حسن الخلق

منذ 2023-09-13

حُسن الخُلق، وسموُّ الأخلاق، وكمالها علامةٌ وبيان، ودليل وبرهان على صحَّة الإيمان، وقوَّته وكماله؛ قال - ﷺ -: «أُكْمَلُ المؤمنين إيمانًا أحسنُهم خُلقًا، وخياركم خياركم لنسائهم خُلقًا»

إنَّ المتأمِّلَ لنصوص الشريعة الغرَّاء يجدُ التوجيهاتِ النيِّرةَ التي تأمر بحُسن الخُلق في القول والفِعل متكاثرةً جدًّا، ونذكر من ذلك - على سبيل المثال لا الحصر -:

قوله - تعالى -: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83].
وقوله - تعالى -: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46].
وقوله - تعالى -: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 96].
وقوله - تعالى -: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} [الإسراء: 53].

وقول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - : «البِرُّ حُسْنُ الخُلُق»؛ (أخرجه مسلم، وأحمد، والترمذي، والدارمي).


والحُسن ضدُّ القُبح، والخُلق سجية الإنسان، وطبيعته التي خُلِق عليها، قال الماوردي: "الأخلاقُ غرائز كامنةٌ تظهر بالاختيار، وتُقهر بالاضطرار"، وقال القزويني: "حُسن الخُلق سلامةُ النفْس نحوَ الأرفق الأحمدِ من الأفعال"، وقد يكون ذلك في ذات الله، وقد يكون فيما بين الناس، بأن يكونَ العبدُ منشرحَ الصدر بأوامر الله - تعالى - ونواهيه، طيِّبَ النفْس بها، ويكون مع الناس سمحًا، سهلَ العريكة، لَيِّنَ الجانب، طَلْقَ الوجه، طيِّب الكلمة، يبذل المعروف، ويكفُّ عن الأذى قولًا وفعلًا، ويأتي إلى الناسِ ما يُحبُّ أن يُؤتَى إليه.


يقول الله - تعالى - مخاطبًا نبيَّه الكريم - صلَّى الله عليه وسلَّم - والأمَّة مِن بعده: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لجبريل - عليه السلام -: «ما هذا» ؟)) قال: لا أدري حتى أسأل، فسأل، ثم رجع إليه فقال: إنَّ الله يأمرك أن تَصِلَ مَن قطعك، وتُعطيَ مَن حَرَمَك، وتعفوَ عمَّن ظلمَك؛ رواه الطبري مرسلًا، وابن مردويه موصولًا.

إنَّها دعوة الإسلام، دعوةٌ للأخلاق الكريمة، والآداب النبيلة، بل إنَّ الإسلام هو الأخلاق الكريمة بعينها، كما لَخَّص لنا ذلك وحصرَه إِمامُ المرسَلين، وسيِّد البشر - صلَّى الله عليه وسلَّم - في قوله: «إنَّما بُعثِتُ لأُتمِّمَ مكارم -وفي رواية: صالح - الأخلاق»؛ (رواه البخاري) في "الأدب المفرد"، وأحمد، والحاكم، وصحَّحه الألباني.


وبالأخلاق تظهر قيمةُ البشَر، وتُعرف وتُقاس الجماعات والأمم:

وَإِنَّمَا الْأُمَمُ الْأَخْلَاقُ مَا  بَقِيَتْ ♦♦♦ فَإِنْ هُمُ ذَهبَتْ أَخْلَاقُهُمْ ذَهَبُوا

لذلك كان خيرَ الناس ذوُو الأخلاق الحسنة؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم - : «إنَّ مِن أَحبِّكم إليَّ وأقربِّكم منِّي مجلسًا يومَ القيامة أحاسِنَكم أخلاقًا».

ولا بدَّ لتحقيق حُسن الخُلق مِن العِلم بمعالي الأمور، ثم الاتِّصاف بها، والعِلم بسفاسف الأمور، وتجنُّبها، وتحقيق الإيمان، وحُسن الإسلام، والصَّبر والجود الذي هو سماحةُ النفس وانقيادها، وبذلها لِمَا يُقرِّب إلى الله ورضوانه، وسرعة الاستجابة لداعي الخيرات، وهكذا كان نبيُّنا - صلَّى الله عليه وسلَّم - أكملَ الناس، وأحسنَهم خلقًا، شهد له بذلك ربُّنا حيث قال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، فقد كانت أخلاقه عظيمة، والسر في عظمتها أنَّ منبعها القرآن؛ فعن عائشة - رضي الله عنها -: أنَّ سعد بن هشامٍ سألها، فقال: يا أمَّ المؤمنين، أنبئيني عن خُلُق رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قالت: أليسَ تقرأ القرآن؟ قال: بلى، قالت: فإنَّ خُلُق نبي الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان القُرآن؛ (رواه مسلم).

والمقصود أن يتخلَّق المرءُ بأخلاق الشريعة، ويتأدَّبَ بآداب الله التي أدَّب بها عبادَه في كتابه الكريم، وهذا أنسٌ - رضي الله عنه - يروي لنا شيئًا من ذلك، إذ يقول: خدمتُ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - عشرَ سنين، فما قال لي: أُفٍّ، قطُّ، وما قال لشيء صنعتُه: لِمَ صنعتَه؟ ولا لشيء تركتُه: لِمَ تركتَه؟ وكان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - مِن أحسنِ الناس خُلقًا، ولا مَسستُ خزًّا قطُّ، ولا حريرًا ولا شيئًا كان ألينَ من كفِّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولا شممتُ مسكًا قطُّ، ولا عطرًا أطيبَ من عَرَق النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم.

هكذا كانت حياته - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولا غروَ، فهو خيرُ الناس، وأحسنُهم خُلقًا، كان يكون في مِهنة أهله وحاجتهم، فيعلف البعير، ويحلب الشاة، ويُرقِّع ثوبَه، ويخصف نعلَه، ويدعو ربَّه قائلًا: «واهْدِني لأحسنِ الأخلاق، فإنَّه لا يَهدي لأحسنها إلَّا أنت، واصرفْ عنِّي سيِّئَها، لا يصرف عنِّي سيِّئَها إلَّا أنت»؛ (رواه مسلم، وأحمد، وغيرهما).

وقد كان مِن وصاياه - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «اتِّقِ الله حيثما كنتَ، وأَتبِعِ السيِّئة الحسنةَ تمحها، وخَالقِ الناسَ بخُلق حَسن»؛ رواه أحمد والترمذي والدارمي، وحسَّنه الألباني.

فحيثما كان العبد المؤمن، فجدير به أن يبذل الأخلاقَ في جميع أحواله، وإن تعرَّض للأذى؛ قال - تعالى - : {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 96].


والأخلاق تُنبت أخلاقًا مثلَها، ولكن لا بدَّ مِن مجاهدة النفس، وحَمْلِها على حُسن الخُلق:

يَا أَيُّهَا  الْمُتَحَلِّي  غَيْرَ  شِيمَتِهِ        وَمِنْ  سَجِيَّتِهِ  الْإِكْثَارُ  وَالْمَلَقُ
عَلَيْكَ بِالْقَصْدِ فِيمَا أَنْتَ فَاعِلُُهُ        إِنَّ التَّخَلُّقَ يَأْتِي  دُونَهُ  الْخُلُقُ

ويُكتسب حُسنُ الخُلق بالتقوى، والمراقبة والمجاهدة، وكثرة الحياء، وصِدق اللِّسان، وقلَّة الأذى، وكثرة الصلاح، وقلَّة الفُضول، ويُكتسب بالبرِّ والصبر، والوقار والشُّكر، والرِّضا والرِّفق، والعفاف وضبط اللِّسان، وترك الكذب وبذيء الكلام، وترك الغِيبة والنميمة، وتجنُّب الحقد والحسد.

 

وحُسن الخُلق، وسموُّ الأخلاق، وكمالها علامةٌ وبيان، ودليل وبرهان على صحَّة الإيمان، وقوَّته وكماله؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «أُكْمَلُ المؤمنين إيمانًا أحسنُهم خُلقًا، وخياركم خياركم لنسائهم خُلقًا»؛ (رواه أحمد، والترمذي، والدارمي، وصحَّحه الألباني).

 

وفي الحديث الآخَر قال: «ليس المؤمنُ بالطعَّان، ولا اللعَّان، ولا الفاحش البذيء»؛ (أخرجه الإمام أحمد، والترمذي، والحاكم، وصحَّحه الألباني).

 

وصاحبُ الخُلق الحسَن يحبُّه الله، ويحبُّه الناس، ويألفونه؛ لسماحة نفْسه وكرَم طبعه، وهو في راحة نفْس وبال، والناس منه في سلامة:

وَمَا النَّفْسُ إِلَّا حَيْثُ يَجْعَلُهَا الْفَتَى ♦♦♦ فَإِنْ  أُعْطِيَتْ  تَاقَتْ  وَإِلَّا  تَسَلَّتِ

 

وحسنُ الخُلق من أعظم ما يُكرم به العبدُ نفسَه، ويسعدها به، ومتى ما حَسُنت أخلاق العبد كَثُر أحبابه، وقلَّ أعداؤه.

قال الماوردي - رحمه الله -: "إذا حَسُنت أخلاق الإنسان كثُر مصافوه، وقلَّ أعداؤه، فتسهَّلت عليه الأمور الصِّعاب، ولانت له القلوب الغِضاب".

 

وهو في الآخرة في أعلى الدَّرجات يُنعَّم في نعيم الجنَّات؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم - : «أنا زَعيمٌ ببيت في رَبَضِ الجنَّة لِمَن تَرَك المِرَاء وإن كان محقًّا، وببيت في وَسَطِ الجنة لمن ترك الكذبَ وإن كان مازحًا، وببيتٍ في أعلى الجنَّة لِمَن حَسُن خلقُه»؛ (رواه أبو داود، وحسَّنه الألباني).

 

وقد أدرك سلفُنا الصالح قيمةَ الأخلاق، فهذا أبو الدرداء تُحدِّث زوجُه أم الدرداء وتقول: "بات أبو الدرداء الليلةَ يُصلِّي فجعل يبكي، ويقول: اللهمَّ أحسنتَ خَلقي فأحسن خُلقي، حتى أصبح، فقلت: يا أبا الدرداء، ما كان دعاؤك منذُ الليلة إلَّا في حُسن الخلق، قال: يا أمَّ الدرداء، إنَّ العبد يَحسُن خُلقُه، حتَّى يُدخلَه حُسنُ خُلقه الجنَّةَ، ويسوء خُلقُه، حتَّى يدخله سُوءُ خُلقه النَّار"، فأدرك - رضي الله عنه - أنَّ حُسنَ الخلق طريقٌ وباب يُوصِّل إلى الجنة؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - سُئِل عن أكثر ما يُدخل الناسَ الجنَّةَ، فقال: «تقوى الله، وحُسن الخُلق»؛ (رواه أحمد والترمذي، وابن ماجه، وحسَّنه الألباني).

 

وهو ثقيلٌ في ميزان العبد عند الحساب؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم - : «ما مِن شيءٍ أثقلَ في ميزان المؤمنِ يومَ القيامة مِن حُسن الخُلق، وإنَّ الله ليُبغض الفاحشَ البذيء»؛ (رواه الإمام أحمد، والترمذي - واللفظ له - وأبو داود).

 

بل إنَّ العبد المسلم بحُسنِ خُلقه يَقدر على المسابقة بالخيرات، ومنافسةِ عباد الله مِن أهل القِيام والصيام؛ فعن عائشة - رضي الله عنها - عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه قال: «إنَّ المؤمن ليُدرك بحُسنِ خُلقِه درجةَ الصائم القائم»؛ (رواه الإمام أحمد، وأبو داود، وصحَّحه الألباني).

 

وهذا معاذ بن جبل يضع رِجْلَه في الغَرْز، فكان آخر ما أوصاه رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن قال: «أَحْسِنْ خُلقَك للناس يا معاذ بنَ جبل»؛ (رواه مالك، وضعَّفه الألباني).

 

فالأخلاق مِفتاحٌ لقلوب الناس ودعوتهم؛ انطلاقًا من إفشاء السَّلام، والكلمة الطيِّبة، والابتسامة الصادقة، وطلاقة الوجه.

 

كما جاء عن أبي ذرٍّ الغِفاري - رضي الله عنه – أنَّه قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «لا تحقرنَّ من المعروف شيئًا، ولو أن تَلْقى أخاك بوجهٍ طَلْق»؛ (أخرجه مسلم، وأحمد، والترمذي).

 

وقال ابن المبارك - رحمه الله -: "حُسنُ الخُلق هو طلاقةُ الوجه، وبذلُ المعروف، وكفُّ الأذى، وأن تحتمل ما يكون من الناس"، وهذا علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يقول: "حُسنُ الخُلق في ثلاث خِصال: اجتناب المحارم، وطلب الحَلال، والتوسعة على العيال"، وقال - رضي الله عنه -: "حُسنُ الخُلق: بَسْطُ الوجه، وبَذْل النَّدى، وكفُّ الأذى".

 

فحُسنُ الخُلق مِن أعظم القُربات، وسببٌ لرفع الدَّرجات، وصاحبُه في سعادةٍ واطمئنان، يهنأ بحبِّ الله، ويحبه الناس، وينتظر موعودَ الله وثوابَه.

_______________________________________________
الكاتب: أنور الداود النبراوي