دردشة الإنترنت وسقوط الأندلس
منذ 2004-10-05
نفس القصة القديمة تتكرر كما هي.. ففي أوجِّ مجدها لم يكن أحد يتوقع أن تغرب شمس الإسلام عن الأندلس، وأن الضعف الذي حل بالأمة الإسلامية وقتئذ قد وصل إلى هناك.
ظل العدو لسنوات طوال يتربص بالمدينة، و يرسل جاسوسه للأندلس ليعرف هل آن أوان الهجوم .. كان هذا الجاسوس يسير في الطرقات فيجد شباباً يتنافسون على التباهي بمعلوماتهم الفقهية والدينية في مجالس العلم وجلسات الفقه، فيعود في كل مرة ليخبر ملكه أن الآوان لم يحن بعد .. وتمر السنين الطويلة ويعود الجاسوس إلى المدينة ليجد جلسات الفقه وقد اختفت، ويجد أحد الشباب يجلس باكياً فسأله عما به فقال له أن به مصيبة..
يعشق فتاة لا تحبه بل تحب غيره.. فذهب الجاسوس إلى ملكه وقال له أنه أخيراً قد حان الوقت؛ لقد أصابهم داء العشق.....
وكان سقوط الأندلس.
صديق طفولة كنت قد أعنته على شراء كمبيوتر له وأولاده منذ عدة سنوات، وقضيت عدة ساعات لتعليمه المبادئ الأساسية لنظام تشغيل ويندوز ميللينيوم الذي كان الأحدث وقتها وكذا كيفية الدخول على شبكة الإنترنت. الخ.
ولم يتطلب مني هذا إلا القليل من الوقت.. فالرجل أستاذ جامعي متفتح خريج مدارس اللغات ويتحدث الإنجليزية والفرنسية بطلاقة، كما أنه كثير الأسفار، وإن كان بينه وبين التقنيات الحديثة عداءً خفياً.
فاستخدامه لهاتفه المحمول لا يتعدى أزرار الرد أو عدم الرد على المكالمات.. أرسلت له رسالة قصيرة ذات يوم -وكنت حينها خارج البلاد- ولم يرد عليها وقتها، ثم خاطبني بعدها بعدة أسابيع يخبرني أن ابنته قد اكتشفت الرسالة -قدراً- أثناء مساعدتها له في إرسال رسالة أخرى قصيرة لأحد المعارف في مناسبة ما.
منذ عدة أسابيع اتصل بي هذا الصديق طالباً مقابلتي على الفور بغير موعد سابق، حيث لاحظت بمجرد رؤيته أنه في حالة مضطربة أثارت قلقي عليه.
وبدون محاولات مني لمعرفة الأسباب دهشت -لما كنت أعلم عن حياته الأسرية أنها حياة مستقرة مع زوجة مثقفة وعطوفة- عندما علمت أنه قد انفصل عن زوجته وأولاده، وأنه تزوج من سيدة مطلقة لمدة سنة تعرف عليها من خلال برنامج للدردشة على الإنترنت، وعلم أنها تعمل في نفس مجاله الأكاديمي، وانتهى الأمر بتضحيته بأسرته وبيته في سبيل الإنسانة التي توهَّم أن بها صفات أسمى من كل البشر، فاكتشف بعد ذلك أنها من الأصل دون البشر.
لقد كنت مرتبطاً بالإنترنت منذ بدايتها، والإنترنت بالنسبة لي كانت ومازالت نموذج للحياة الفعلية، فستجد فيها كافة نماذج البشر.. ولكن حقيقة الأمر أنها مثلها مثل البالون، ظاهرها ضخم وباطنها خاوي.
بعد عدة سنوات من انغماسي في هذا العالم الرقمي، اكتشفت أن المشكلة وراء استخدام الإنترنت في غير موضعها من أحاديث ولقاءات "إنترنتية" سببها أنهلكي تقوم بعمل أي علاقة اجتماعية جديدة في الماضي، كان لزاماً عليك الخروج من المنزل، أي "مقابلة" الناس وجهاً لوجه، والتعامل مع الآخرين بشكل ما من أشكال التعارف، معتمِداً في ذلك على حواسك الخمسة.. بينما الآن أصبح بالإمكان بكل بساطة فتح حاسبك، والولوج على شبكة الإنترنت والتواصل مع أشخاص لا تعلمهم، وربما لن تقابلهم في حياتك ذات يوم.
