من درر العلامة ابن القيم عن الشيطان -2

منذ 2022-07-20

من مكايده: أنه يسحر العقل دائماً حتى يكيده, ولا يسلم من سحره إلا من شاء الله, فيزين له الفعل الذي يضره, حتى يخيل إليه أنه من أنفع الأشياء له, وينفره من الفعل الذي هو أنفع الأشياء له

 

الشيطان يشمُّ قلب العبد ويختبره, فإن رأى فيه داعية للبدعة وإعراضاً عن كمال الانقياد للسنة أخرجه عن الاعتصام بها, وإن رأى فيه حرصاً عليها وشدة طلبٍ لها لم يظفر به من باب اقتطاعه عنها, فأمره بالاجتهاد والجور على النفس ومجاوزة حد الاقتصاد فيها, قائلاً له: إن هذا خير وطاعة, والزيادة والاجتهاد فيها أولى, فلا تفتر مع أهل الفتور, ولا تنم مع أهل النوم, فلا يزال يحثه ويحرضه حتى يخرجه عن الاقتصاد فيها, فيخرجه عن حدها, كما أن الأول خارج عن هذا الحدّ, فكذا هذا الآخر خارج عن الحدِّ الآخر, وهذا حال الخوارج الذين يحقر أهل الاستقامة صلاتهم مع صلاتهم, وصيامهم مع صيامهم, وقراءتهم مع قراءتهم, وكلا الأمرين خروج عن السنة إلى البدعة, لكن هذا بدعة التفريط والإضاعة, والآخر إلى بدعة المجاوزة والإسراف.

[مدارج السالكين في منازل السائرين]

  • انتشار الأرواح الشيطانية عند إقبال الليل:

شرع عند إقبال الليل وإدبار النهار ذكر الرب تعالى بصلاة المغرب... كما شرع ذكر الله بصلاة الفجر عند إدبار الليل وإقبال النهار.

ولما كان الرب تبارك وتعالى يحدث عند كل واحد من طرفي إقبال الليل والنهار وإدبارهما ما يحدثه، ويبث من خلقه ما يشاء فينشر الأرواح الشيطانية عند إقبال الليل، وينشر الأرواح الإنسانية عند إقبال النهار، فيحدث هذا الانتشار في العالم أثره _  شرع سبحانه في هذين الوقتين هاتين الصلاتين العظيمتين.

[التبيان في أيمان القرآن]

من عقوبات المعاصي أنها مدد من الإنسان يمدّ به عدوه عليه:

ومن عقوبات الذنوب والمعاصي: أنها مدد من الإنسان يمد به عدوه عليه, وجيش يقويه به على حربه, وذلك أن الله سبحانه ابتلى...الإنسان بعدو لا يفارقه طرفة عين, ينام ولا ينام عنه, ويغفل ولا يغفل عنه, يراه هو وقبيلُه من حيث لا يراه, يبذل جهده في معاداته في كل حال, ولا يدع أمراً يكيده به يقدر على إيصاله إليه إلا أوصله, ويستعين عليه ببني أبيه من شياطين الجن وغيرهم من شياطين الإنس, قد نصب له الحبائل,...والفخاخ والشباك, وقال لأعوانه: دونكم عدوكم وعدو أبيكم, لا يفوتنكم, ولا يكن حظُّه الجنة وحظُّكم النار, ونصيبُه الرحمة ونصيبكم اللعنة, وقد علمتم أن ما جرى عليّ وعليكم من الخزي واللعن والإبعاد من رحمة الله فبسببه ومن أجله, فابذلوا جهدكم أن يكونوا شركاءنا في هذه البلية.

ودونكم ثغر العين, فإن منه تنالون بغيتكم, فإني ما أفسدت بني آدم بشيء مثل النظر, فإني أبذر به في القلب بذر الشهوة, ثم أسقيه بماء الأمنية, ثم لا أزال أعدُه وأمنّيه حتى أقوى عزيمته, وأقوده بزمام الشهوة إلى الانخلاع من العصمة.

ثم امنعوا ثغر الأذن أن يدخل منه ما يفسد عليكم الأمر, فاجتهدوا أن لا تدخلوا منه إلا الباطل, فإنه خفيف على النفس تستحليه وتستملحه, وتخيروا له أعذب الألفاظ وأسحرها للألباب...وإياكم أن يدخل من هذا الثغر شيء من كلام الله أو كلام رسوله صلى الله عليه وسلم أو كلام النصحاء, فإن غلبتم على ذلك ودخل من ذلك شيء فحُولوا بينه وبين فهمه وتدبره والتفكر فيه.

ثم...قوموا على ثغر اللسان, فإنه الثغر الأعظم...فأجروا عليه من الكلام ما يضره ولا ينفعه, وامنعوه أن يجري عليه شيء مما ينفعه.

 

فالرباط الرباط على هذا الثغر...فزينوا له التكلم بالباطل بكل طريق, وخوفوه من التكلم بالحق بكل طريق.

وكونوا أعواناً على الإنس بكل طريق, وادخلوا عليهم من كل باب, واقعدوا لهم كل مرصاد...اقعدوا...على سائر طريق الخير بالتنفير منها وذكر صعوبتها وآفاتها, ثم اقعدوا على طرق المعاصي, فحسنوها في أعين بني آدم, وزينوها في قلوبهم, واجعلوا أكبر أعوانكم على ذلك النساء, فمن أبوابهن فادخلوا عليهم, فنعم العون هن لكم.

واستعينوا يا بني بجندين عظيمين لن تغلبوا معهما:

أحدهما: جند الغفلة, فأغفلوا قلوب بني آدم عن الله والدار الآخرة بكل طريق...فإن القلب إذا غفل عن الله تمكنتم منه ومن أعوانه.

الثاني: جند الشهوات فزينوها في قلوبهم, وحسنوها في أعينهم.

وإذا رأيتم جماعة مجتمعين على ما يضركم من ذكر الله أو مذاكرة أمره ونهيه ودينه, ولم تقدروا على تفريقهم, فاستعينوا عليهم ببني جنسهم من البطالين, فقربوهم منهم, وشوشوا عليهم.  وبالجملة...فادخلوا على كل واحد من بني آدم من باب إرادته وشهوته, فساعدوه عليها, وكونوا عوناً له على تحصيلها.

ورابطوا على الثغور, وانتهزوا فرصكم فيهم عند الشهوة, والغضب, فلا تصطادون بني آدم في أعظم من هذين الموطنين.

واعلموا أنه ليس لكم في بني آدم سلاح أبلغ من هذين السلاحين, وإنما أخرجت أبويهم من الجنة بالشهوة, وإنما ألقيت العداوة بين أولادهم بالغضب.

وأعظم أسلحتهم فيكم وأمنع حصونهم: ذكر الله, ومخالفة الهوى, فإذا رأيتم الرجل مخالفاً لهواه, فاهربوا من ظله, ولا تدنوا منه.[الداء والدواء]

 

  • إذا غفل العبد عن ذكر الله جثم على قلبه الشيطان:

العبد إذا غفل عن ذكر الله جثم على قلبه الشيطان, وانبسط عليه, وبذر فيه أنواع الوساوس التي هي أصل الذنوب كلها, فإذا ذكر العبد ربه واستعاذ به انخنس وانقبض كما ينخس الشيءُ يتوارى.

فذكر الله تعالى يقمعُ الشيطان ويؤلمه ويؤذيه, كالسياط والمقامع التي تؤذي من يضربُ بها, ولهذا يكون شيطان المؤمن هزيلاً ضئيلاً مضنىً مما يعذبهُ المؤمن ويقمعه به من ذكر الله وطاعته.

[بدائع الفوائد]

  • قول: قبح الله الشيطان, مما يفرح الشيطان:

قول القائل: أخزى الله الشيطان, وقبح الله الشيطان, فإن ذلك كُلهُ يُفرحهُ, ويقول علم ابن آدم أني قد نلته بقوتي...فأرشد النبي صلى الله عليه وسلم من مسه شيء من الشيطان أن يذكر الله تعالى, ويذكر اسمه, ويستعيذ بالله منه, فإن ذلك أنفع له.

لما كان الشيطان: نوع يُرى عياناً وهو شيطان الإنس ونوع لا يُرى وهو شيطان الجن أمر سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يكتفي من شر شيطان الإنس بالإعراض عنه والعفو والدفع بالتي هي أحسن ومن شيطان الجن بالاستعاذة بالله منه

[زاد المعاد]

  • من مكايد الشيطان:

& من كيده للإنسان: أنه يُورده الموارد التي يُخيل إليه أن فيها منفعته, ثم يُصدرُهُ المصادر التي فيها عطبه, ويتخلى عنه ويُسلمه ويقف يشمت به, ويضحك منه, فيأمره بالسرقة والزنى والقتل ويدل عليه ويفضحه

& من كيد عدو الله أنه يخوف المؤمنين من...أوليائه, فلا يجاهدونهم, ولا يأمرونهم بالمعروف ولا ينهونهم عن المنكر وهذا من أعظم كيده بأهل الإيمان وكلما قوي إيمان العبد زال من قلبه خوف أولياء الشيطان وكلما ضعف إيمانه قوي خوفه منهم

& من مكايده: أنه يسحر العقل دائماً حتى يكيده, ولا يسلم من سحره إلا من شاء الله, فيزين له الفعل الذي يضره, حتى يخيل إليه أنه من أنفع الأشياء له, وينفره من الفعل الذي هو أنفع الأشياء له, حتى يخيل له أنه يضره.

& من كيده: أنه يحسن إلى أرباب التخلي والزهد والرياضة العمل بهاجسهم وواقعهم, دون تحكيم أمر الشارع, ويقولون: القلب إذا كان محفوظاً مع الله كانت هواجسه وخواطره معصومة من الخطأ! وهذا من أبلغ كيد العدو فيهم.

& من أعظم مكايده التي كاد بها أكثر الناس, وما نجا منها إل من لم يرد الله فتنته: ما أوحاه قديماً وحديثاً إلى...أوليائه من الفتنة بالقبور حتى آل الأمر فيها أن عبد أربابها من دون الله وعُبدت قبورهم واتخذت أوثاناً وبُنيا عليها الهياكل وعبدت مع الله

& من مكايد عدو الله ومصايده التي كاد بها من قل نصيبه من العلم والعقل والدين, وصاد بها قلوب الجاهلين والمبطلين: سماع المكاء والتصدية, والغناء بالآلات المحرمة, الذي يصد القلوب عن القرآن, ويجعلها عاكفة على الفسوق والعصيان.

& من مكايده ومصايده: ما فتن به عُشَّاق الصور: وتلك لعمر الله الفتنة الكبرى, والبلية العظمى, التي استبعدت النفوس لغير خالقها, وملكت القلوب لمن يسومها الهوان من عشاقها, وألقت الحرب بين العشق والتوحيد, ودعت إلى موالاة كل شيطان مريد, فصيرت القلب للهوى أسيراً, وجعلته حاكماً وأميراً, فأوسعت القلوب محنة, وملأتها فتنة, وحالت بينها وبين رُشدها, وصرفتها عن طريق قصدها

& من مكايده التي كاد بها الإسلام وأهله: الحيل, والمكر, والخداع, الذي يتضمن تحليل ما حرمه الله, وإسقاط ما فرضه, ومضادته في أمره ونهيه, وهي من الرأي الباطل الذي اتفق السلف على ذمه.

& من كيده العجيب: أنه يشامُّ النفوس, حتى يعلم أي القوتين تغلب عليها: قوة الإقدام والشجاعة, أم قوة الانكفاف والإحجام والمهانة.  

فإن رأى الغالب على النفس المهانة والإحجام أخذ في تثبيطه وإضعاف همته وإراداته عن المأمور به وثقله عليه, وهون عليه تركه, حتى يتركه جملة أو يقصر فيه ويتهاون به

وإن رأى الغالب علية قوة الإقدام وعلو الهمة أخذ يقلل عنده المأمور به, ويوهمه أنه لا يكفيه, وأنه يحتاج معه إلى مبالغة وزيادة.

وقد اقتطع أكثر الناس إلا أقل القليل في هذين الوادين: وادي التقصير, ووادي المجاوزة والتعدي, والقليل منهم جداً الثابت على الصراط المستقيم الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

فقصّر بقوم في خلطة الناس حتى اعتزلوهم في الطاعات, كالجمعة والجماعات والجهاد وتعلم العلم, وتجاوز بقوم حتى خالطوهم في الظلم والمعاصي والآثام.

وقصّر بقوم حتى منعهم من الاشتغال بالعلم الذي ينفعهم, وتجاوز بآخرين حتى جعلوا العلم وحده هو غايتهم, دون العمل به.

وقصّر بقوم حتى قالوا: إن الله سبحانه لا يُشفَّع أحداً في أحد البتة, ولا يرحم أحداً بشفاعة أحدٍ, وتجاوز بآخرين حتى زعموا أن المخلوق يشفع عنده بغير إذنه, كما يشفع ذو الجاه عند الملوك ونحوهم. وقصّر بقوم حتى نفوا حقائق أسماء الرب تعالى وصفاته وعطلوه منها, وتجاوز بآخرين حتى شبهوه بخلقه ومثلوه بهم.

وقصّر بقوم حتى عادوا أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقاتلوهم, واستحلوا من حرمتهم, وتجاوز بقوم حتى ادعوا فيهم خصائص النبوة من العصمة وغيرها, وربما ادعوا فيهم الإلهية. 

وقصّر بقوم حتى أخملوا أعمال القلوب ولم يلتفتوا إليها, وعدوها فضلاً أو فضولاً, وتجاوز بآخرين حتى قصروا نظرهم وعملهم عليها, ولم يلتفتوا إلى كثير من أعمال الجوارح.[إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان]

                            كتبه/ فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