من أبجدية السعادة الزوجية - أبجَديَّة السَّعادة الزَّوجيَّة: غَيِّر قَناعَاتِهم
اجعَل كلَّ همِّك الصَّلاح والإصْلاح، فقد كان الشَّافعي يقول :"ما جادلت أحدًا إلا تمنَّيتُ أن يُظهر الله الحَق على لسَانه"
ليسَ كلّ ما يقْتنع به المرءُ صوابًا على الدَّوام، ومَع ذلك فَهو يَراه صَوابًا في كِل حَال، ومِن هُنا تَكمُن صُعوبَة تغيير القَناعات، فالبَخيلُ لا يرى نفسَه بخيلاً، وإنما يرى أنَّه يحافظ على المَال من الضَّياع، ويعمل على إنفَاقه في وجوهِه الصَّحيحَة، بل هو يدَّخِره لنوائبِ الدَّهر ومصَائب الحياة، وليكون عَونًا له ولذريته من بعْده.
والأَحمقُ كذلك لا يرى نفسَه أحمقًا، بل هو من يرى كلَّ النَّاس حمْقى لا رأيَ لهم، ولا عقلَ يهديهم إلى الصَّواب، ويرى نفسَه صَاحِب الرَّأي السَّديد والعَقل الرَّشِيد، ومن ثم فُهو يرى رأيه، ويقتنع بما لديه من حُجَّة.
والكَاذب كذلك، وقد أدْمَن الكَذب؛ لا يرى النَّاس إلا كذلك، فكلُّهم- من وجْهَة نظره - لا يصْدقُون في قولٍ ولا فعْل، وإنما هو الصَّادق الوحيد ولا أحَد غَيره.
ومن ثَّم فإنَّ تغيير قناعة الأفراد هو من أصْعب الأمُور على الإطْلاق، ولم تَكن مهِمَّة الرُّسل والأنبياء – على اختلاف الدهور ومر العصُور – إلا تغيير قناعَة النَّاس وتصحيح المفَاهيم لديهم، فنبي الله نوحٌ – عليه السَّلام – يظَل يجادل قومَه ويحاجّهم، ويضْرب لهم كل مثلٍ ويريهم كلَّ آية، فقط ليقنعهم أنَّ ما يعكفُون عليه من أصْنام، وما يعبدونها من أوثَانٍ إنَّما هي حجَارة لا تنفع وتضُر، ولا يزالون يردُّون دعوته ويخالفون أمره، قال الله -تعالى- يحكي على لسان نبيه نوح: " {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [هود:(32)] ، وبعْد كل هَذه السَّنوات لم يأبه بكلامه، ولمْ يقتنع بدَعْوته إلا قليل ٌكمَا وصَفَهم القُرآن الكَريم، وهَذا هو حَاله مع قومِه، وحَال النبيِّين من بعْده، والدُّعاة من أتباعِهم.
وما نلقَاه في بيوتِنا ونجُده في كثير من الأحْيان هو في الواقِع صُورةٌ مصغَّرةٌ من ذلِك، فاخْتلاف الرَّأي وتعدِّد وجهَات النَّظرِ والنِّقَاش والجِدال في بعض المسَائل قد يحدث نوعًا من الانقِسَام بين الرَّجل وزوجته، أو الأبِ وأبنائه، أو الأُمِّ وبناتها، ولعلَّ اختلافَ نمَط التربية، وتغَيُّر الزمَان، واختلافَ مستوى التَّعْليم، والبيئة ودرجة الوَعي وغيرها من العَوامل قد يحدث – في كثير من الأحيَان – فجوةً كبيرةً وتباينًا فكريًا واسعًا، وقد يتشبَّث أحَدُهم برأيه ويتبنى فكرته، فلا يرغَبُ في تصْحِيحِها أو تقْويمِها، ولا يرغبُ أن يحيدَ عنها ولا ينصَرف إلى غيرها.
ومن هُنا يأتي دور القَيادة الحكِيمة داخِل الأُسْرة السَّعيدة، فَدَورُ الأبِ والأمِّ أنْ يعملا جَاهِدَيْن على بناءِ قنَاعاتٍ سليمةٍ صَحيحَة داخِل الأُسْرة توافِق الشَّرعَ، وتُعْلي قِيمة العقْل، وتحْترم وجهَات النَّظَر، وتُراعي ظُروف العَصْر والمسْتوى الثَّقَافي والفِكْري والمعْرفي، ولا يكون ذلك إلا بالحُجَّة البرهَان والمنْطق السَّديد والعَقل الرَّشيد.
ولعَلَّ هذا ما أوصَانا به الله – جَلَّ وعَلا – في قولِه تعَالى: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [هود: (125)] يقول ابن كثير في تفسيرها: " يقول تعالى آمرًا رسُوله محمدًا - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن يدعو الخَلْق إلى الله {بالحِكْمة} قال ابن جَرِير : وهو مَا أنَزله علَيه من الكِتَاب والسُّنَّة {والموعِظة الحَسَنة} أي : بما فيه من الزَّواجر والوقَائع بالناس، ذكِّرهم بها ؛ ليحْذروا بأسَ الله تعالى.