لبعض الناس، قد لا يشكل الأمر أي مشكلة، ولكن للبعض الآخر سيصبح هذا الأمر بديلاً عن الخروج ومقابلة أناس "حقيقيين"، والتفاعل مع عالم واقعي. إن سهولة التفاعل مع العالم التخيلي الذي تفرضه علينا شبكة الإنترنت، والتي -بالتأكيد- يتخللها تقمص الشخص لشخصية من خياله (بقصد أو بدون) قد لا تكون هي شخصيته الفعلية، و قد جعل منها بديلاً مفضلاً للبعض عن التواصل الطبيعي مع الآخرين.
وهكذا أصبح الأمر.. أشخاص ومستخدمين عديدين -كثير منهم إناث وفتيات وزوجات يملي عليهن مجتمعنا وعاداتنا وتقاليدنا وديننا، عدم التواصل مع الجنس الآخر بشكل فعلي- أن يقضوا ساعات عديدة أمام هذا العالم الساحر الذي يستطيعون فيها أن يكونوا كما يودون أن يكونوا.
وهكذا يقابل المستخدم شخصيات "تفصيل" لا تظهر حقيقتها إلا بمقدار ما تحمله أصابع صاحبها من كلمات يقوم بطرقها على لوحة المفاتيح.. فتصبح المقارنة ظالمة بين شريك يكد ويكدح.. لديه من المشاكل المادية والبدنية والعملية ما يدفعه للانفعال أو التصادم.. وبين فارس (أو فتاة) أحلام خالي من العيوب أو (قل لا يظهر من عيوبه شيء) بارعاً في إخفاء هذه العيوب وإظهار عكسها، بقدر قابلية الطرف الآخر للاستجابة له بناءً على تراكمات عديدة من إحباطات وصدمة في شريك حياة، واستعلاء للنفس وغياب الوازع الديني والأخلاقي ناسين (أو متناسين) أن العلاقات الإلكترونية بين الرجل والمرأة ليست هي المكان المناسب لبناء هذه العلاقة أو لاستعراض العواطف أو الأفكار، أو "الفضفضة" بمشكلات الحياة.
في رأيي، أن أهم أسباب حدوث هذا الانفصام عن الواقع، والانغماس في العلاقات الإلكترونية، هو اتساع الفجوة بين أفراد الأسرة، و خاصة بين الأزواج، فيلجأ أحد الزوجين للدردشة مع الشريك الإنترنتي من أجل الحصول على كلمة جميلة تعيد الثقة بالنفس، لتستمد الطاقة على الاستمرار بتلك الحياة الواقعية التي يعانيها، وتمر ساعات وساعات من الدردشة والالتصاق بالطرف الآخر تتخللها موضوعات عامة، ثم موضوعات أسرية يحكي فيها كل طرف عن خلفيته الاجتماعية وعلاقاته الأسرية، ثم بالاعتياد يتطرق الحديث بينهما إلى علاقات حميمة وأسرار خاصة و تخيلات متبادلة، لما يبغيه كل طرف من الآخر يستعرض فيه الرجل قوته السوبرمانية (التي هي أقل بكثير في الواقع) وتستعرض هي فيه أنوثتها (الإلكترونية)..
ويجد الشخص نفسه منساقاً نحو عواطف كاذبة، وحياة عاطفية من شخص يمطره بالكلمات (المجانية)، والعلاقات التخيلية الحميمة، ما لا يجده مع شريك حياته.. وتبدأ المشكلة أو قُل تنتهي المشكلة بمشكلة أكبر.
لقد قرأت يوماً هذه الفتوى التي ظهرت على موقع إسلام أون لاين، عن حرمة المحادثة عبر الشات والماسنجر كوسيلة للتعرف بين الرجل والمرأة.. حيث ذكرت الفتوى أنه لا يجوز تكوين صداقات بين الرجال والنساء عبر هذه الوسائل للأسباب التالية:
1-لأنه ذريعة إلى الوقوع في المحظورات، بداية من اللغو في الكلام، ومروراً بالكلام في الأمور الجنسية وما شابهها، وختاماً بتخريب البيوت، وانتهاك الأعراض.
2-لأنه موطن تنعدم فيه الرقابة، و لا توجد فيه متابعة ولا ملاحقة، فيفضي كلا الطرفين إلى صاحبه بما يشاء دون خوف من رقيب.
3-لأنه يستلزم الكذب إن عاجلاً أو لاحقاً، فإذا دخل الأب على ابنته أو الزوج على زوجته، وسألها ماذا تصنع، فلا شك في أنها ستلوذ بالكذب وتقول: إنني أحدث إحدى صديقاتي، أو أنني أتجول بين صفحات الإنترنت، وإذا سألها زوجها في المستقبل عما إذا كانت مرَّت بهذه التجربة فإنها لا شك ستكذب عليه.
4-لأنه يدعو إلى تعلق القلوب بالخيال والمثالية، حيث يصوِّر كل طرف لصاحبه أنه بصفة كذا وكذا، ويخفي عنه معايبه وقبائحه حيث الجدران الكثيفة، والحجب المنيعة التي تحول دون معرفة الحقائق، فإذا بالرجل والمرأة وقد تعلق كل منهما بالوهم والخيال، ولا يزال يعقد المقارنات بين الصورة التي طبعت في ذهنه، وبين ما يراه ويقابله في الواقع.
ويقول الشيخ محمد صالح المنجد -من علماء المملكة العربية السعودية-: "لا حرج على المرأة المسلمة من الاستفادة من الإنترنت، والدخول في الدردشة العامة ما لم يؤد ذلك إلى محذور شرعي، كالمحادثة الخاصة مع الرجال، وذلك لما يترتب على هذه المحادثات من تساهل في الحديث يدعو إلى الإعجاب والافتتان غالباً، ولهذا فإن الواجب هو الحزم والابتعاد عن ذلك، ابتغاء مرضاة الله، وحذراً من عقابه.
وكم جَرَّت هذه المحادثات على أهلها من شر وبلاء، حتى أوقعتهم في عشق وهيام، وقادت بعضهم إلى ما هو أعظم من ذلك، والشيطان يخيل للطرفين من أوصاف الطرف الآخر ما يوقعهما به في التعلق المفسد للقلب، المفسد لأمور الدنيا والدين.
ويقول الشيخ عبد الخالق الشريف - من علماء مصر- لشاب سأله عن نفس السؤال:
ما الغرض من هذه المحادثة، وإذا كان بغية التبادل الثقافي والفكري والمعرفي والمحاورة، فلماذا لا يكون مع شاب مسلم، وماذا أنت قائل لشاب يفعل ذلك مع أختك أنت أو زوجتك.
أسئلة عديدة وجدتها أثناء بحثي عن أسباب هذه العلاقة على الشبكة المذكورة، تلخصت في:
- لماذا يا ترى تتسع الفجوة بين الزوجين؛ فيصبح الغريب أقرب منالاً وألطف اتصالاً؟
- لماذا تستسلم حواء العربية سريعاً للشعور بالفشل والوحدة، والحاجة إلى التعويض، والبحث عن مساحة ظل بديلة حين لا يمد زوجها ظل كنفه وحبه عليها جهلاً أو تجاهلاً، بخلاً أو ذكورية أو فقر تعبير وعجز حنان؟!! وهي لماذا يصعب عليها تفجير ينابيع عطائه، وتنشيط غدد مشاعره، كما فعلت أول مرة حين أوقعت به فتزوجها؟! هل هو فخ الاعتياد أم عجز التجديد؟!
- لماذا تظل على قدرتها في الاصطياد والإغواء، ومنح المشاعر، ومغازلة الخيال مع الغريب بينما تصاب بالسكتة الإبداعية وقلة الحيلة والبرودة والعجز العاطفي والقرف والعزوف عن المواصلة مع شريك الحياة (...)؟!!
- ولماذا يضِنُّ آدم بكلمة تشجيع أو تدليل أو اهتمام، وكل النساء يتشابهن في الحاجة والظمأ للإعجاب!!
- لماذا يرتمي العاقل في براثن الشبكة اللعوب؟! ولماذا تخلع العفيفة بعض ثيابها أو كلها ثم تقفز عارية في هذا السديم فيبتلعها مثل الملايين؟!.
للآسف لم أجد للأسئلة السابقة إجابة سوى الفراغ وغياب الوازع الديني والأخلاقي الذي جعل المرأة تعري رغباتها وعواطفها واحتياجاتها الحسية والنفسية لغريب بحجة أنه لا يراها و لا يلمسها.. أو رجل يدخل في محادثة ساخنة مع امرأة غير زوجته، يبث فيها رغبته فيها بتفاصيل تطربها بحجة أن الأمر لا يعدو سوى خيال لا يخون فيه زوجته، قائلاً هذا حلال لأنني لا أراها ولا تراني.
هل هانت علينا أنفسنا كما هانت علينا أمتنا الاسلامية؟.. ليس من المعقول أن يلهو صغارنا وكبارنا بتوافه الأمور وداء العشق الإنترنتي مخرب البيوت.. بينما نرى الجيوش الأمريكية تحل بمنطقتنا لتفقدنا هويتنا كما فقدت الأندلس هويتها.. علينا أن نأخذ العبرة من تاريخنا.. ولا نستبعد أن يعيد التاريخ نفسه معنا الآن، ومن لا يصدقني فلينظر الآن إلى ما حل ببغداد.
- التصنيف: