شناعة تقديس القبور والأضرحة في العصر الحديث

منذ 2022-06-16

تقديس القبور والأضرحة مفهوم لم يعرفه الإسلام ولو في إشارة يسيرة، بل جاءت النصوص الثابتة بالنهي الصريح عن كل ذريعة تُفضي إلى ذلك المفهوم، الذي يمثل خطوة أولى على طريق الانحراف نحو الشرك

الحمد لله الذي لم يتخذ ولدًا، ولم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له ولي من الذل، وخلق كل شيء فقدَّره تقديرًا، والصلاة والسلام على نبينا محمد، بلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، وجاهد في الله حق جهاده، وحَمَى حِمَى التوحيد، وحمى جانبه لئلا يقع العباد في الشرك؛ أما بعد:

 

فتقديس القبور والأضرحة مفهوم لم يعرفه الإسلام ولو في إشارة يسيرة، بل جاءت النصوص الثابتة بالنهي الصريح عن كل ذريعة تُفضي إلى ذلك المفهوم، الذي يمثل خطوة أولى على طريق الانحراف نحو الشرك[1].

 

وقد نهى الشارع عن التعلق بالقبور؛ وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تجعلوا بيوتكم قبورًا، ولا تجعلوا قبري عيدًا، وصلوا عليَّ؛ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم» [2].

 

وعن علي بن الحسين رضي الله عنه: ((أنه رأى رجلا يجيء إلى فُرْجَة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها فيدعوه، فنهاه، وقال: ألا أحدثك حديثًا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «لا تتخذوا قبري عيدًا، ولا بيوتكم قبورًا، وصلوا عليَّ، فإن تسليمكم لَيَبْلُغني أين كنتم» .

 

قوله: (يجيء إلى فرجة)، هذا الرجل لا شك أنه لم يتكرر مجيئه إلى هذه الفرجة إلا لاعتقاده أن فيها فضلًا ومَزِيَّة، وكونه يظن أن الدعاء عند القبر له مزية فيه فتحُ بابٍ ووسيلة إلى الشرك، بل جميع العبادات إذا كانت عند القبر، فلا يجوز أن يُعتقَد أن لها مزية، سواء كانت صلاة أو دعاء أو قراءة[3].

 

قال الله تبارك وتعالى: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر: 3]؛ قال قتادة، والسدي، ومالك عن زيد بن أسلم، وابن زيد: "إلا ليقربونا إلى الله زلفى؛ أي: ليشفعوا لنا، ويقربونا عنده منزلة، ولهذا كانوا يقولون في تلبيتهم إذا حجُّوا في جاهليتهم: لبيك لا شريك لك، إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك"، وهذه الشبهة هي التي اعتمدها المشركون في قديم الدهر وحديثه، وجاءتهم الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، بردِّها والنهيِ عنها، والدعوة إلى إفراد العبادة لله وحده لا شريك له، وأن هذا شيء اخترعه المشركون من عند أنفسهم، لم يأذن الله فيه ولا رضِيَ به، بل أبغضه ونهى عنه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25][4].

 

مع غلبة الجهل على كثير من المسلمين وكثرة التلبيس عليهم، والتفريط من أهل العلم والدعوة والتعليم، انتشرت القبوريَّة في العالم الإسلامي انتشارًا كبيرًا، فلا تكاد تجد مدينة ولا مصرًا من الأمصار، إلا وفيها عدد من الأضرحة والقبور التي يتعلق بها الناس، ويصرفون فيها أنواعًا من العبادات للأولياء والصالحين والمقبورين[5].

 

قال الله تبارك وتعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف: 45]، حتى يكون للمشركين نوعُ حجة، يتبعون فيها أحدًا من الرسل، فإنك لو سألتهم واستخبرتهم عن أحوالهم، لم تجد أحدًا منهم يدعو إلى اتخاذ إلهٍ آخرَ مع الله، مع أن كل الرسل - من أولهم إلى آخرهم - يدعون إلى عبادة الله وحده لا شريك له؛ قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]، وكل رسول بعثه الله، يقول لقومه: اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، فدل هذا أن المشركين ليس لهم مستند في شركهم، لا من عقل صحيح، ولا نقل عن الرسل[6].

 

فإن قال: الشرك عبادة الأصنام ونحن لا نعبد الأصنام، فقل له: ما معنى عبادة الأصنام؟ أتظن أنهم يعتقدون أن تلك الأخشاب والأحجار تخلق، وترزق، وتدبر أمر من دعاها؟ فهذا يكذبه القرآن[7].

 

وإن قال: هو من قصد خشبة أو حجرًا، أو بَنيَّة على قبر أو غيره، يدعون ذلك ويذبحون له ويقولون: إنه يقربنا إلى الله زلفى، ويدفع عنا ببركته أو يعطينا ببركته.

 

فقل: صدقت، وهذا فعلكم عند الأحجار والأبنية التي على القبور وغيرها، فهذا أقر أن فعلهم هذا هو عبادة الأصنام فهو المطلوب[8].

 

وهذا ما نبَّه إليه فاروق هذه الأمة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عندما قال: "يوشك أن تُنقض عُرى الإسلام عُروة عُروة، إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية"[9].

 

ومن الانحرافات العقدية في تونس، هناك مدينة على البحر تسمى باسم الضريح يدعونها "سيدي بوسعيد"، قيل: استمدت المنطقة اسمها من اسم "أبي سعيد بن خلف بن يحيى التميمي الباجي ١١٥٦- ١٢٣٠م، الذي أقام فيها متفرغًا للتعبد وناشرًا لتعاليم الصوفية، ويزعمون أنه متواجد حتى الآن في ضريح أو مرقد، يدعونه "الولي الصالح"، وأتباعه من المتدينين الزاهدين؛ مثل: "سيدي الظريف، وسيدي بوفارس، وسيدي الشبعان بأعالي سيدي بوسعيد"، ويقيمون في كل سنة حفلًا مهيبًا، وتراهم يصطفون أمام حنفية ماء تسمى عين الطاسات للشرب والتبرك.

 

ويحتفلون بذكرى المولد النبوي، في زاوية "سيدي بوسعيد الباجي"، وهو "مقام صوفي"، معروف يقع في الضاحية الشمالية في تونس العاصمة، وسط أجواء من البدع يسمونها روحانيات، ويرددون الأناشيد الصوفية.

 

ويتجمع العشرات من الشيوخ والنساء والشباب، في محيط زاوية "سيدي بوسعيد الباجي"، للاستماع إلى الأناشيد الصوفية، والمدائح، والأذكار، وقصة المولد النبوي.

 

وفي تصريح لوكالة الأناضول، قال الشيخ أحمد التواني، أحد المشاركين بالحفل: "إن تونس تحيي سنويًّا ذكرى المولد النبوي في الزوايا والمساجد، لسرد قصة المولد وتلاوة قصيدة الهمزية في مدح الرسول عليه الصلاة والسلام".

 

وخلال هذه المناسبة يتم إشعال الشموع، ووضع البخور في المقام من قِبل بعض النسوة، بغرض "التبرك" به، كما يتم توزيع بعض المرطبات والحلويات التونسية التقليدية على الضيوف، وبحسب المؤرخين تعود المقامات والطرق الصوفية في تونس إلى القرن الثاني عشر الميلادي، وتنتشر في مختلف المدن التونسية؛ كي يمنحها وفق المعتقد الشعبي "بركة، أو يدفع عنها ضررًا"، وهذا من الشرك البواح المعلوم بالضرورة، كما أنك ترى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شبه معدوم، فتمت غزوة الغرب للبلاد بدون مقاومة من أهلها منتصرة، رافعة لواء الفساد في البلاد، فكثُر الفساد، واعتِيد الباطل.

 

تقديس القبور وزيارة المشاهد تقليدٌ شيعيٌّ في نشأته؛ فالشيعة هم أول من بنى المشاهد على القبور، حيث تتبعوا - أو زعموا تحري - قبور من مات قديمًا ممن يعظمونهم من آل البيت، وراحوا يبنون على قبورهم، ويجعلونها مشاهدَ ومزاراتٍ، ثم جاء الصوفية فنسجوا على هذا المنوال، فجعلوا أهم مشاعرهم هو زيارة القبور وبناء الأضرحة والطواف بها والتبرك بأحجارها، والاستغاثة بالأموات، فقد جعلوا قبر معروف الكرخي - وهو رائد من رواد التصوف - مكانًا لزيارتهم، وقالوا: قبر معروف ترياق مجرَّب[10].

 

وأصبح تقديسُ القبور والأضرحة لازمًا من لوازم الطرق الصوفية؛ بحيث لا يُتصوَّر أحد وجود طريقة صوفية من غير ضريح أو أكثر تقدسه، ومع تمكن الداء من جسد الأمة، ظهرت الحاجة إلى تعدد الأضرحة والمزارات، لتلبي رغبات من صرعتهم الأوهام[11].