وقوله : {وجَادلهم بالتي هي أحْسَن} أي : من احتاج منهم إلى مُنَاظرة وجِدال، فلْيكُن بالوَجْه الحَسَن برفْقٍ ولِين وحُسنِ خِطَابٍ، كما قال : { ولا تجَادِلوا أهْل الكِتابِ إلا بالتي هي أحْسَن إلا الَّذين ظلَموا منهم} [العنكبوت : 46] فأمَره – تعَالَى- بلينِ الجَانبِ، كمَا أمَر مُوسى وهارون - عليهما السَّلام - حين بعثَهما إلى فِرعَون فقال: " {فقولا لَه قولاً لَيِّنًا لعَلَّه يتذكرُ أو يخْشَى} [طه : 44 ]
وتغييرُ القَناعات – في الحقيقة – ما هُو إلا دعوة إلى الله -تعالى- بالحكمة والموعظة الحسنة، والهدوء والاتزان في عَرض وجْهة النَّظر من قِبَل الزَّوج مع زوجته وأبنائه مِفْتاح كل نجَاح، حيثُ إنَّ الإلزام وفرضَ الرَّأي والأمَر المبَاشِر، في غالبِ الأحيان الأحوال لا يأتي بخير، بل قد يكونُ له ردُّ فعلٍ غير محسُوب.
والمنطقية والاسْتنَاد إلى الحُجَّة والبرهَان فيما تعْرِضه على زوجَتك، أو تنَاقش فيه أبنَاءك -لا شكَّ- يجعلُ تغيير قناعاتهم أسْهلَ وأجْدى، ولكنْ ثمَّة أمْرٍ في غاية الأَهَمِّية وأنت تبْني قناعَاتٍ جيدة لدى أفْراد أسْرتك، أو تسْعى إلى تغيير قناعاتهم غير الجيِّدة، هي أن تبحَث عن الدَّوافع وراء هذه القناعات التي تبنَّوها، فقدْ يكون- كما أسلفتُ- نمطُ الشخصية، أو صديقٌ مقرَّبٌ لأحدهم، أو زملاء المدرَسَة، أو الجامعة، أو نمطِّ التعليم، أو مواقف حياتية متكِّررة، أو غيرها .... فحينئذ عِلاج مثل هَذه الدواعي والأسبَاب هي السبب الأكيد لتعديل وتغيير القناعات وتصحيح وجْهَات النَّظر وتقويم الأفْكار.
إقناعُ النَّاس بالأفْكار ليسَ شيئًا بعيد المنَال؛ ولكنَّه يحتاج إلى فَنٍ وفِكْر ومَهَارة، فالناسُ يمكنهم أن يتخَلَّوا عن أفكَارهم إلى أفكَارك بمحضِ إرادتهِم إذا أقنعتهم بها، فتغيير القنَاعَات لا يمكن حُصُوله بالضَّغط أو بالإلزام أبدًا؛ بل تتغير القناعَات بالرَّضا والقَبول، وبالإثبَات والبرهَان، وبالجاذِبية والتقْريب، والفَاشِل في ذلك هو المجَادل المحْترف، الذي يُجَادل عن رأيِه أبدًا، ويعتمِد عَلى قَهْر النَّاس والسُّخْرية من آرائهم لإقناعهم، وما هو بفَاعل ولو ظَلَّ يجادلهم ألفَ عَام.
اجعَل كلَّ همِّك الصَّلاح والإصْلاح، فقد كان الشَّافعي يقول :"ما جادلت أحدًا إلا تمنَّيتُ أن يُظهر الله الحَق على لسَانه" فلا يكن كلُّ همِّك أن يظهَر الحقُّ على يديَك، ولتكن بغْيتُك الوصُول إلى الحَق بأقصَر طَريق لدى أبنائك وبناتك، لا سيما وهم في عُمْر المراهَقَة وعنْفوان الشَّباب، واعْلَم أن ما اكتسبوه من قنَاعاتٍ إنما يرجِع لقِراءاتٍ لهم، أو مواقف حياتية تعرضُوا لها، أو من خلالِ جماعَة الأصْدقاء أو من بيئة التعْليم، وهَذا يتطلب من الأُسْرة السَّعيدة وعيًا دائمًا ويقظة مُسْتمرة وانتباهًا في كلِّ حَال، وليست التربية بالأمْر السَّهل ولا بناءِ الأُسْرة السَّعيدة بالأمْر الهَيِّن، فَكُن يقِظًا منتَبهًا حرِيصًا على تقويم السُّلوك وتعْديل الفِكرة وتغيير القناعات أو بنائها من جديد، في عَصْر لا حدود فيه ولا حَواجِز، وتنوَّعَت فيه سُبل الضَّلال وطُرق الغِوايَة، وسَهُلت فيه طَرائق الانحِراف والغَيِّ، نسأل الله السَّلامة من كِلِّ شَر والنَّجاة منْ كل بَليَّة.
- التصنيف: