مقتل القذافي بعد أسرِه.. وسطوة الصورة

منذ 2011-10-28


لم يكن منتقدو قتل القذافي بعد اعتقاله سواءً في منطلقاتهم؛ إذ منهم من فعل ذلك بسبب موقفه المسبق من الثوَّار ومن الثورة، أكان من مؤيدي القذافي ونظامه، أم انطلاقًا من رفض تدخل الناتو، لكن قطاعًا لا بأس به من الناس كانوا يفعلون ذلك حرصًا على صورة الثورة الليبيَّة من جهة، وأحيانًا بسبب المشاعر الإنسانيَّة والدينيَّة الطبيعيَّة.

الصنف الأخير من الناس يستحقون الاحترام أكثر من النقد، حتى لو بالغ بعضهم في الانتقاد، لا سيَّما أن موقفهم جاء نتاج الصور الأولى التي أظهرت الرجل حيًّا يحيط به عدد من الثوَّار وسط مشاعر استثنائيَّة من الصعب وصفها.

على أن تقديرًا عقلانيًّاً للموقف برمته ينبغي أن يدفعنا إلى تجاوز ما حدث، والتركيز على التخلص من طاغية لم يعرف له التاريخ مثيلاً، أكان في قمعه وجبروته، أم في جملة المتناقضات التي جمعها في شخصه، والتي كانت في مجملها لا تثير الكراهية فقط؛ بل تثير الازدراء والاشمئزاز أيضًا.

من الأفضل بالطبع وضع الموقف في سياقه الصحيح، ولنا أن نتخيَّل مفاجأة اعتقال الرجل من قِبل فرقة من الثوار وسط توقعات متباينة حول مكان وجوده ونواياه الاستمرار في الثورة والقتال.. إلى غير ذلك من الكلام، هل نتوقَّع أن يتلبس العقل سائر المحيطين بالرجل؟ وجميعهم يحملون السلاح، ثم لا يبادر أحدهم إلى إطلاق رصاصة عليه ليقول لأهله بأنه هو من قتل القذافي الذي أذلَّ الليبيين لأربعة عقود؟!

هذا من حيث المبدأ، لكن شباب الفرقة التي اعتقلت الرجل تؤكِّد بدورها أن الرصاصتين اللتين أصابتا العقيد في رأسه وصدره لم تصدرا منهم، وإنما جاءتا من مصدر مجهول بالنسبة إليهم، ومن حق البعض بالطبع أن يصدق هذه الرواية أو يكذِّبها، لكن ما قالوا يعبِّر عن إدراك لطبيعة الخطأ الذي وقع.

قبل ذلك كانت مقاطع الفيديو التي نُشرت قد أسمعتنا بعض الثوار يقولون "نبوه حي"، أي نريده حيًّا، ما يعني أن خلافًا قد نشأ بين عناصر المجموعة ذاتها -وهم من مقاتلي مصراتة الأكثر فوضى بين المجموعات- حول طريقة التعامل مع الرجل قبل أن تصيبه الرصاصتان، بصرف النظر عن مصدرهما.

في المقابلة التي بثتها قناة العربيَّة مع آمر الحرس الشعبي الذي كان مرافقًا للقذافي تفسيرٌ لما جرى، فقد قال إنهم كانوا في أحد أحياء المدينة (سرت)، وعندما حوصر الحي بالكامل وتعرَّض للقصف حاولوا الخروج من خلال موكب، لكنهم حوصروا مرةً أخرى، فترجلوا من السيارات على أمل الفرار والنجاة، فكان أن وقعوا في قبضة الثوَّار.

لا نقول ذلك دفاعًا عما جرى -مع قناعتنا بأن الرجل يستحق الإعدام ألف مرة لو كان ذلك ممكنًا- لكننا نتحدث عما جرى وسط هذه النبرة الناقدة لعمليَّة القتل، لا سيَّما أنها صدرت أيضًا من قبل أناس كانوا مع الثورة وضد النظام، وهي مشاعر تستحق التقدير في أي حال، وقد كنا ممن تمنوا لو أنه لم يقتل؛ أقله من أجل متابعة المزيد من الكوميديا في محاكمته، فضلًا عما يمكن أن يحصل عليه الناس من معلومات حول مغامراته السياسيَّة وغير السياسيَّة (الثروات أيضًا مسألة بالغة الأهميَّة).

يحيلنا هذا الأمر إلى البعد المتعلق بالصورة التي باتت تصنع الأحداث، ولنتخيل لو أن حروب الكون المعروفة، بما فيها الحروب الأهليَّة في أمريكا وإسبانيا وفرنسا وحروب الأوروبيين فيما بينهم، والحروب الصليبيَّة، وحتى بعض حروب المسلمين فيما بينهم (دعك من حرب التوتسي والهوتو)، لو أنها وقعت في زمن الصورة الذي نعيش، زمن الهاتف المحمول المزوَّد بكاميرا الفيديو والفضائيات والإنترنت، كيف يمكن أن تكون ردود الفعل عليها؟!

لا خلاف على أن القيم الإنسانيَّة قد أخذت تترسَّخ خلال العقود الماضية بين البشر أنفسهم، وإن لم تجد صداها في عالم السياسة والحكام، لكن الأكثر أهمية في هذا السياق يتمثل في الصورة التي صارت الأكثر تأثيرًا في حراك الشعوب ومسارات السياسة، ولو تمت الثورات العربيَّة الأخيرة في زمن آخر لكان انتصارها صعبًا إلى حدّ كبير.

هل بوسع بشار الأسد اليوم أن يكرِّر مجزرة حماة التي نفَّذها والده مطلع الثمانينات، أو مجزرة سجن تدمر بعدها؟ إن أمرًا كهذا سيكون كفيلًا بإسقاطه في زمن قياسي من دون شك، ولعلَّ ذلك هو ما يدفعه إلى سياسة القتل بالتقسيط التي تضيف إلى تجنب الغضب الدولي تخويفًا للناس من الالتحاق بالثورة.

هو زمن جديد من دون شك، لكنه في صالح الشعوب التي صار بوسعها أن تستعيد قرارها المسروق من الطغاة، كما أنه في صالح القيم الإنسانيَّة النبيلة التي حثَّت عليها الشرائع السماويَّة، بل والأرضيَّة أيضًا.

المصدر: ياسر الزعاترة-المختار الإسلامي