طيب الكسب وصلاح الأبناء

منذ 2022-03-15

لا يخفى أننا في زمن فُتِحَت فيه الدنيا على الناس، وكثُرت تجاراتهم، وتعددت مكاسبهم، وكثرت صور البيوع التي حيَّرت الناس ولبَّست عليهم، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يأتي على الناس زمان ما يبالي الرجل من أين أصاب المال من حلال أو حرام

لا يخفى أننا في زمن فُتِحَت فيه الدنيا على الناس، وكثُرت تجاراتهم، وتعددت مكاسبهم، وكثرت صور البيوع التي حيَّرت الناس ولبَّست عليهم، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يأتي على الناس زمان ما يبالي الرجل من أين أصاب المال؛ من حلال أو حرام؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يأتي على الناس زمان ما يبالي الرجل من أين أصاب المال؛ من حلال أو حرام»[1].

وإن العبد الصالح نقيُّ القلب لا يتأثر بما يتأثر به الناس، ولا يتابعهم في ما يخالفون فيه هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لم يأكل التمرة؛ لأنه يخشى أن تكون من تمر الصدقة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: حفظ أمانة، وصدق حديث، وحُسْن خليقة، وعفَّة طُعمَة» [2].

والعبد إذا اطمأن قلبُه بربه؛ وَثِق في تدبير ربه له في أمر رزقه، بين بسطه وتقديره؛ فهو راضٍ عن ربه، غيرُ متطلع لما في يد غيره، قانعٌ برزقه، واثقٌ في حُسْن اختيار الله له؛ فقد آمن وصدَّق بقول الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم: «إن روح القدس نفث في رُوعِي أن نَفْساً لن تمـوت حتى تستكمل أجلها، وتستوعب رزقها، فاتقوا الله، وأجملوا في الطلب، ولا يحملنَّ أحدَكم اسـتبطاءُ الرزق أن يطلبـه بمعصيـة الله؛ فإن الله - تعالى - لا يُنَال ما عنده إلا بطاعته»[3].

ولا يتطلع للكسب الحرام موقناً بتأكيد النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تسـتبطئوا الرزق؛ فإنه لم يكن عبد ليموت حتى يبلغ آخر رزق هو له، فأجملوا في الطلب: أخذ الحلال، وترك الحرام» [4].

وحذر النبي صلى الله عليه وسلم العبد من أكل الحرام، مبيِّناً آثاره الضارة على دين العبد وسلامة عبادته، فقال صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس! إن الله طيِّب لا يقبل إلا طيِّباً، وإن الله - تعالى - أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِـحاً} [المؤمنون: 51]، وقال - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]، ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام؛ فأنى يستجاب لذلك»؟[5].

قال ابن رجب - رحمه الله - في شرحه لهذا الحديث: «في هذا الحديث إشارة إلى أنه لا يُقبَل العمل، ولا يزكو إلا بأكل الحلال، وأنَّ أكل الحرام يفسد العمل، ويمنع قَبُوله؛ فإنه قال بعد تقريره: «إن الله طيِّب لا يقبل إلا طيِّباً وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال» {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِـحاً} [المؤمنون: 51]، وقال - تعالى -:  {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]»، والمراد بهذا أن الرسل وأممَهم مأمورون بالأكل من الطيِّبات التي هي الحلال، وبالعمل الصالح؛ فما دام الأكل حلالاً فالعمل صالح مقبول؛ فإذا كان الأكل غير حلال؛ فكيف يكون العمل مقبولاً؟ وما ذكره بعد ذلك من الدعاء، وأنه كيف يُتَقبَّل مع الحرام؛ فهو مثال لاستبعاد قبول الأعمال مع التغذية بالحرام»[6].

وقال أبو عبد الله النباجي الزاهد - رحمه الله -: «خمس خصال بها تمام العمل: الإيمان بمعرفة الله - عز وجل - ومعرفة الحق، وإخلاص العمل لله، والعمل على السُّنة، وأكل الحلال؛ فإن فُقدَت واحدة لم يرتفع العمل؛ وذلك أنك إذا عرفت الله - عز وجل - ولم تعرف الحق لم تنتفع، وإن عرفت الحق ولم تعرف الله لم تنتفع، وإن عرفت الله وعرفت الحق ولم تُخلِص العمل لم تنتفع، وإن عرفت الله وعرفت الحق وأخلصت العمل ولم يكن على السُّنة لم تنتفع، وإن تمَّت الأربع ولم يكن الأكل من حلال لم تنتفع).

وقال وهيب بن الورد: (لو قمتَ مقام هذه السارية لم ينفعك شيء حتى تنظر ما يدخل بطنك؛ حلال أم حرام؟).

ويقول ميمون بن مهران: (لا يكون الرجل تقيّاً حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه، وحتى يعلم من أين ملبسه ومطعمه ومشربه؟).

وقال يوسف بن أسباط: (إذا تعبَّد الشاب يقول إبليس: انظروا من أين مطعمه؟ فإن كان مطعمه مطعم سوء قال: دعوه لا تشتغلوا به، دعوه يجتهد وينصب؛ فقد كفاكم نفسه).

وقال سهل بن عبد الله: (من نظر في مطعمه دخل عليه الزهد من غير دعوى).

وسأل رجل سفيانَ الثوري عن فضل الصف الأول فقال: (انظر كسرتَك التي تأكلها من أين تأكلها؟ وقم في الصف الأخير).

وقال إبراهيم بن أدهم: (ما أدرك من أدرك؛ إلا من كان يعقل ما يدخل جوفه).

وقال ابن المبارك: (رَدُّ درهم من شبهة أحب إليَّ من أن أتصدق بمائة ألف درهم ومائة ألف ومائة ألف حتى بلغ ستمائة ألف).

لقد كانوا - رحمهم الله - يؤكدون على هذا المعنى كثيراً؛ حتى إن الفضيل - رحمه الله - لما أراد أن يعرِّف أهل السُّنة قال: (أهل السُّنة مَن عرف ما يدخل بطنه من حلال).

يجب على من يحرص على دينه إذا التبس عليه أمرٌ بين حِلٍّ وحرمةٍ أن يسأل إذا لم يعلم، كما كان سلفنا، رضوان الله عليهم.

إنَّ كل معاملة ليست على أصل شرعي واضح: هي من أكل أموال الناس بالباطل الذي حرَّمه الله ونهى عنه. وكم تجرأ الناس على الكسب الحرام؛ فهذا عامل لا يؤدي عمله على وجه صحيح، ورَبُّ عمل يقتطع من حق أجيره، وموظف لا ينهض بمسؤولية وظيفته، وتاجر يغش في سلعته، ومتجرئ على التعامل بالربا، ومتاجر بما يفسد عقول الناس ويدمر حياتهم... والكسب الحرام ينعكس على صلاح الأولاد.

 

التربية بالقدوة والمثل الأعلى:

مما لا شك فيه أن الحديث عن المثل الأعلى والقدوة الطيِّبة شيء ضروري في هذه الأيام؛ حتى ينشأ شباب المسلمين مقتدين بسِيَر العلماء وأهل الفضل والخير من هذه الأمة؛ ممن جمعوا بين العمل الصالح وحب الخير ونفع الخلق، وحتى يتطلع الجميع إلى مُثُل عُلْيا حقيقيةٍ أثَّرَت في حياة الناس، وغيَّرت الاهتمامات والطموحات. فكثير من شباب هذه الأيام لا يجد قدوة له إلا لاعباً مشهوراً، أو ممثلاً مغموراً، أو حضارة غربية مفلسة مظلمة؛ فهؤلاء في حاجة ضرورية إلى أن يشاهدوا نماذج مشرقة، ورجالاً نبلاء فضلاء، وما أكثرَهم في تاريخ هذه الأمة العريقة التي قد تمرض ولكنها لا تموت!

فبدلاً من تعلُّق القلوب بأقدام الاعبين أو لَهْـوِ اللاَّهين، وتفريط المفرطين، لا بد من إبراز هذه القمم العالية؛ لتكون منارات في طريق الحق والخير؛ يقتدي بها الحيارى، ويبصرون سبيل الحق والخير.

إن إنارة الطريق للشباب الغريق، وبثَّ الأمل في القلوب والنفوس، لمن الأعمال الموفَّقة التي تعود على الأمة بالنفع والخير؛ فيتخلص أبناؤها من الهزيمة النفسية، ويعتزوا بإيمانهم ودينهم العظيم، وتاريخهم المشرق، ورجالهم النبلاء وقادتهم العظماء، ويعرفون أن تاريخ أمة الإسلام فيه كنوز عظيمة؛ فيها القدوة والأسوة الحسنة لمن قرأ وتدبَّر.

طَيِّب الكسب وعفة المطعم

 من أسباب صلاح الأولاد:

مما لا شك فيه أن الشجرة الطيِّبة ذات الجذور الراسخة التي تُسقَى بماء صافٍ لا تُنبِت إلا خيراً، وكان عمر بن عبد العزيز غرسـاً طيِّبـاً لأسرة كريمة طاهرة؛ فوالده هو عبـد العزيز بن مروان بن الحكم، من خيار أمراء بني أمية، شجاعاً كريماً، وكان من تمام ورعه وصلاحه أنه لَـمَّا أراد الزواج قال لخازنه: اجمع لي أربعمائة دينـار من طيِّب مالـي؛ فإني أريد أن أتزوج إلى أهـل بيت لهم صلاح، فتزوج أم عاصم بنت عاصم بن عمـر بن الخطـاب، رضي الله عنه، حفيدة أمير المؤمنين[7].

إن زواجه من آل الخطاب ما كان ليتم لولا علمهم بحاله وحُسْن سيرته وخُلُقه؛ فقد كان حَسَن السيرة في شبابه، فضلاً عن التزامه وحرصه عل تحصيل العلم واهتمامه بالحديث النبوي الشريف؛ فقد جلس إلى أبي هريرة - رضي الله عنه - وغيره من الصحابة وسمع منهم، وواصل اهتمامه بالحديث بعد ولايته مصر، فطلب من كثير بن مُرَّة في الشام أن يبعث إليه ما يسمعه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما كان من طريق أبي هريرة - رضي الله عنه - فإنه عنده.

لذلك لا بد أن ننتبه إلى أن صلاح الأولاد والذرية مسؤولية وأمانة، وأن لهـذا الصلاح - بعد توفيق الله - تبارك وتعالى - سببين ظاهرين:

أولهما: الحرص على الحلال الطيِّب في المطعم والمنكح.

وثانيهما: البحث عن الأسر الصالحة الطيِّبة عند الزواج، ليُخرِج الله لنا أبناءً بررة غُذُّوا بالحلال، ونشؤوا عليه وعلى تعظيم الشرع الحنيف، وهذا النبت هو أساس الشجر الوارف الظلال الذي ينتج للأمة ثماراً نافعة، وأطفال اليوم هم قادة الغد. فيا ليتنا ننتبه إلى بداية الطريق الصحيح حتى لا نضل ولا ننسى.

وعن أسلم قال: بينما كنت مع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وهو يعسُّ بالمدينة إذا هو قد أعيا فاتَّكأ على جانب جدار في جوف الليل؛ فإذا امرأة تقول لابنتها: يا بنتاه! قومي إلـى اللبن فامذقيـه بالماء (أي اخلطيـه)، فقالت لها ابنتهـا: يا أُمتاه! أما علمـت ما كان من عزمة أمير المؤمنين اليوم، ألا يُشاب اللبن بالماء، فقالت الأم: قومي إلى اللبن فامذقيه بالماء؛ فإنك في موضع لا يراك فيه عمر ولا منادي عمر، فقالت البنت لأمها: والله! ما كنت لأطيعه علانية وأعصيه سرّاً، وكان أمير المؤمنين في استناده إلى الجدار يسمع هذا الحوار فالتفت إليَّ يقول: يا أسلم! ضع على هذا الباب علامة، ثم مضى أمير المؤمنين في عَسِّه، فلما أصبح ناداني: يا أسلم! امضِ إلى البيت الذي وضعتَ عليه العلامة، فانظر من القائلة، ومن المقول لها؟ انظر هل لهما من رجل؟ يقول أسلم: فمضيت، فأتيت الموضع؛ فإذا ابنة لا زوج لها، وهي تقيـم مع أمها وليس معهما رجل، فرجعت إلى أمير المؤمنين عمر فأخبرته الخبر، فدعا إليه أولاده، فجمعهم حوله ثم قال لهم: هل منكم من يحتاج إلى امرأة فأزوجه؟ لو كان بأبيكم حركة إلى النساء، ما سبقه أحد منكم إلى الزواج بهذه المرأة التي أعرف نبأها، والتي أحب لأحـدكم أن يتزوجهـا. فقال عاصم يا أبتاه! تعلم أنْ ليس لي زوجة؛ فأنا أحق بزواجها. فبعث أمير المؤمنين من يخطب بنت بائعة اللبن لابن أمير المؤمنين عاصم، فزوجه بها، فولدت له بنتاً تزوجها عبد العـزيز بن مروان، فولدت له خامس الخلفاء الراشدين الخليفة الزاهد عمر بن عبد العزيز، رضوان الله عليهم أجمعين[8].

كان مِن يُمْنِ هذا التصرف الكريم أن كانت ثمرة هذا الزواج، خليفةً لم تعرف الإنسانية بعده نظيراً له في عدالته، وزهادته، وسعادة رعاياه به، رضي الله عنه ورحمه.

إن هذا مثال على ثمرة الحلال في صلاح الأولاد.

اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك وأغننا بفضلك عمَّن سواك.

 


[1] سنن النسائي: 4454، وصححه الألباني.
[2] مسند أحمد: 6652، وصححه الألباني.
[3] أبو نعيم في حلية الأولياء: 10/ 27، وصححه الألباني.
[4] السلسلة الصحيحة: 2607.
[5] رواه مسلم: 1015.
[6] جامع العلوم والحكم، ص 100.
[7] ابن سعد في الطبقات: 5/ 331.
[8] الدولة الأموية... عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار: 3/ 110.

__________________________________________________________
الكاتب: 
عبدالعزيز مصطفى الشامي