المرونة النفسية.. كيف السبيل إليها؟

منذ 2022-02-12

تمنحنا المرونة النفسية روحاً تشتاق لكل جديد، وتسعى إليه وإلى التعامل معه والاستفادة القصوى منه، في حين يرى مَن يفتقدونها التغييرَ تهديداً لهم، وإقصاءً لما تعلموه، واعتادوه منذ قديم الزمان.

(الحياة صعبة.. قاسية.. لا ترحم.. حياتي رواية مأسوية) هذه مقتطفات من أحاديث الناس وهم يصفون ما يعيشونه كل يوم من ابتلاءات وتحديات.. وليس في الأمر أي جديد؛ فهذه سنة كونية متفق عليها، فالله -عز وجل- خلق الدنيا دارَ ابتلاء واختبار لعباده، وجعل فيها كل صور الابتلاء.. رضينا أو لم نرض.. قبلنا أو لم نقبل..! ومن الممتع أن ترى كيف يختلف الناس في التعامل مع هذه الحقيقة الكونية القائمة على مجموعة من المهارات التي يمكن تسميتها (المرونة النفسية). هذه المهارات ليست حكراً على أحد.. ولذا فما رأيك أن نأخذ نظرة عامة حولها؟

أولاً: عينٌ على الحاضر وعينٌ على المستقبل:
من مهارات المرونة النفسية القدرة على استقراء الواقع، ورؤية الصورة الكبيرة للحياة وكيف تسير، وللعالم، وللأحداث المحيطة. لاحظ معي أنك عندما ترى الكأس الذي يقابلك الآن مباشرة فسترى جزءاً منه (الجزء الذي يواجهك) في حين تغيب عنك بقية أجزائه. لكنك لو أبعدته قليلاً ونظرت إليه فسترى شكلاً مختلفاً جدا. وكذلك المميزون من الناس يمتلكون القدرة على انتزاع أنفسهم من زحمة الحياة ومشاغلها ليقرؤوا واقعهم الخاص ويحسنوا تقديره، ليرسموا صورة واضحة عن المستقبل وما يخبئه لهم، بعيداً عن تأثير المغريات والمحسنات المؤقتة.

تمرين عملي:
اختبر نفسك عبر قراءة الجمل التالية، وحدد مدى مطابقتها لحالك:
- أعرِفُ تماماً الظروف والمتغيرات التي قد تحدث لي في مجال عملي وبقية شؤون حياتي.  
- لدي خطة جاهزة لمواجهة مثل هذه التغيرات في المستقبل. 
- أعرف ما أفضل وأسوأ شيء قد يحدث لي خلال الأيام القادمة؟  
- في مجال عملي، أعرف كل الخيارات المتوفرة لي حالياً؟ بعد سنة؟ بعد خمس سنوات؟ بعد عشر سنوات؟ 

ثانياً: الموقف من التغيير:
استطاع (جميل) -وهو مدير عام لشركة هندسية- الحصول على موافقة مجلس إدارة الشركة لإدخال نظام حاسوبي جديد ومكلّف، لكنه سيوفر الكثير من الوقت والجهد. كان (جميل) سعيدا بهذا الإنجاز. لكن المفاجأة التي كانت تنتظره أن الكثير من مديري إدارات الشركة رفضوا هذه الفكرة محتجين: (لقد اعتدنا النظام القديم، ونحن نفهمه بشكل جيد.. أوه هل تريدنا أن نتعلم من جديد؟.. بعد ما شاب راح للكتّاب!)، بل إن أحد المهندسين شعر بقلق واضح حين أحس أن هذا النظام قد يقوم ببعض أعماله المهمة، ولذا قاوم الفكرة بشراسة.
 
تمنحنا المرونة النفسية روحاً تشتاق لكل جديد، وتسعى إليه وإلى التعامل معه والاستفادة القصوى منه، في حين يرى مَن يفتقدونها التغييرَ تهديداً لهم، وإقصاءً لما تعلموه، واعتادوه منذ قديم الزمان. هذا ما حدث في شركة (جميل) وما يحدث أيضاً مع المزارع الذي يصمم على حراثة أرضه بالمحراث الذي يجره الثور، ويرفض استخدام الآلات الحديثة، وينعتها بأوصاف غريبة ومتعددة. وهذا ما نشاهده أيضاً من بعض الأطباء الكبار الذين يرفضون الاستفادة من بعض التقنيات الجديدة (أسلوب جراحي جديد أو دواء مصنع حديثاً) ويقاومونه ويتخذون منه موقف المتشكك المعادي، ويصرون على الطريقة التي تعلموها ومارسوها لسنواتٍ طوال. وتراهم يتغنون دوماً: (قديمك.. نديمك)..!
فعلى الرغم من أن الكثير من الأحداث التي تقتحم حياتنا تحمل في طيّاتها فرصاً جديدة. لكن الكثير منا يتضايق من أي تغيير يمس (الروتين) الذي ألفه واعتاده، مما يضيع عليهم الكثير من المكاسب والإنجازات.

ثالثاً: التكيف مع شدائد الحياة وصدماتها:
لا بد أنك شهدت إحدى قصص التكيف، فـ(عبد الرحمن) أحد زملاء الجامعة توفي والده ونحن في سنواتنا الأولى في كلية الطب. كانت صدمة شديدة لوالدته التي كانت تعيش في قمة السعادة والطمأنينة مع زوجها الحبيب. ولكنها -بما آتاها الله من مهارة عالية في التكيف مع ضغوط الحياة وشدائدها- لم تستسلم، ولم تطل النحيب. شمرت عن ساعد الجد، وأخرجت شهاداتها القديمة، واستقبلت الحياة بكل ثقة وعزيمة. كان في إمكانها أن تجلس في بيتها، تبكي وتنتحب وتشقق الجيوب: (لماذا أنا؟ هل هذا عدل..!) لكنها لم تفعل ذلك. لقد صنعت أجمل قصص النجاح في الكفاح لتأمين لقمة العيش لأولادها، وقامت بهذا الدور خير قيام. لقد تميزت والدة صديقي بمرونة هائلة أعتقد أنها من أكثر سمات الذكاء العاطفي أهمية. إنها الجاهزية للانتقال من أعلى قمة هرم الراحة والسعة والرخاء إلى أعلى قمة هرم البذل والتضحية.
إن القدرة على تحمل مثل هذه الصدمة والقيام بعدها لمواصلة مسيرة الحياة أمر يحتاج إلى مرونة نفسية عالية.. أقول هذا وأنا أعرف الكثير من القصص لأشخاص (كسرتهم) شدائد الحياة وحوّلتهم إلى أشخاص عاطلين على هامش الحياة.

رابعاً: عين على الداخل (النفس):
المَرِنون لديهم القدرة الشعورية على تحمّل إعادة التفكير في مواقفهم، وقراراتهم، ونمط حياتهم، واختياراتهم، وسلوكياتهم، وإثارة الشك بما كانوا يعدونه حقائق قطعية ونهائية في حياتهم. إنها القدرة على الانسلاخ من النفس والنظر إليها من بعيد لتصحيح مسارها. لقد كان هذا النمط من الناس على مدار التاريخ هم الأكثر انتفاعاً من الدعوات الإصلاحية والتصحيحية التي جاء بها المصلحون وعلى رأسهم الأنبياء والرسل –عليهم السلام- في حين لم يمتلك غيرهم القدرة الشعورية لتحمل الألم المصاحب للحظات المراجعة والتصحيح؛ فأبوا وعاندوا تمسكاً بـ(الآبائية)، والنظام الاجتماعي القائم. ومع الأسف نحن نفعل ذلك أيضاً، إذ نحمل الكثير من المعتقدات عن أنفسنا، وعن الناس من حولنا، وعن بعض التقاليد الاجتماعية المتوارثة، كما أننا نمارس الكثير من السلوكيات التي تحولت إلى طقوس روتينية ليس لها أي سند سوى أننا نفعلها، أو نؤمن بها منذ زمن بعيد، أو توارثناها عن آبائنا أو عن رموز السلطة غير الرسمية في مجتمعاتنا. أرجو أن تتأمل معي هذه القصة الرمزية التي تحمل الكثير من المعاني الهامة.. اقرأها مرةً بعد أخرى لتكتشف خفايا ما تشير إليه:
يُحكى أن زوجاً لاحظ أن زوجته عندما تطهو سمكة تقوم بقطع ذيلها ورأسها، فسألها:
- لماذا تقومين بقطع رأس السمكة وذيلها قبل طهيها؟
فصمتت الزوجة لحظات ثم تمتمت:  
- هكذا يتم طبخ السمك.. هذه هي الطريقة.. همم.. لا أدري بالضبط.. ربما لأني تعلمت ذلك من والدتي! 
فذهب الزوج إلى والدة زوجته ولاحظ أنها تقوم هي أيضاً بقطع رأس السمكة وذيلها قبل طهيها. فسألها في ذلك. فصمتت أيضاً لحظات وقالت:
- هذه هي الطريقة التي أعرفها وأستخدمها منذ سنوات.. همم.. لا أدري.. ربما لأني تعلمت هذا من والدتي!
كان الفضول لدى الزوج كبيراً، فأصرّ على سؤال الجدة حتى يتبين الأمر. وبالفعل وجد فرصة ذات يوم وسألها:
- لاحظت يا جدتي أن ابنتك وحفيدتها تقومان بقطع رأس السمكة وذيلها قبل طبخها.. وهما يقولان إنهما ربما تعلما ذلك منك. فهل هذا صحيح؟
فردت عليه باسمة:
- نعم.. الأمر بسيط، لقد كانت مقلاتي صغيرة، فلم أجد حيلة سوى أن أفعل ذلك!!

هل عرفت المغزى الخفي لهذه القصة؟ لقد تعلمنا الكثير من المعتقدات والأفكار التي نحملها في عقولنا، ونمارس الكثير من السلوكيات دون أن يكون عليها دليل حقيقي، ودون أن نراجع مدى صحتها، ربما كانت ذات معنى في القديم لكنها تخلو من أي سند أو منطق في الوقت الحالي.

خامساً: التمييز بين الأشياء التي يمكن تغييرها والتي لا يمكن:
      اللهم..
      ... امنحني القوة لأغيّر الأشياء التي أستطيع أن أغيّرها..
      ... والقبول بالأشياء التي لا أستطيع..
      ... والحكمة لكي أفرق بينهما..
هذه المناجاة تحمل فكرة عميقة ومزية هامة من مزايا المرونة النفسية، فعندما نبدأ بالتعامل مع المحيط الذي نعيش فيه، فسنواجه في الحال عدداً كبيراً من الصعوبات والعقبات التي ستعترض مسيرتنا، وهنا تظهر أهمية القدرة على قراءة الواقع، وفهم الإشارات التي يحملها من أجل تحديد الأمور التي لا يمكن تغييرها، والأمور التي يمكن تغييرها بمساعدة الآخرين أو بدونهم. تأمل معي هذا الجدول:

 

الأمور التي لا أستطيع تغييرها 
الأمور التي يمكن تغييرها بمساعدة الآخرين 
الأمور التي يمكن تغييرها بنفسي 
سوء الأحوال الجوية 
طريقة تحدث زوجي معي 
طريقة تخطيطي لجدولي اليومي 
الاقتصاد 
أولويات إدارة الشركة 
موقفي النفسي 
ضعف البنية التحتية (تكسر الشوارع، انقطاع الكهرباء،..)
أسلوب تربية الأطفال والتعامل معهم
ميزانيتي ومصاريفي الشخصية
الأنظمة والقوانين 
جدول عملي في المنزل 
طريقة تواصلي مع الآخرين 

إن من المرونة النفسية أن تمتلك القدرة الشعورية على تقبل الواقع كما هو، وقبول الأشياء من حولنا كما هي، لا كما يجب أن تكون، أن تتقبل ما يحدث من طيب وسيئ.. من خير وشر.. ومن ثم التعامل معه بالطريقة المناسبة (تغييره، قبوله، التحايل عليه،..إلخ) للخروج بأفضل النتائج. تأمل هذه المقولة: (عندما تقلق وتتذمر من أشياء لا يمكن تغييرها.. فسيكون لديك طاقة أقل لبذلها في الأشياء التي يمكن تغييرها).
في لحظة من اللحظات لا بد أن نقبل هذا العالم الذي نعيش فيه، وأن نكيف أنفسنا للعيش فيه: (لم يكن هذا العالم هو الذي أريده أن يكون.. لكني لن أنتظره حتى يتغير). لاحظ أن هذا لا يعني الاستسلام.. بل يعني القدرة على تفحص الواقع وفهمه بشكل صحيح. ومن ثم امتلاك المرونة لقبوله، والسعي إلى تحقيق الأحلام في اتجاه آخر أو باستخدام وسائل أخرى. إنها القدرة على الجمع بين مجاراة الواقع، واستلهام الهمة من الخيال عبر الأحلام والطموح لتحقيق ما نريد.

سادساً: من الداخل إلى الخارج وليس من الخارج إلى الداخل:
في مسيرتنا في هذه الحياة، نواجه الكثير من العقبات والظروف الخارجية التي لا تستأذننا في أن تعترض طريقنا، وتعكر صفو حياتنا، والمرنون يواجهونها بالعودة إلى أنفسهم بحثاً عن حل أو مخرج، وقد يسعون إلى تعلّم شيء جديد أو تطوير مهارة لديهم، أو تغيير نمط حياتهم، ويعتمدون بقدر أقل على العوامل الخارجة عن سيطرتهم (منحة من مسئول، أو أمل في ضربة حظ، أو..). لنتذكر أن قوتنا في أنفسنا.. إنها تنبع من هناك.. من أعماقنا.

سابعاً: القدرة على تبديل الأدوار:
يؤدي كل واحدٍ منا في هذه الحياة أدواراً متعددة. فأنا في أثناء العمل (طبيب)، وعندما أدخل إلى بيتي أصبح (زوجا)، وعندما ألتقي مع أطفالي فأنا (أب)، وعندما أخرج إلى المجتمع فأنا (مواطن)، وعندما أزور والدَي فأنا (ابن) وهكذا.. هل ترى كيف تتبدل أدوارنا مرات كثيرة خلال اليوم الواحد. إنها كالأقنعة التي نرتديها الواحد تلو الآخر. من الملاحظ أن هذا الانتقال بين الأدوار والقيام بمتطلبات كل دور على الوجه الأكمل ليس أمرا سهلاً لدى الكثير من الناس.
ومن الأمثلة على ذلك ما رأيته لدى (حياة) وهي أستاذة جامعية مرموقة. جاءت (حياة) تطلب المساعدة بعد أن شعرت بابتعاد زوجها عنها، إذ بدأ يقضي الساعات الطويلة خارج المنزل. استمعتُ إليها وهي تصف طبيعة شخصيتها المنظمة، ونمط حياتها (المكافِحة)، والنجاحات التي تحققها دائماً. كان واضحاً أنها (مهنية) من الطراز الأول، ولكنها فقدت القدرة على القيام بالأدوار الأخرى المطلوبة. همست في أذنها: زوجك لا يحتاج إلى (عصامية) بل يحتاج إلى (أنثى)!
الأزواج هم أبطال الإخفاق في تبديل الأدوار، إذ يقضي الرجل وقته في العمل ثم يعود إلى البيت منهكاً ليستلقي على الأريكة، ظناً منه أنه قام بواجبه.. وينتظر من زوجته أن تقوم هي بواجباتها. والحقيقة أن عمله الجاد يفي بدور واحد فقط، ويبقى عليه الوفاء بالأدوار الأخرى. هذه المشكلة هي منشأ الكثير من الخلافات الزوجية التي تعكر صفو الحياة وجمالها.

هذا أهم ما استطعت جمعه من عناصر لهذه السمة الحيوية من سمات المميزين بين الناس.. أرجو أن تراجعها وتتذكر أن امتلاك أي مهارة يحتاج إلى الكثير من التدريب والتمرين وأن العلم بها ليس كافيا لاكتسابها.

_____________________________________________
الكاتب:د. ياسر بكار