الخَوْفُ من الرِّياء بين الإفراط والتفريط..
إخفاء الأعمال الصالحة ليس خيرا من إظهارها على الدوام، بل ربما كان الإظهار خيرا، لحصول الأسوة والاقتداء، وتنشيط النفوس على أعمال الخير.
دكتور : أحمد عبد المجيد مكي
الرياء: هو فعلُ الطاعةِ للهِ عزَّ وجلَّ مَعَ محبَّةِ أنْ يَطَّلَعَ عليها غيرُه أو يُثنى عليه بها.
والإِخلاصُ : إفرادُ الحق سبحانه وتعالى في الطاعة بالقصد.
وأمَّا الإفراط أو الغلوِّ: فهو تجاوز الحد في قول أو فعل. والتفريط: التقصير؛ يقال: مِنْ غير إفراط ولا تفريط: بوسطيَّة واعتدال.
والنصوص في تحريم الرياء- والأمر بالإِخلاص وحُسْن النيّات في جميع الأعمال الظاهرة والخفيَّة- كثيرة مشهورة، منها قوله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء} [البينة: 5]، وقوله سبحانه: {لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس} [البقرة: 264]، وقوله تعالى: {يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا} [النساء: 142].
وبالجملةِ، فما أحسن قولَ سهلِ بن عبد الله التُّسْتَرِيّ: ليس على النَّفس شيءٌ أشقُّ مِنَ الإخلاصِ؛ لأنَّه ليس لها فيه نصيبٌ.
وقال يوسفُ بنُ الحسينِ الرازيُّ: أعزّ شيءٍ في الدُّنيا الإخلاصُ، وكم أجْتَهِد في إسقاطِ الرِّياءِ عَنْ قلبي، وكأنَّه ينبُتُ فيه على لون آخر.
وهذه المسألة من الأهمية بمكان، لأن الإقبال على العمل الصالح أو الإحجام عنه- وقبول العمل أو رده- موقوف عليها، وقد صدق الحَسَنِ البصري حين قال: لا يزال العَبْدُ بِخَيْرٍ ما عَلِمَ الذي يُفْسِدُ عليه عَمَلَهُ.
لذا أحببت أن اشير إليها في النقاط التالية:
أولًا -الخوف المحمود والخوف المذموم :
الرياء أمرُه خطيرٌ؛ فينبغي علينا أن نحذره، وأن نخاف على أعمالنا منه، وأن نجاهد أنفسنا على إخلاص العمل لله عز وجل، والخوف من الرياء على نوعين:
النوع الاول : الخوف المحمود أو الإيجابي، وهو الذي يدفع صاحبه إلى المزيد من الاجتهاد في فعل الخير مع مراقبة القلب وتعاهده، والتفطن لحيل الشيطان ودسائسه.
وهذا هو خوف السلف الصالح، حيث كانوا يتَّهمُون أعمالهم وتوباتهم، ويخافون أنْ لا يكونَ قد قُبِلَ منهم ذلك، فكان ذلك يُوجِبُ لهم شدَّةَ الخوف، وكثرةَ الاجتهاد في الأعمال الصالحة.
قال الحسن: أدركتُ أقواماً لو أنفق أحدهم مِلءَ الأرض ما أمِنَ، لِعِظَم الذنب في نفسه. وقال ابنُ عون: لا تَثِقْ بكثرة العمل، فإنَّك لا تدري أيُقبل منك أم لا.
النوع الثاني : الخوف المذموم أو الخوف المَرَضي السَّلْبي، وهو الذي يثبط الهمة ويورث الفتور ويُقْعِد عن الطاعة، ويبني جداراً عازلاً بين الانسان وبين تفاعله مع الحياة.
فهذا النوع من الخوف مذموم مرذول، بل هو من وسوسة الشيطان وتلبيسه، وقد عَدَّه أهل العلم من الرياء، فقد قال الفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: ترك العمل من أجل الناس: رياء. والعمل من أجل الناس: شرك. والإخلاص: أن يعافيك الله منهما.
ثانيًا - لا رياء في إظهار الفرائض:
لا يكون الرَّجُلُ مُرَائِيًا بإظهار العمل الصالح إن كان فريضة، فَمِنْ حَقِّ الفرائض الإعلان بها وإشهارها، لقوله عليه السلام: «لا غُمَّةَ في فرائض الله» (أي لا تُسْتر وتُخْفَى فرائضه، إِنَّمَا تُظْهَر وتُعْلَن ويُجْهَر بها)، لأنها أعلام الإسلام، وشعائر الدين، ولأن تاركها يَسْتَحِقُّ الذَّمَّ والمَقْتَ، فوجب إماطة التُّهْمَةِ بالإظهار، وإن كان تَطَوُّعًا فَحَقُّهُ أَنْ يَخْفَى، لِأَنَّهُ لا يُلَامُ تركه ولا تُهْمَةَ فيه، فَإِنْ أَظْهَرَهُ قاصدا للاقتداء به كان جميلا.
وإنما الرياء أن يقصد بالإظهار أن تراه الأعين، فتثني عليه بالصلاح. وعن بعضهم: أنه رأى رجلا في المسجد قد سجد سجدة الشكر فأطالها، فقال: ما أحسن هذا لو كان في بيتك. وإنما قال هذا لِأَنَّهُ تَوَسَّمَ فيه الرياء والسمعة([1]).
ثالثًا- قد يُستحَبُّ إظهار العمل لمصلحة:
إخفاء الأعمال الصالحة ليس خيرا من إظهارها على الدوام، بل ربما كان الإظهار خيرا، لحصول الأسوة والاقتداء، وتنشيط النفوس على أعمال الخير.
قال ابن حَجَر : قَدْ يُسْتَحَبُّ إِظْهَارُ العمل الصالح مِمَّنْ يُقْتَدَى به، ويُقَدَّرُ ذلك بقدر الحاجة، قال بن عبد السلام: يُسْتَثْنَى من استحباب إخفاء العمل مَنْ يُظْهِرُهُ لِيُقْتَدَى به أو لِيُنْتَفَعَ به ككتابة العلم، ومنه حديث : لِتَأْتَمُّوا بِي وَلْتَعْلَمُوا صَلَاتِي.
قال الطبري: كان بن عمر وبن مسعود وجماعة من السلف يتهجدون في مساجدهم ويتظاهرون بمحاسن أعمالهم لِيُقْتَدَى بهم، فمن كان إماما يُسْتَنُّ بِعَمَلِهِ- عالما بما لله عليه، قاهرا لشيطانه- استوى ما ظهر من عمله وما خفي لصحة قصده، ومن كان بخلاف ذلك فالإخفاء في حَقِّه أفضل، وعلى ذلك جرى عَمَل السلف.
فمن الأول (أي الإظهار للإقتداء): «حديث أنس قال سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يقرأ ويرفع صوته بالذكر فقال إنه أواب. قال: فإذا هو المقداد بن الأسود» .
ومن الثاني (أي الإخفاء): حديث أبي هريرة قال: «قام رَجُلٌ يُصَلِّي فَجَهَرَ بالقراءة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا تُسْمِعْنِي وَأَسْمِعْ رَبك» ([2]).
رابعًا - إذا عَمِلَ المسلم عملا فأثنى الناس عليه:
إذا عَمِلَ المسلم العملَ لله خالصاً، ثم ألقى الله لهُ الثَّناء الحسنَ في قُلوبِ المؤمنين بذلك، ففرح بفضل الله ورحمته، واستبشرَ بذلك، لم يضرَّه ذلك.
وقد بَوَّبَ الإمام النووي في كتابه النافع رياض الصالحين ، باب ( ما يتوهم أنه رياء وليس هو رياء) ، وساق تحته حديث أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم: «أرأيت الرجل الذي يعمل العمل من الخير، ويحمده الناس عليه؟ قال: تلك عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ» ([3]).
قال النووي: قال العلماء: معناه هذه البشرى المعجلة له بالخير، وهي دليل على رضاء الله تعالى عنه، ومحبته له، فَيُحَبِّبُهُ إِلَى الْخَلْقِ كما سبق في الحديث، ثُمَّ يُوضِعُ له القبول في الأرض. هذا كُلُّهُ إِذَا حَمِدَهُ النَّاسُ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ مِنْهُ لِحَمْدِهِمْ وَإِلَّا فَالتَّعَرُّضُ مَذْمُومٌ ([4]).
خامسًا – الحرص على الظهور بمظهر حسن:
فإن قال قائل: تجويد اللباس والتزين للخَلْق هو من هوى النفس، وقد أُمِرْنا أن تكون أفعالنا لله لا للخَلْق.
يجيب عن ذلك ابن الجوزي بقوله: ليس كل مَا تهواه النفس يُذَم، ولا كل التزين للناس يُكْره، وإنما يُنْهي عَنْ ذلك إذا كان الشرع قد نَهَى عنه، أَوْ كان عَلَى وجه الرياء فِي باب الدين. فَإِن الإنسان يُحب أن يُرى جميلا، وذلك حَظُّ النفس، ولا يُلام فيه. ولهذا يُسَرِّح شَعْره، وينظر فِي المرآة، ويُسَوي عمامته، ويلبس بطانة الثوب الخشن إِلى داخل وظهارته الحسنة إِلى خارج، وليس فِي شيء من هذا ما يُكره ولا يُذم([5]).
تجدر الإشارة إلى أن تحسين الهيئة من الداعية والعالم-كما يقول ابن حَجَر الهيتمي- عبادة متأكدة لأنه مأمور بدعوة الخَلْق واستمالة قلوبهم ما أمكنه. إذ لو سَقَط من أعينهم لأعرضوا عنه، فلزمه أن يظهر لهم محاسن أحواله، لئلا يزدروه فيعرضوا عنه، لامتداد أَعْيُنِ عَامَّةِ الْخَلْقِ إلى الظواهر دون السرائر، ... ففي تحسين الهيئة بهذا القصد قُرْبَةٌ أَيُّ قُرْبَةٍ ([6]).
سادسًا- سوء الفهم في هذه المسألة يَسُدُّ كثيرا من أبواب الخير:
قال النووي : لا ينبغي أن يُتركَ الذكرُ باللسان مع القلب خوفاً من أن يُظنَّ به الرياء، بل يذكرُ بهما جميعاً ويُقصدُ به وجهُ الله تعالى، وقد قدّمنا عن الفُضَيل رحمه الله: أنَّ تَرْك العمل لأجل الناس رياء.
ولو فتح الإنسانُ عليه بابَ ملاحظة الناس، والاحتراز من تطرّق ظنونهم الباطلة لانْسَدَّ عليه أكثرُ أبواب الخير، وضيَّع على نفسه شيئاً عظيماً من مهمَّات الدين، وليس هذا طريق العارفين([7]).
- كما أَنَّ تَسْوِيغَ مِثْلِ هذا-كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية- يُفْضِي إلى أن أهل الشرك والفساد ينكرون على أهل الخير والدين إذا رأوا من يظهر أمراً مشروعا مسنوناً، قالوا: هذا مِرَاءٌ ، فَيَتْرُكُ أهل الصدق والإخلاص إظهار الأمور المشروعة، حَذَرًا مِنْ لَمْزِهِمْ وَذَمِّهِمْ ، فيتعطل الخير، ويَبْقي لأهل الشركشوكة يُظْهرون الشر، ولا أحد يُنْكر عليهم، وهذا من أعظم المفاسد([8]).
سابعًا-من مكائد الشيطان :
إنَّ تَرْك الأعمال الصالحة خوف الرياء من تلبيس إبليس؛ إذ يريد إبعاد المسلم عن الطاعات بشتى الطرق.قال ابن قدامة المقدسي (ت: 689هـ): إذا ترك العمل خوفاً من أن يقال: إنه مراءٍ، فلا ينبغي ذلك، لأنه من مكائد الشيطان.
قال إبراهيم النَّخَعِيُّ: إذا أتاك الشيطان وأنت في الصلاة فقال: إنك مراءٍ، فزدها طولاً.
وأما ما روي عن بعض السلف أنه ترك العبادة خوفاً من الرياء، كما روي عن إبراهيم النَّخَعِيُّ أن إنساناً دخل عليه وهو يقرأ في المصحف، فأطبق المصحف وترك القراءة، وقال: لا يراني هذا أني أقرأ كل ساعة، فيُحْمل هذا علي أنهم أحسوا من نفوسهم بنوعِ تَزَين فقطعوا([9]).
ثامنًا- الفساد في ترك إظهار المشروع أعظم من الفساد في إظهاره رياء:
يرى شيخ الإسلام ابن تيمية أن الأعمال المشروعة لا ينهى عنها خوفاً من الرياء، بل يؤمر بها، وبالإخلاص فيها، ونحن إذا رأينا من يفعلها أقررناه، وإن جَزَمنا أنه يفعلها رياء، فالمنافقون الذين قال الله فيهم: { {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً} } [النساء: 142] ، فهؤلاء كان النبي صلي الله عليه وسلم والمسلمون يقرونهم على ما يظهرونه من الدين، وإن كانوا مرائين، ولا ينهونهم عن الظاهر؛ لأن الفساد في ترك إظهار المشروع أعظم من الفساد في إظهاره رياء، كما أن فساد ترك إظهار الإيمان والصلوات أعظم من الفساد في إظهار ذلك رياء؛ ولأن الإنكار إنما يقع على الفساد في إظهار ذلك رئاء الناس([10]).
وأخيرا ، ما أجمل دُعَاء مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَغْفِرُكَ مِمَّا تُبْتُ إِلَيْكَ مِنْهُ، ثُمَّ عُدْتُ فيه، وَأَسْتَغْفِرُكَ مِمَّا جَعَلْتُهُ لك على نَفْسِي، ثُمَّ لَمْ أَفِ لك به، وَأَسْتَغْفِرُكَ مِمَّا زَعَمْتُ أَنِّي أَرَدْتُ به وَجْهَكَ، فَخَالَطَ قَلْبِي مِنْهُ ما قد عَلِمْتَ.
([1]) تفسير القرطبي (20/ 213).
([2]) فتح الباري لابن حجر (11/ 337).
([3]) أخرجه رواه مسلم (2642).
([4]) شرح النووي على مسلم (16/ 189).
([5]) تلبيس إبليس (ص: 180).
([6]) بتصرف يسير من: الزواجر عن اقتراف الكبائر (1/ 72).
([7]) الأذكار للنووي (ص: 9).
([8]) مجموع الفتاوى (23/ 174).
([9]) مختصر منهاج القاصدين (ص: 225)
([10]) مجموع الفتاوى (23/ 174).
أحمد عبد المجيد مكي
حاصل على درجة الدكتوراه في الشريعة الإسلامية
- التصنيف: