العتاب المستطاب
وموطنُ الجمالِ في البيت وصفُهُ العتابَ بالمستطاب، وإخباره عن رغبته بمزيد منه، حتى تمنى لو أنه أكثر الذنوب؛ ليحظى بمزيد من العتاب.
الكلام في العتاب، ومسوغاته، وعوائده، وأساليبه، وما يدور في فلكه يطول. وقد يسر الله أن كتبت في ذلك في مواطن متفرقة. والكلام ههنا سيدور حول نوع لطيف مستعذب من العتاب، وهو مقتبسٌ من بيت شارد لابن سناء الملك في رائعته البائية التي يقول طالعها:
سرىَ طيفُه لا بَلْ سَرى بي سَرابُهُ
وقَد طَارَ مِنْ وَكْرِ الظلام غرابُهُ
وما كان يَدْرِي الطَّيفُ قبلَ طُروقهِ
بأَنَّ انْفِتاحَ الجَفْنِ مِنِّي حِجَابُه
لئِنْ سَرَّ نَفْسي قُرْبُه ودُنُوُّه
لَقد سَاءَها تَشْتِيتُه واغْتِرابُه
ولولا انْغِمارُ القَلْبِ في غَمرةِ الهَوى
لكانَ سَواءً نأْيُه واقْتِرابُه
أَتَتْ مع نِقْسِ اللَّيلِ صفحةُ وجهه
فقلتُ حبيبٌ قد أَتانِي كِتَابُه
ثم قال -وهو الشاهد ههنا-:
وأملى عتاباً يستطاب فليتني
أَطَلْتُ ذنوبي كي يطول عتابُه
وموطنُ الجمالِ في البيت وصفُهُ العتابَ بالمستطاب، وإخباره عن رغبته بمزيد منه، حتى تمنى لو أنه أكثر الذنوب؛ ليحظى بمزيد من العتاب.
وهذا النوع من أعذب العتاب، وأرقِّه، وأرقاه؛ إذ هو عتاب استدعاه سبب معقول؛ ويراد به استدامةُ الود ما بين حبيب وحبيب، ويأتي بقالَبِ لُطْفٍ، ورغبةٍ في إزالة ما علق من شوائب الإخلال والتقصير؛ فلا غرو أن يلقى المحل القابل والقبولَ الحسن على حدِّ قول النابغة الذبياني:
نبئت نُعماً على الهجران عاتبةً
سقياً ورعياً لذاك العاتب الزاري
وقول العباس بن الأحنف:
لو كنتِ عاتبةً لَسَكَّن لوعتي
أملي رضاكِ وزرت غير مراقِبِ
لكن مَللتِ فلم تكن لي حيلةٌ
صَدُّ الملولِ خلاف صدِّ العاتِبِ
بل كلما كان العتاب أكثر رِقَّة كان أنجع وأبلغ أثراً، كما قال أبو الطيب:
ويزيدني غضبُ الأعادي قسوةً
ويُلِمُّ بي عتب الصديق فأجزع
والمحب الصادق العاقل لا يلجأ إلى العتاب، وإن اضطر إليه كان عتاباً يرأب الصدع، ويحفظ سالف الود. والمحب الصادق العاقل - أيضاً - إذا عاتبه محبٌّ له لم يأنف من ذلك العتاب، بل ربما فرح به، واستطعم المعاتِبَ مزيداً منه، كي لا يبقى في نفسه أثراً لكلوم الإساءة أو التقصير؛ فظاهر العتاب -كما في المثل- خير من باطن الحقد.
وكل ذلك نابع من كمال عقله، وحسن ظنه، وثقته بنفسه، ومياسرته لأحبته، ومحافظته على صفاء قلبه، واستبقاء مودَّاته؛ إذ يرى أن المعاتب محب، وأنه لو أراد الصرم لما بادر إلى العتاب.
ولو أن العتاب بين الأحبة سار على هذا الغرار لتوطَّدت العلاقة، ولزالت النفرة، ولكان العتاب سبيلاً للكمال، وذريعة لتلافي التقصير والغفلة والإهمال.
أما إذا سلمك الله من العتاب؛ فَسِرْتَ على حد السماحة، والتغافل، والإعذار _ فذلك من عاجل بشراك، وأمارة سلامة صدرك، وراحة بالك، ونجاتك من غوائل العتاب.
وبالجملة فالعتاب كالدواء يُحتاج إليه أحياناً، ويُحتاج معه إلى مقدار معين، ومحلٍّ قابل؛ فإذا كان كذلك فهو الدواء النافع.
وإن أعطي لسليم، أو زاد المقدار عن الحد، أو كان المحلُّ غيرَ قابلٍ فذاك هو الداء العياء، أو السُّم الناقع، وعليه ينزل قول الحكيم:
فَدَعِ العتاب فربَّ شرٍّ هاج أولُه العتابْ
وقول ابن الرومي:
فَدَعِ الملامةَ للمحبِّ فإنها
بئس الدواءِ لمُوْجَعٍ مِقْلاق
لا تطفئنَّ جوىً بلومٍ إنه
كالريح تغري النار بالإحراق
وقول عمر بن أبي ربيعة:
أردت عتابكم فكَففتُ أني
رأيت الهجر يبدؤه العتاب
وكم قد قُلْتَ من قولٍ لدينا
له لولا محبتكم جوابُ
محافظة الزلفي 29- 10 - 1443هـ
محمد بن إبراهيم الحمد
دكتور مشارك في قسم العقيدة - جامعة القصيم
- التصنيف:
- المصدر: