواء، فلماذا يتعب؟ ولماذا يعملُ ويُكافحُ؟!

 

تُرى كيف ستكون أحوال الأمة حينما يَكْبر هذا النشءُ المقتولُ في معنويَّاته، ويَتَسلَّم أفرادُه مواقعَهم في قيادة الأمة وإدارتها؟

 

فاتقوا الله ربَّكم، اتقوه في هذا النشءِ، في هؤلاء الشباب الذين حرصتم على بنـاء أجسادهم، لكن أهملتم بنـاءَ قلوبِهم.

 

اتقوه في أولادكم، املؤوا قلوبهم بالإيمان والتوكُّل واليقين، وأعطوهم ما يستحقون من الأعمال والمسؤوليَّات، وأعينوهم على قضاء إجازتهم فيما ينفعُ ويفيدُ في الدنيا والآخـرة.

 

ألا وصلوا وسلموا على خيْرِ خَلْق الله، محمد بن عبدالله، كما أمركم بذلك ربُّكم.

 

ـــــــــــــــ

[1] انظر: مجلة البيان، عدد (89)، ص (31).

[2] أخرجه النسائي في السهو، باب نوع آخر من الدعاء، (3/ 54)، والترمذي في الدعوات، باب سؤال الثبات في الأمر، (3404)، وأحمد (4/ 125)، والطبراني في "الكبير" (7/ 293)، وأبو نعيم (1/ 266)، وصححه ابن حِبَّان كما في الموارد (8/ 62)، برقم (2418)، والحاكم، وقال: على شرط مسلم، ووافقه الذهبي (1/ 688)، برقم (1872) من حديث شداد بن أوس - رضي الله عنه.

[3] كما في حديث أنس بن مالك الذي أخرجه البخاري في الدعوات، باب الاستعاذة من الجبن والكسل (6369)، ومسلم في الذكر والدعاء، باب التعوُّذ من العجز والكسل (2706)، وأبو داود في الصلاة، باب في الاستعاذة (1540)، والترمذي في الدعوات، باب دعاء اللهم إني أعوذ بك من الهمِّ والحَزَن (3484)، والنسائي (8/ 257).

[4] كما في حديث أبي هريرة وأوله: ((المؤمن القوي...))، أخرجه مسلم في القَدَر، باب في الأمر بالقوة وتَرْك العجز، والاستعانة بالله، وتفويض المقادير لله (2664).

[5] أخرجه - من حديث سهل بن سعد - أبو نعيم في الحلْية (3/ 255)، والحاكم وصححه (1/ 111)، وعزاه السيوطي للطبراني في "الكبير"، وللبيهقي وصححه كما في "الجامع الصغير" (1771)، ونقل المناوي عن الحافظ العراقي أنه قال: إسناده صحيح، ونقل عن الهيثمي قوله: رجال الطبراني ثِقَات، انظر: "فيض القدير"، (2/ 251)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (1889)، وذكر له شواهد في الصحيحة (1378).

[6] كما في حديث أبي هريرة عند البزار (1506)، والقضاعي في مسند الشهاب (992)، وعزاه السيوطي للبيهقي، والحاكم في الكُنَى، والحكيم الترمذي، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1952)، وذكره في الصحيحة (1664).

[7] البيان العدد (99)، ص (32) بتصرُّف.

[8] "هذا الدين"؛ لسيد قطب (6).

[9] البيان العدد (99)، ص (33)، بتصرُّف.

[10] "مشكلة الثقافة"؛ لمالك بن نبي، (107)، وانظر: المصدر السابق.

[11] المصدر السابق، بتصرُّف.