من آداب الصيام: الإخلاص في الصيام وفي غيره من الأعمال

منذ 2023-04-07

قال الفضيل بن عياض رحمه الله: أَحْسَنُ عَمَلًا هو: أخلصه وأصوبه، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة

مما لا شك فيه أن الله خلقنا لعبادته فقال سبحانه:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، ثم أمرنا بعد ذلك بالإخلاص في هذه العبادة، فقال عز وجل:{وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5]، فالإخلاص شرطٌ لقبول الأعمال والأقوال والأحوال: قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك: 2].

 

قال الفضيل بن عياض رحمه الله: أَحْسَنُ عَمَلًا هو: أخلصه وأصوبه، قالوا: يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه؟ فقال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يُقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يُقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة، ثم قرأ قوله تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].

 

قال ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية السابقة: 3/ 114: وهذان ركنا العمل المتقبل، لابد أن يكون خالصًا لله صوابًا على شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ اهـ؛ قال تعالى:{وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125].

 

فإسلام الوجه: إخلاص القصد والعمل لله، والإحسان فيه: متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته؛ (مدارج السالكين لابن القيم: 2/ 90).

 

فبالإخلاص تتحقق صحة الباطن، وبموافقة السنة تتحقق صحة الظاهر، وخلاف ذلك مردودٌ على صاحبه؛ كما قال تعالى:{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23].

 

وهي الأعمال التي أريد بها غير وجه الله، أو التي كانت على غير السنة، وأخرج أبو داود والنسائي بسند حسن من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أن رجلًا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أرأيتَ رجلًا غزا يلتمس الأجرَ والذكرَ ما له؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا شيءَ له»، فأعادها ثلاث مرات، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا شيء له»، ثم قال: «إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا، وابتُغي به وجهه» ؛ (الصحيحة: 52)، (صحيح الترغيب والترهيب: 8).

 

- أخرج الطبراني عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الدنيا ملعونة ملعون ما فيها، إلا ما ابتُغي به وجه الله» ؛ (صحيح الترغيب والترهيب:9) (صحيح الجامع: 3414).

 

اعلم أخي الحبيب - وفَّقنا الله وإياك - أن الشرط في قبول جميع أنواع الطاعات، والفوز بأجرها وثوابها - هو الإخلاص، وكل عمل لا يصدر عن إخلاص فهو إلى ضياع.

 

قال ابن القيم - رحمه الله - في كتابه الفوائد: الإخلاص والتوحيد شجرة في القلب، فروعها الأعمال، وثمرها طيبُ الحياة في الدنيا والنعيم المقيم في الآخرة، وكما أن ثمار الجنة لا مقطوعة ولا ممنوعة، فثمرة التوحيد والإخلاص في الدنيا كذلك، والشرك والكذب والرياء شجرة في القلب، ثمرها في الدنيا الخوف، والهم، والغم، وضيق الصدر، وظلمة القلب، وثمرها في الآخرة الزقوم والعذاب المقيم، وقد ذكر اللهُ هاتين الشجرتين في سورة إبراهيم.

 

قال تعالى:{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} [ابراهيم: 24-26]، فالمسلم يبتغي بصومه ثواب الله ومرضاته والدار الآخرة، ولا يكون غرضه في ذلك سمعة أو ذكرًا أو عرضًا من أعراض الدنيا، وهذا شرط لصحة الصوم لا يُقبل بدونه، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «من صام رمضان إيمانًا[1] واحتسابًا[2]، غفر له ما تقدم من ذنبه» ؛ (متفق عليه).

 

وأخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له[3] إلا الصيام فإنه لي، وأنا أجزي به...».

 

وفي رواية لمسلم: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعفُ له، الْحَسَنَةُعَشْرُ أَمْثَالِهَا إلى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ، قَالَ اللَّهُ عز وجل: إلا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْأَجْلِي...».

 

قال ابن عبدالبر - رحمه الله -: كفى بقوله: «إلا الصيام فإنه لي»  فضلًا للصيام على سائر العبادات.

 

وقد اختلف العلماء في المراد بقوله تعالى: «الصيام لي وأنا أجزي به»  على أقوال: ذكرها الإمام النووي رحمه الله في شرح مسلم: 8/ 29، ومن هذه الأقوال: أنه لم يُعبَد أحدٌ غير الله تعالى بهذه العبادة (الصيام)، فلم يعظِّم الكفار في عصر من العصور معبودًا لهم بالصيام، وإن كانوا يعظمونه ويتقربون إليه بالصلاة، والسجود، والصدقة، والذكر، والخوف والرجاء، وغير ذلك.

 

وقيل: لأن الصوم بعيد عن الرياء لخفائه، بخلاف الصلاة، والحج، والغزو، والصدقة، وغيرها من العبادات الظاهرة، فالصوم لا يظهر من ابن آدم في قول ولا عمل، وإنما هو نية ينطوي عليها صاحبها ولا يعلمها إلا الله، وليست مما تظهر، فتكتبها الحفظة كما تكتب الذكر والصلاة والصدقة والحج وسائر الأعمال، وقيل: لأنه ليس للصائم ونفسه فيه حظ، (قاله الخطابي رحمه الله)، وقيل غير ذلك.

 

وذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح: 8/ 412 هذه الأسباب وزاد عليها، ثم رجَّح بعض الأجوبة على غيرها، فرجح القول: بأن الصوم لا يقع فيه الرياء كما يقع في غيره، والقول بانفراد الله بعلم مقدار ثوابه وتضعيف حسناته، وقد ذهب إلى ما رجحه ابن حجر صاحب تحفة الأحوذي.

 

وقال القرطبي رحمه الله: لما كانت الأعمال يدخلها الرياء، والصوم لا يطَّلع عليه بمجرد فعله إلا الله، فأضافه الله إلى نفسه، ولهذا قال في الحديث: يدع شهوته من أجلي؛ اهـ.

 

صور من الإخلاص في الصوم:

زين القراء محمد بن واسع رحمه الله قال عنه محمد بن بهرام: كان محمد بن واسع يصوم الدهر يخفي ذلك؛ (تهذيب الحلية: 2/ 351).

 

عمرو بن قيس الملائي أقام عشرين سنة صائمًا، ما يعلم به أهله، يأخذ غداءه ويغدو إلى الحانوت - الدكان - فيتصدق بغذائه، ويصوم وأهله لا يدرون، وكان إذا حضرته الرقة، يُحول وجهه إلى الحائط، ويقول لجلسائه: ما أشد الزكام...... حتى لا يرى أحد دموعه؛ (صفوة الصفوة: 3/ 124).

 

وها هو داود بن أبي هند رحمه الله صام أربعين سنة لا يعلم به أهله ولا أحدٌ، وكان خزازًا، يحمل معه غداءه من عندهم، فيتصدق في الطريق، ويرجع عشيًّا، فيُفطر معهم، فيظن أهل السوق أنه قد أكل في البيت، ويظن أهله أنه قد أكل في السوق؛ (صفة الصفوة: 3/ 300).


[1] إيمانًا: أي مؤمنًا بما ورد فيه من الثواب، والمراد بالإيمان هو الاعتقاد بحق فرضية صومه

[2] احتسابًا: أي مخلصًا في صيامه قاصدًا به وجه الله تعالى. وقال الخطابي: احتسابا: أي عزيمة؛ وهو أن يصومه على معنى الرغبة في ثوابه طيبة نفسه بذلك، غير مستثقل لصيامه، ولا مستطيل لأيامه.

[3] كل عمل ابن آدم له: أي له أجر محدد إلا الصوم فأجره بدون حساب، ويشهد لهذا المعنى رواية مسلم كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف، قال الله تعالى: إلا الصوم..

____________________________________________________
الكاتبك الشيخ ندا أبو أحمد