 

ولهذا كان المتخذون القبورَ مساجدَ لمَّا كان فيهم من الشرك ما فيهم، قد فرقوا دينهم وكانوا شيعًا، فنجد كل قوم يعظِّمون متبوعهم أو نبيهم، ويقولون: الدعاء عند قبره مستجاب، وقلوبهم معلقة به دون غيره من قبور الأنبياء والصالحين، وإن كانوا أفضل منه، كما أن عُبَّاد الكواكب والأصنام كل منهم قد اتخذ إلهه هواه، فهو يعبد ما يؤلِّهُهُ، وإن كان غيره أفضل منه[12].

 

ويقف على رأس هذه البدع: ما يتعلق بالقبور، فقد أصبح اتخاذ القِباب والأضرحة على قبور من يُعتقد صلاحهم أحد ذرائع البدع القولية والعملية المكفِّرة وغير المكفرة[13].

 

وتتضمن ظاهرة القبورية أنواعًا من الانحرافات، وصنوفًا من المخالفات العقدية الشرعية، فترى جهلة المسلمين يفعلون عند القبور من العبادات ما لا يفعلون في بيوت الله التي أمر الله أن تُقام على ذكره، فيذبحون وينذرون للقبور وعندها، وتراهم يصلون ويطوفون، ويستغيثون وينادَون، ويتذللون ويخضعون للأموات في القبور بما لا يكاد يفعله أحدهم في مساجد الله تعالى[14].

 

فأضْحَتِ القبور مع ظاهرة القبورية مرتعًا لأصناف من الشرك بالله تعالى، ومسرحًا لأنواع من البدع والانحرافات المخالفة لدينه الحنيف[15].

 

وباتوا ينسُبون إلى القبور كلَّ ما يتعلق بالتدبير الإلهي للكون، وأصول الخصائص الربانية، فكثير من جهلة المسلمين الذين تأثروا بالقبورية يعتقدون أن القبور محلٌّ لشفاء الأمراض، وتفريج الكربات، وتحقيق الأمنيات، وإنزال المطر، وهبة الأولاد، وتكثير الذرية، وحفظ المال والأهل والولد[16].

 

يقول سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [فاطر: 3]، وينبه سبحانه وتعالى عباده ويرشدهم إلى الاستدلال على توحيده في إفراد العبادة له، كما أنه المستقل بالخلق والرزق، فكذلك فليُفرَد بالعبادة ولا يُشرَك به غيره من الأوثان[17].

 

أسال الله عز وجل أن يرد أمة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم إليه ردًّا جميلًا، ولا يجعل فيها شقيًّا ولا محرومًا.

 

ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة، إنك أنت الوهاب.

 

والله أعلم.

 

الحمد لله تم في أول يوم من ذي القعدة ١٤٤٣ هـ

 


[1] المنتدى دمعة على التوحيد، حقيقة القبورية، ص ١٥.

[2] رواه أبو داود بإسناد حسن، ورواته ثقات.

[3] صحيح بطرقه وشواهده، رواه ابن أبي شيبة، رواه في المختارة، وانظر كتاب "مجموع فتاوي ورسائل العثيمين".

[4] تفسير القرآن العظيم، تفسير ابن كثير، ٣٤٥.

[5] المسلك الرشيد إلى شرح كتاب التوحيد، د. سلطان العميري، ص ٤٣١.

[6] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ص٩٠٣، للشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي.

[7] شرح كشف الشبهات للشيخ محمد بن صالح العثيمين، ص ٩٦.

[8] شرح كشف الشبهات للشيخ محمد بن صالح العثيمين، ص ٩٧.

[9] دمعة على التوحيد، ص ١٣.

[10] دمعة على التوحيد حقيقة القبورية، ص ٢٢.

[11] نفس المرجع.

[12] مجموع الفتاوى، ج: ٢٧، ص ١٦٤.

[13] دمعة على التوحيد حقيقة القبورية، ص ٤٠.

[14] المسلك الرشيد الى شرح كتاب التوحيد، د. سلطان العميري، ص٤٣٩.

[15] نفس المرجع.

[16] نفس المرجع.

[17] تفسير القرآن العظيم، تفسير ابن كثير، ص٢٧٥.

___________________________________________________________

الكاتب: روضة محمد شويب