هل الوقت وقت عزلة للداعية؟

منذ 2011-11-22

تدافعت الفتن على بلاد المسلمين بصورة لم يسبق لها مثيل، وهنا يتساءل المرء: هل شيوع المنكرات سبب لخمول الداعية وانحساره في بيته واعتزاله الناس؟


حقيقة نحن نعيش في عصر مليء بالمنكرات صغيرها وكبيرها، وخصوصًا مع الانفتاح الكبير على ثقافات وحضارات الأمم الأخرى، حيث تدافعت الفتن على بلاد المسلمين بصورة لم يسبق لها مثيل، وهنا يتساءل المرء: هل شيوع المنكرات سبب لخمول الداعية وانحساره في بيته واعتزاله الناس؟ هل هذه الفترة هي فترة عزلة وابتعاد عن مواطن الناس؟ هل نعيش فتنة تتطلب الفرار للشعاب والأودية؟

علينا أن نسأل أولاً: ما المراد بالفتنة؟ هل هي فتنة المال أم فتنة القتال أم فتنة المعاصي؟
قد جاء ما يشير أن الفتن المراد بها المال، ثبت عن النبي عليه السلام قوله: «يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن» (أبو سعيد الخدري: صحيح البخاري). فهنا نلحظ أنه قد خص ذكر نوع من أنواع الأموال وهي الغنم، فالفرار هنا من فتنة المال، فخير مال المسلم من كان ماله بعيدًا عن مواطن الفتن، يحمل معنى الحديث على الفتنة الاقتصادية لفشوا الربا والأموال المحرمة بجميع صورها.

وقد يدل على هذا المعنى ما جاء في قول رسول الله عليه الصلاة والسلام: «خير الناس في الفتنة: رجل معتزل في ماله، يعبد ربه ويؤدي حقه، ورجل أخذ بعنان فرسه في سبيل الله» (ابن رجب في فتح الباري: روي عن طاووس مرسلًا). وكذا ما رواه أبو هريرة مرفوعا: «أظلتكم فتن كقطع الليل المظلم أنجى الناس منها: صاحب شاهقة يأكل من رسل غنمها، او رجل من وراء الدروب أخذ بعنان فرسه يأكل من فيء سيفه» (الألباني: السلسلة الصحيحة). فإذا خشي الإنسان من المال الحرام ووجد أن لا مناص من المال الحرام إلا باعتزال ماله فهنا يفعل.

وقد جاء ما يشير أن الفتن المراد بها القتل، قال عليه الصلاة والسلام: «تقع فتن كالظلل» قال أعرابي: كلا يا نبي الله، قال: «بلى، والذي نفسي بيده لتعودون فيها أساود صبا يضرب بعضكم رقاب بعض فأولى الناس مؤمن معتزل في شعب من الشعاب يتقي ربه ويدع الناس من شره» (الهيثمي: مجمع الزوائد: أحد رجاله رجال الصحيح).

وقد صح قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لا تذهب الدنيا حتى يأتي على الناس يوم لا يدري القاتل فيم قتل ولا المقتول فيم قتل» فقيل: كيف يكون ذلك؟ قال: «الهرج، القاتل والمقتول في النار» (رواه أبو هريرة: صحيح مسلم). فإذا وقعت هذه الفتن وخشي الإنسان من الافتتان بها فالعزلة خير، كما قال الإمام أحمد: "إذا كانت الفتنة فلا بأس أن يعتزل الرجل حيث شاء، فأما إذا لم يكن فتنة فالأمصار خير".

وقد جاء ما يشير أن الفتن المراد بها المعاصي وما يحدثه المرء في يومه، فقد قال عمر لحذيفة: "أيكم يحفظ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتنة؟ قال: «فتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره تكفرها الصلاة والصدقة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»" (صحيح البخاري). فهذه لا مناص منها، حتى وإن اعتزل الإنسان فهو قد يقع فيها، فهنا لا يعتزل الناس بل يصبر على مخالطتهم وآذاهم.

وقد جاء الإطلاق في معنى الفتنة كما في حديث حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر له الفتن فقال له: "فما تأمرني يا رسول الله إن أدركني ذلك؟ قال: «تلزم جماعة المسلمين وإمامهم» قال: فإن لم يكن جماعة ولا إمام؟ قال: «فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك»" (صحيح البخاري). ولكن هنا ملحظ: فمع إطلاق معنى الفتنة إلا أنه عليه الصلاة والسلام اشترط للعزلة انعدام جماعة المسلمين وإمامهم، فإذا انعدما يحق له العزلة، وأشار إشارة جميلة وهو التمسك والعض بأصل شجرة، فلا تبقى لوحدك بل كن مع رفيق حتى ولو كانت شجرة فهي موحدة لله تؤنس وحدتك وعزلتك، فالعزلة حالة استثنائية والأصل هو البقاء مع الناس ولو في حالة تدافع.

ويظهر لي أن الوقت ليس وقت عزلة، وأن اختلاط الداعي بالناس هو أفضل من عزلتهم، فهو يبين الناس ما يحل لهم ويحرم، وهو يحذرهم وينصحهم ويوجههم، ونحن نرى أن الناس لا زالت تستجيب لداعي الخير، فكيف نتركهم لأهواء أهل الباطل بحجة انتشار الباطل؟ وقد سئل أبو ثعلبة الخشني: كيف تقول في هذه الآية: {...عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ...} [المائدة: 105]. قال: "أما والله لقد سألت عنها خبيرًا سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحًا مطاعًا، وهوى متبعًا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بنفسك ودع عنك العوام»" (الألباني: السلسلة الضعيفة: ضعيف).

وقد كانت الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وجماهير الصحابة والتابعين والعلماء والزهاد مختلطين، فيحصلون منافع الاختلاط كشهود الجمعة والجماعة والجنائز وعيادة المرضى وحلق الذكر وغير ذلك، وقد مر رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بشعب فيه عيينة من ماء عذب فأعجبه طيبه وحسنه فقال: "لو اعتزلت الناس وأقمت في هذا الشعب، ولا أفعل حتى أستأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستأمره، فقال: «لا تفعل، فإن مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته في أهله ستين عامًا..» (الراوي أبوهريرة: مجمع الزوائد: رجاله ثقات).

أظن أن الحالة النفسية وطبيعة الرؤية لها أثر كبير في تبني موقف العزلة، فتغليب النظرة التشاؤمية ورؤية الزاوية المظلمة فقط يجعل المرء يتجه إلى قرار اعتزال الناس، لذا من المهم -وخصوصًا للداعية- أن يكون متفائلًا كي يستطيع يدعو ويأمر وينهي، فتسلط اليأس على الإنسان يجعله ينسحب من المواجهة والمدافعة، ويبقى ساكنًا خاملاً، ولو تخيل الإنسان أننا نقول بوجوب أو استحباب العزلة في هذا الزمن، فماذا سيحدث؟ هل سينحصر الباطل أم يتمدد وينتشر؟ هل سيسلم من اعتزل الناس من وصول الباطل إليه؟ الجواب: قطعًا لا.

وهنا نسأل: أليس دور الداعي الحقيقي هو مع من انحرف وابتعد عن منهج الله؟ فهل يريد الداعية أن يعمل في مجتمع صالح فقط؟ وقد جاء في الحديث قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أوحى الله عز وجل إلى جبريل -عليه السلام- أن اقلب مدينة كذا وكذا بأهلها، قال: فقال: يا رب إن فيهم عبدك فلانًا لم يعصك طرفة عين، قال: فقال: اقلبها عليه وعليهم، فإن وجهه لم يتمعر في ساعة قط» (الألباني: السلسلة الضعيفة: ضعيف). والله أعلم وأحكم.

المصدر: الكـاتب: مبارك عامر بقنه-موقع المختار الإسلامي