{إن الله يغفر الذنوب جميعا}
هذه الآية تدل على كمال رحمة الله، وفضله وإحسانه في حق العبيد
قال تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53].
هذه الآية تدل على كمال رحمة الله، وفضله وإحسانه في حق العبيد، وقد سبق هذه الآية آياتُ الوعيد الشديدة حتى بلغت من نفوس سامعيها أي مبلغ من الرعب والخوف، وقد يبلغ بهم وقعها مبلغ اليأس من سعي يُنْجيهم من وعيدها، فأعقبها الله ببعث الرجاء في نفوسهم للخروج إلى ساحل النجاة إذا أرادوها على عادة هذا الكتاب المجيد من مداواة النفوس بمزيج الترغيب والترهيب.
قال ابن كثير رحمه الله: هذه الآية الكريمة دعوة لجميع العُصاة من الكفرة وغيرهم إلى التوبة والإنابة، وإخبار بأن الله يغفر الذنوب جميعًا لمن تاب منها ورجع عنها، وإن كانت مهما كانت، وإن كثرت وكانت مثل زبد البحر.
ثم ذكر ابن كثير رحمه الله أنه يُستثنى من عموم المغفرة طائفة من الناس وهم المشركون، فلا يصحُّ حمل هذه الآية عليهم حال كفرهم وشركهم؛ لأن الشرك لا يُغفَر لمن لم يَتُبْ منه، وهذا كلامٌ صحيح.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما، أنَّ ناسًا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، فأتوا محمدًا صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفَّارة، فنزل: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} [الفرقان: 68]، ونزل قوله: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر: 53]؛ (رواه البخاري ومسلم) .
عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} إلى آخر الآية، قال: قد دعا الله إلى مغفرته من زعم أن المسيح هو الله، ومن زعم أن المسيح هو ابن الله، ومن زعم أن عزيرًا ابن الله، ومن زعم أن الله فقير، ومن زعم أن يد الله مغلولة، ومن زعم أن الله ثالث ثلاثة، يقول الله تعالى لهؤلاء: {أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 74].
وعن ابن مسعود أنه قال: إن أعظم آية في كتاب الله: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255]، وإن أجمع آية في القرآن بخيرٍ وشرٍّ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل: 90]، وإن أكثر آية في القرآن فرجًا في سورة الغرف: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر: 53]، وإن أشد آية في كتاب الله تصريفًا {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3].
و(الإسراف): الإكثار، والمراد به هنا الإسراف في الذنوب والمعاصي.
و(القنوط): اليأس، وقد نهى الله عنه في كتابه كما في قوله تعالى: {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر: 56]، وقال: {يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87].
ومادة الغفر ترجع إلى الستر، وهو يقتضي وجود المستور واحتياجه للستر، فدلَّ يغفر الذنوب على أن الذنوب ثابتة؛ أي: المؤاخذة بها ثابتة والله يغفرها؛ أي: يزيل المؤاخذة بها، وهذه المغفرة تقتضي أسبابًا، منها: قوله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه: 82] فكأن قوله: {إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ} [الزمر: 53] دعوة إلى تطلُّب أسباب هذه المغفرة، فإذا طلبها المذنب حصلت له المغفرة.
وقيل: لو صارت الذنوب بأسْرِها مغفورةً لما أمر بالتوبة، فالجواب: أن عندنا التوبة واجبة وخوف العقاب قائم، فإنا لا نقطع بإزالة العقاب بالكلية؛ بل نقول: لعله يعفو مطلقًا، ولعله يعذب بالنار مدة ثم يعفو بعد ذلك.
وهذا الخطاب يشمل المشركين والمؤمنين، فيأخذ كل فريق منه بنصيب، فنصيب المشركين الإنابة إلى التوحيد واتِّباع دين الإسلام، ونصيب المؤمنين منه التوبة إذا أسرفوا على أنفسهم والإكثار من الحسنات، وأمَّا الإسلام فهو حاصل لهم.
ومن الفوائد في الآية:
1- أنه سبحانه سمَّى المذنب بالعبد، وهذا يعني أنه لم يطرد، وأنه أهل للرحمة.
2- أنه تعالى أضافهم إلى نفسه بياء الإضافة.
3- أنه تعالى قال: {أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} ومعناه: أن ضرر تلك الذنوب ما عاد إليه؛ بل هو عائد إليهم.
4- أنه قال: {لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} نهاهم عن القنوط، فيكون هذا أمرًا بالرجاء، والكريم إذا أمر بالرجاء فلا يليق به إلا الكرم، ولم يقل: (لا تقنطوا من رحمتي) لكنه قال: {لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} ؛ لأن قولنا الله أعظم أسماء الله وأجلها، فالرحمة المضافة إليه يجب أن تكون أعظم أنواع الرحمة والفضل، وكان من الممكن أن يقول: (إنه يغفر الذنوب جميعًا)؛ ولكنه أعاد اسم الله؛ ليدل على المبالغة في الوعد بالرحمة، وقال: {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} لفظ الغفور يُفيد المبالغة في المغفرة، والرحمة تفيد فائدة زائدة على المغفرة، فـ(الغفور) إشارة إلى إزالة موجبات العقاب، و(الرحيم) إشارة إلى تحصيل موجبات الرحمة.
ولما فتح لهم باب الرجاء أعْقَبَه بالإرشاد إلى وسيلة المغفرة، فقال: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} [الزمر: 54]، وهذا أمر بالتوبة، وقد ذكر الزمخشري في الكشاف أن المعنى: (وتوبوا إليه وأسلموا له؛ أي: وأخلصوا له العمل؛ وإنما ذكر الإنابة على أثر المغفرة؛ لئلا يطمع طامع في حصولها بغير توبة).
وذكر الرازي في تفسيره أن هذا على مذهبه المعتزلي في الوعيد، وهو غلط؛ لأن المغفرة قد تقع ابتداءً؛ يعني: في حق الموحِّدين، وتارة يُعذَّب المذنب مدة في النار، ثم يخرجه الله من النار ويعفو عنه.
واعلم أنه تعالى لما خوَّف المشركين والكافرين بالعذاب بيَّن تعالى أن بتقدير نزول العذاب بهم ماذا يقولون، فحكى الله تعالى عنهم ثلاثة أنواع من الاعتذارات الواهية الباطلة:
•الحسرة على التفريط في طاعة الله تعالى، ولم يكفه أن ضيَّع طاعة الله حتى سخر من أهلها، فقال تعالى: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر: 56].
•تمنِّي الهداية والتقوى، قال: {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [الزمر: 57].
•تمني الرجوع والإحسان، قال: {أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر: 58].
وحاصل الكلام أن هذا المقصر أتى بثلاثة أشياء:
أولها: الحسرة على التفريط في الطاعة.
وثانيها: التعلُّل بفقد الهداية.
وثالثها: تمنِّي الرجعة والإحسان.
وقد أجاب الله تعالى عن كلامهم بأن قال التعلُّل بفقد الهداية باطل؛ لأن الهداية كانت حاضرة، والأعذار زائلة، وهو المراد بقوله: {بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الزمر: 59]، فبيَّن تعالى أن الحجة عليهم لله؛ لا أن الحجة لهم على الله.
- التصنيف: