من درر العلامة ابن القيم عن القلوب -2
من علامات صحة القلب: أن لا يفتر عن ذكر ربه, ولا يسأم من خدمته, ولا يأنس بغيره, إلا بمن يدله عليه, ويُذكر به, ويذاكره بهذا الأمر
{بسم الله الرحمن الرحيم}
- أمراض القلب:
القلب يعترضهُ مرضان يتوارد عليه, إذا استحكما فيه كان هلاكه ومُوته, وهما: مرض الشهوات, ومرض الشبهات, وهذان أصلُ داء الخلق إلا من عافاه الله.
وقد ذكر الله تعالى هذين المرضين في كتابه:
أما مرض الشبهات, وهو أصعبهما وأقتلهما للقلب, ففي قوله تعالى في حقِّ المنافقين: ﴿ {في قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّـهُ مَرَضًا } ﴾ [البقرة:10]
وأما مرض الشهوة, ففي قوله: ﴿ { يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} ﴾ ]الأحزاب:32] أي: لا تَلِنَّ بالكلام فيطمعَ الذي في قلبه فجور وزنا.
وللقلب أمراض أُخر من: الرياء, الكِبر, والعُجب, والحسد, والفخر, والخُيلاء, وحبِّ الرياسة والعلوِّ في الأرض. هذه الأمراض كلُّها متولدة عن الجهل, ودواؤها العلم.
فأمراض القلوب أصعبُ من أمراض الأبدان, لأن غاية مرض البدن أن يُفضي بصاحبه إلى الموت, وأمَّا مرضُ القلب فيُفضي بصاحبه الشقاء الأبدي, ولا شفاء لهذا المرض إلا بالعلم.
ولهذا سمى الله تعالى كتابه شفاءً لأمراض الصدور, قال تعالى: ﴿ {يا أَيُّهَا النّاسُ قَد جاءَتكُم مَوعِظَةٌ مِن رَبِّكُم وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدورِ وَهُدًى وَرَحمَةٌ لِلمُؤمِنينَ} ﴾ [يونس:57] فحاجة القلب إلى العلم ليست كالحاجة إلى التنفُّس في الهواء بل أعظم
وبالجملة, فالعلم للقلب مثلث الماء للسَّمك إذا فقده مات.
[كتاب: مفتاح دار السعادة]
وقال رحمه الله: القلب إذا مرض بالشهوات لم تنجع فيه المواعظ.[كتاب: الروح]
وقال رحمه الله: قد يمرض القلب ويشتد مرضه, ولا يعرف به صاحبه لاشتغاله وانصرافه عن معرفة صحته وأسبابها, بل قد يموت وصاحبه لا يشعر بموته, وعلامة ذلك أنه لا تؤلمه جراحات القبائح, ولا يُوجعه جهله بالحق وعقائده الباطلة.
القلب إذا كان فيه مرض آذاه أدنى شيء من الشبهة أو الشهوة, حيث لا يقدر على دفعهما إذا وردا عليه, والقلب الصحيح القوي يطرقه أضعاف ذلك, وهو يدفعه بقوته وصحته.
مرض القلب...نوع لا يتألم به صاحبه في الحال...كمرض الجهل, ومرض الشبهات والشكوك, ومرض الشهوات, وهذا النوع هو أعظم النوعين ألماً, ولكن لفساد القلب لا يحس بالألم...وهذا أخطر المرضين وأصعبهما, وعلاجه إلى الرسل وأتباعهم, فهم أطباء هذا المرض.
كما أن القلب قد يتألم بما يتألم به البدن, ويشقى بما يشقى به البدن, فكذلك البدن يتألم كثيراً بما يتألم به القلب, ويُشقيه ما يشقيه.
[إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان]
- العين مرآة للقلب:
جعل سبحانه العينين... مرآتين للقلب؛ يظهر فيهما ما هو مودع فيه من الحب والبغض، والخير والشر، والبلادة والفطنة، والزيغ والاستقامة.
فيُستدل بأحوال العين على أحوال القلب, وهو أحد أنواع الفراسة الثلاثة, وهي: فراسة العين والأذن والقلب. فهما أي: العينان مرآة لما في القلب...ولذلك يستدل بأحوال العين على أحوال القلب من رضاه وغضبه وحبه وبغضه ونفرته وقُربِه.
[كتاب: التبيان في أيمان القرآن]
- غنى القلب:
غنى القلب: "سلامته من السبب" أي من الفقر إلى السبب, وشهوده, والاعتماد عليه, والركون إليه, والثقة به, فمن كان معتمداً على سبب غنياً به واثقاً به لم يطلق عليه اسم "الغني" لأنه فقير إلى الوسائط, بل لا يسمى صاحبه غنياً إلا إذا سلم من علة السبب استغناءً بالمسبب, بعد الوقوف على رحمته وتصرفه وحسن تدبيره, فلذلك يصير صاحبه غنياً بتدبير الله عز وجل.
فمن كملت له السلامة من علة الأسباب, ومن علة المنازعة للحكم, بالاستسلام له, والمسالمة أي بالانقياد لحكمه...حصل الغنى للقلب بوقوفه على حسن تدبيره ورحمته وحكمته....ثم يبقى عليه الخلاص من معنى آخر, وهو مخاصمة الخلق بعد الخلاص من منازعة الربِّ, فإن مخاصمة الخلق دليل على فقره إلى الأمر الذي وقعت فيه الخصومة من الحظوظ العاجلة, ومن كان فقيراً إلى حظٍّ من الحظوظ يسخط لفوته, ويخاصم الخلق عليه, لا يطلق عليه اسم الغنى حتى يسلم الخلق من خصومته لكمال تفويضه إلى وليّه وقيومه ومتولى تدبيره.
فمتى سلم العبد من علة فقره إلى السبب, ومن علَّة منازعته لأحكام الله عز وجل, ومن علة مخاصمته للخلق على حظوظ استحق أن يكون غنياً بتدبير مولاه, مفوضاً إليه, لا يفتقر قلبه إلى غيره, ولا يسخط شيئاً من أحكامه, ولا يخاصم عباده إلا في حقوق ربه, فتكون مخاصمته لله وبالله, ومحاكمته إلى الله. كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في استفتاح صلاة الليل: ( اللهم لك اسلمت وبك آمنت, وعليك توكلتُ, وإليك أنبتُ, وبك خاصمتُ, وإليك حاكمتُ )
[كتاب: طريق الهجرتين وباب السعادتين]
- القلب الميت المظلم:
القلب الميت المظلم الذي لم يعقل عن الله ولا انقاد لما بُعث به رسوله صلى الله عليه وسلم، ولهذا يصف سبحانه هذا الضرب من الناس بأنهم أموات غير أحياء، وبأنهم في الظلمات لا يخرجون منها، ولهذا كانت الظلمة مستولية عليهم من جميع جهاتهم، فقلوبهم مظلمة ترى الحق في صورة الباطل، والباطل في صورة الحق، وأعمالهم مظلمة، وأقوالهم مظلمة، وأحوالهم كلها مظلمة، وقبورهم ممتلئة عليهم ظلمة.
[كتاب: اجتماع الجيوش الإسلامية على حرب المعطلة والجهمية]
- القلب الحي المستنير:
القلب الحي المستنير هو الذي عقل عن الله، وفهِم عنه، وأذعن وانقاد لتوحيده ومتابعة ما بعث به رسوله صلى الله عليه وسلم،
[كتاب: اجتماع الجيوش الإسلامية على حرب المعطلة والجهمية]
- القلب خُلِق لمعرفة فاطره ومحبته وتوحيده والسرور به:
القلب خُلِقَ لمعرفة فاطره ومحبته وتوحيده والسرور به والابتهاج بحبه, والرضي عنه, والتوكل عليه, والحب فيه, والبغض فيه, والموالاة فيه, ودوام ذكره, وأن يكون أحبَّ إليه من كل ما سواه, وأرجى عنده من كل ما سواه, وأجلَّ في قلبه من كل ما سواه.
[كتاب: زاد المعاد في هدى خير العباد]
- القلب الزجاجي:
وأصحُّ القلوب: القلب الرقيق الصافي الصلب, فهو يرى الحقّ من الباطل بصفائه, ويقبله ويؤثره برقته, ويحفظه ويحارب عدوه بصلابته.
وهذا القلب الزجاجي, فإن الزجاجة جمعت بين الأوصاف الثلاثة.[كتاب: الروح]
- من أنفع الأمور للقلب:
قصر الأمل العلم بقرب الرحيل وسرعة انقضاء مدَّة الحياة وهو من أنفع الأمور للقلب فإنه يبعثه على...انتهاء الفرص...ويثير ساكن عزماته إلى دار البقاء, ويحثُّه على قضاء جهاز سفره وتدارك الفارط, ويزهده في الدنيا ويرغبه في الآخرة.
[كتاب: مدارج السالكين في منازل السائرين]
- حال القلب مع الملك والشيطان:
إذا تأملت حال القلب مع الملك والشيطان رأيت أعجب العجائب؛ فهذا يلم به مرةً، وهذا يلم به مرةً، فإذا ألمَّ به الملَكُ حدث من لمته الانفساح والانشراح، والنور والرحمة، والإخلاص والإنابة، ومحبة الله وإيثاره على ما سواه، وقصر الأمل والتجافي عن دار البلاء والامتحان والغرور، فلو دامت له تلك الحالة، لكان في أهنأ عيش وألذه وأطيبه، ولكن تأتيه لَمَّة الشيطان، فتحدث له من الضيق والظلمة، والهم والغم والخوف، والسخط على المقدور، والشك في الحق، والحرص على الدنيا وعاجلها، والغفلة عن الله ما هو من أعظم عذاب القلب.
ثم للناس في هذه المحنة مراتب لا يحصيها إلا الله عز وجل: فمنهم من تكون لمة الملك أغلب عليه من لمة الشيطان وأقوى، فإذا ألم به الشيطان وجد من الألم والضيق والحصر وسوء الحال بحسب ما عنده من حياة القلب، فيبادر إلى محو تلك اللمة ولا يدعها تستحكم؛ فيصعب تداركها. ومنهم من تكون لمة الشيطان أغلب عليه من لمة الملك وأقوى...فيموت القلب فلا يحس بما ناله الشيطان، مع أنه غاية العذاب والألم والضيق والحصر ولكن سكر الشهوة والغفلة حجب عنه الإحساس بذلك المؤلم
[كتاب: التبيان في أيمان القرآن]
- القلب ومعرفته بأسماء الله عز وجل وصفاته:
ليست حاجة الأرواح قطُّ إلى شيءٍ أعظم منها إلى معرفة بارئها وفاطرها, ومحبته وذكره, والابتهاج به, وطلب الوسيلة إليه والزُّلفى عنده, ولا سبيل إلى هذا إلا بمعرفة أوصافه وأسمائه, فكلما كان العبدُ بها أعلم, كان بالله أعرف, وله أطلب, وإليه أقرب, وكلما كان لها أنكر, كان بالله أجهل, وإليه أكره, ومنه أبعد.
والله تعالى ينزل العبد من نفسه حيث يُنزلُه العبدُ من نفسه, فمن كان لِذِكر أسمائه وصفاته مُبغضاً, وعنها معرضاً, نافراً ومنفراً, فالله له أشدُّ بغضاً, وعنه أعظم إعراضاً, وله أكبرُ مقتاً, حتى تعود القلوب على قلبين: قلب ذكرُ الأسماء والصفات قوته وحياتهُ، ونعيمُه وقُرةُ عينه، لو فارقه ذكرها ومحبتها ساعة لاستغاث: يا مقلب القلوب ثبِّت قلبي على دينك. والقلب الثاني: قلب مضروب بسياط الجهالة، فهو عن معرفة ربه ومحبته مصدود، وطريق معرفة أسمائه وصفاته كما أُنزلت عليه مسدود، قد قمَشَ شُبهًا من الكلام الباطل، وارتوى من ماءٍ آجن غير طائل، تعجُّ منه آياتُ الصفات وأحاديثها إلى الله عجيجًا وتضجُّ منه إلى مُنزلها ضجيجًا مما يسمونه تحريفًا وتعطيلًا, مُزجي البضاعة من العلم النافع المورث عن خاتم الرسل والأنبياء لكنه مليء بالشكوك والشُّبَه والجدال [كتاب: الكافية الشافعية في الانتصار للفرقة الناجية]
- قلب العاصي:
لو فتش العاصي عن قلبه لوجد حشوه المخاوف والانزعاج والقلق والاضطراب وإنما يواري عنه شهود ذلك سُكرُ الغفلة والشهوة فإن للشهوة سُكراً يزيد على سكر الخمر وكذلك الغضب له سكر أعظم من سكر الشراب ولهذا ترى العاشق والغضبان يفعل ما لا يفعله شارب الخمر. [كتاب: الروح]ـ
- القرآن شفاء لأمراض القلب:
أنفع الأغذية: غذاء الإيمان, وأنفع الأدوية: دواء القرآن, وكل منهما فيه الغذاء والدواء
قال الله تعالى: ﴿ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ} ﴾ [يونس:57] وجماع أمراض القلب...أمراض الشبهات والشهوات, والقرآن شفاء للنوعين.....ولكن ذلك موقوف على فهمه ومعرفة المراد منه.
القرآن...شفاؤه لمرض الشهوات...بما فيه من الحكمة والموعظة الحسنة, بالترغيب والترهيب والتزهيد في الدنيا, والترغيب في الآخرة, والأمثال والقصص التي فيها أنواع العبر والاستبصار فيرغب القلب السليم إذا أبصر ذلك فيما ينفعه في معاشه ومعاده.
القرآن مزيل للأمراض الموجبة للإرادات الفاسدة, فيصلح القلب, فتصلح إرادته, ويعود إلى فطرته التي فُطِرَ عليها, فتصلح أفعاله الاختيارية الكسبية....فيتغذى القلب من الإيمان والقرآن بما يزكيه ويقويه, ويؤيده ويفرحه, ويسره وينشطه.
[كتاب: إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان]
- زكاة القلب:
القلب إذا تخلص من الذنوب بالتوبة فقد استفرغ من تخليطه فتخلصت قوة القلب وإرادته للخير, فاستراح من تلك الجواذب الفاسدة والمواد الرديئة, زكا ونما, وقوي واشتد, وجلس على سرير ملكه, ونفذ حكمه في رعيته, فسمعت له وأطاعت.
القلب لا سبيل له إلى زكاته إلا بعد طهارته كما قال تعالى ﴿ {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } ﴾[النور:30] فجعل الزكاة بعد غض البصر وحفظ الفرج [إغاثة اللهفان]
- من علامات صحة القلب:
** كلما صح القلب من مرضه ترحل إلى الآخرة, وقرب منها, حتى يصير من أهلها, وكلما مرض القلب واعتل آثر الدنيا واستوطنها, حتى يصير من أهلها.
** من علامات صحة القلب: أن لا يفتر عن ذكر ربه, ولا يسأم من خدمته, ولا يأنس بغيره, إلا بمن يدله عليه, ويُذكر به, ويذاكره بهذا الأمر...وإذا فاته ورده وجد لفواته ألماً أعظم من تألم الحريص بفوات ماله وفقده.
** ومن علامات صحة القلب: أنه لا يزال يضرب على صاحبه, حتى ينيب إلى الله ويخبت إليه, ويتعلق به تعلق المحب المضطر إلى محبوبه, لذي لا حياة له ولا فلاح ولا نعيم ولا سرور إلا برضاه وقربه والأنس به.
** ومن علامات صحته: أنه إذا دخل في الصلاة ذهب عنه همُّه وغمُّه بالدنيا, واشتد عليه خروجه منها, ووجد فيها راحته ونعيمه, وقُرة عينه وسرور قلبه.
** ومنها: أن يكون أشحَّ بوقته أن يذهب ضائعاً من أشد الناس شحاً بماله
** ومنها: أن يكون اهتمامه بتصحيح العمل أعظم منه بالعمل, فيحرص على الإخلاص فيه والنصيحة والمتابعة والإحسان, ويشهد مع ذلك منة الله عليه فيه, وتقصيره في حق الله. [كتاب: إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان]
وفي الختام يقول طبيب القلوب العلامة ابن القيم رحمه الله: القلب يمرضُ كما يمرض البدن, وشفاؤهُ في التوبة والحمية, ويصدأُ كما تصدأ المرآةُ وجلاؤهُ الذكر, ويعرى كما يعرى الجسم وزينته التقوى, ويجوعُ ويظمأُ كما يجوع البدن, وطعامه وشرابه المعرفةُ والمحبة والتوكل والإنابة والخدمةُ. [كتاب: الفوائد]
كتبه / فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ
- التصنيف: