الحبور في الاستجابة لله وللرسول
المؤمن في هذه الحياة سائر في طريق، وهذا الطريق له مقصود وغاية، وهو طاعة ذي الجلال ورضا الكبير المتعال، متحققًا ومتيقنًا بأنه عبد لله تبارك وتعالى، وأن واجبه في هذه الحياة تحقيق العبودية لله عز وجل، فهو يسير في هذه الحياة ليعرف ربه.
إن الأخلاق الشريفة تنشأ من القلوب، والأخلاق الذميمة تنشأ من النفوس، والصادق في طلب الله والدار الآخرة هو الذي يسرع في طهارة قلبه، ورياضة نفسه، حتى تتبدل أخلاقه، فيتبدل الشك بالتصديق، والشرك بالتوحيد، والمنازعة بالتسليم، والسخط والاعتراض بالرضا والتفويض ... ويرى أنه ما وفَّى الله حقه في ساعة من الساعات، ولا قام بشكر ما أعطاه من فعل الخيرات، فحينئذٍ تتحقق العبودية، ويصفو التوحيد، ويطيب العيش مع الله في الدنيا كعيش أهل الجنان في الآخرة.
والنفس ما دامت باقية بأخلاقها وصفاتها الدنيئة؛ فحركات العبد كلها متابعة لخواطر النفس؛ وهي لشيئين؛ إما للخَلْقِ، وذلك شرك، وإما لراحتها، وذلك هو الهوى.
والشرك لا يترك التوحيد يصفو، والهوى لا يترك العبودية تصفو، وما لم يشتغل العبد بإضعاف هذا العدو الذي بين جنبيه – الذي هو النفس – لا يصحُّ له قدم، ولو أتى بأعمال تسدُّ الخافقين، والرجل كلُّ الرجل من داوى الأمراض من الخارج، وشرع في قلع أصولها من الداخل، حتى يصفو وقته، ويطيب ذكره، ويدوم أنسه[1].
وسر سعادة العبد في تقوى الله، فإن من اتقى الله وقاه؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال: 29]، وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3].
وتقوى الله لا تكون إلا بفعل المأمور وترك المحظور، فسعادة العبد وحياته الحقيقية في الاستجابة لله والرسول، وكلما ازداد تمسُّك العبد وخضوعه للكتاب والسنة تحكيمًا وإذعانًا، وقبولًا وتسليمًا؛ ارتقى في درجات الحياة الطيبة، ومن لم تحصل له هذه الاستجابة لله وللرسول فلا حياة له، وإن كانت له حياة بهيمية مشتركة بينه وبين أراذل الحيوانات.
فالحياة الحقيقية الطيبة هي حياة من استجاب لله والرسول ظاهرًا وباطنًا، وأكمل الناس حياة أكملهم استجابةً لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال: 24].
وقد بيَّن الله عز وجل في غير موضع في كتابه العزيز أن الحياة الحقيقة في شرعه ومنهجه، والذي لا يستجيب لشرعه فهو ميت، وإن يحظى بحياة البهائم التي تقتصر على شهوة البطن والفَرْجِ.
قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122]، وقال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].
بل بيَّن سبحانه أن من مات وهو مستجيب لربه فهو حي، وإن لم يكن بين الناس؛ قال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [آل عمران: 169، 170].
وشبَّه سبحانه من لم يستجب لشرعه بالميت وإن كان ظاهره الحياة؛ قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22].
وقال تعالى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [النمل: 80]؛ قال قتادة رحمه الله: "هذا مَثَلٌ ضربه الله للكافر، فكما لا يسمع الميت الدعاء، كذلك لا يسمع الكافر".
فالحياة الكاملة في الاستجابة الكاملة، وحظ العبد من هذه الحياة على قدر استجابته، وما وصل الجيل الأول إلى ما وصل إليه إلا بتحقيق هذه الأمر؛ وهو الاستجابة لله والرسول، فلما كانت استجابتهم كاملة، كانت لهم الحياة الكاملة، وكانت لهم الرفعة والسيادة على أباطرة الأرض.
فلا تجد في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من يسأل عن الحكمة من الأمر أو النهي، لا تجد فيهم من يؤجل فعل المأمور وترك المحظور، ولكن إذا سمعوا أمرًا عن الله أو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بادروا بالتنفيذ دون لجاجة أو تردد، دون فلسفة وسؤال: ما الحكمة؟ وما الدليل؟ دون تنطع بالقول وتفلسف بقول: أريد أن أقتنع، وإنما كانوا كما قال الله عز وجل فيهم: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور: 51].
يكفيهم فقط أن يعلموا أن الله أمر أو نهى، أو أن رسول الله أمر أو نهى، يأتي أحد المشركين لأبي بكر رضي الله عنه فيقول له: ((هل لك إلى صاحبك يزعم أنه أُسريَ به الليلة إلى بيت المقدس؟ قال: أو قال ذلك؟ قالوا: نعم، قال: لئن كان قال ذلك لقد صدق، قالوا: أو تصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح؟ قال: نعم، إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة)).
فهذه الجملة على وجازتها تصلح أن تكون منهاجًا للمسلم في التعامل مع نصوص الكتاب والسنة، كما تكشف محور الصراع مع تلك الشرذمة من العلمانيين والمشككين.
فالذي يكفي المسلم هو التحقق من صدق المقالة عن الله وعن رسوله، فإن تأكد من صدقها فليس له أن يجادل، أو يتفلسف، ليس له أن يتأخر عن الاستجابة إن كانت في مقدوره.
فهذا هو المسلم الحق الذي يحيا الحياة الحقيقة؛ التي ذكرها رب العزة جل في علاه تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].
المؤمن في هذه الحياة سائر في طريق، وهذا الطريق له مقصود وغاية، وهو طاعة ذي الجلال ورضا الكبير المتعال، متحققًا ومتيقنًا بأنه عبد لله تبارك وتعالى، وأن واجبه في هذه الحياة تحقيق العبودية لله عز وجل، فهو يسير في هذه الحياة ليعرف ربه.
الطريق الموصلة إلى الحق سبحانه لیست مما يُقطع بالأقدام،وإنما يُقطع بالقلوب.
والله رب العالمين قد حذرنا من عقوبة عدم الاستجابة لأمره ولأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يحول بينه وبين هذا القلب؛ فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال: 24].
أي: واعلموا - أيها المؤمنون - أن الله تعالى يحجز بين العبد وقلبه إذا شاء، فلا يستطيع المرء أن يدرك ويعي به شيئًا من حق أو باطل، إلا بإذن الله تعالى، فقلوبكم بيد خالقكم سبحانه، يصرفها ويقلبها كيف يشاء؛ يصرفها من الهدى إلى الضلالة، ومن الضلالة إلى الهدى، فإياكم أن تردوا أمر الله حين يأتيكم، أو تتثاقلوا وتتباطؤوا عن الاستجابة له، فلا تأمنوا حينها أن يُحال بينكم وبين قلوبكم، فلا تقدروا على الاستجابة بعد ذلك إذا أردتموها.
وبيَّن سبحانه أن مخالفة أوامره قد تودي بالمرء أن يرتد عن دينه، أعاذنا الله وإياكم؛ قال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63].
قال الإمام أحمد رحمه الله: أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك، لعله إذا رد بعض قوله، أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك.
فمخالفة أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم قد تجر المرء إلى الكفر بالله.
وعدم الاستجابة لله والرسول صلى الله عليه وسلم سبب في ضيق العيش؛ قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا} [طه: 124، 125].
قال ابن كثير رحمه الله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي} [طه: 124]؛ أي: خالف أمري، وما أنزلته على رسولي، فإن له معيشة ضنكًا في الدنيا، فلا طمأنينة له، ولا انشراح لصدره، بل صدره ضيقحرج لضلاله، وإن تنعم ظاهره، ولبس ما شاء وأكل ما شاء، وسكن حيث شاء، فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى، فهو في قلق وحيرة وشك، فلا يزال في ريبة يتردد، فهذا من ضنك المعيشة.
[1] ضوء الشمس في معرفة أحوال النفس، ص97.
- التصنيف: