إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ
التعريض بالمشركين الذين يعبدون غير الله ويستعينون بغيره لأنهم كانوا فريقين منهم من عبد غير الله على قصد التشريك إلا أن ولعه واستهتاره بغير الله تعالى أنساه عبادة الله ت
{بسم الله الرحمن الرحيم}
يقول تعالى في سورة الفاتحة، {{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}} :
{{إِيَّاكَ} } مفعول به مقدم؛ وعامله: {{نعبد}} ؛ وقُدِّم على عامله لإفادة الحصر؛ فمعناه: "لا نعبد إلا إياك". وسب أعرابي آخر فأعرض عنه وقال: إياك أعني، فقال له: وعنك أعرض، فقدما الأهم.
والحصر المستفاد من التقديم في قوله: {{وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}} التعريض بالمشركين الذين يعبدون غير الله ويستعينون بغيره لأنهم كانوا فريقين منهم من عبد غير الله على قصد التشريك إلا أن ولعه واستهتاره بغير الله تعالى أنساه عبادة الله تعالى كما عبدت سبأ الشمس وعبد الفرس النور والظلمة وعبد القبط العجل وَأَلَّهُوا الْفَرَاعِنَةَ، وعبدت أمم السودان الحيوانات كالثعابين.
ومن المشركين من أشرك مع عبادة الله عبادة غيره وهذا حال معظم العرب ممن عبد الأصنام أو عبد الكواكب، فَقَدْ عَبَدَتْ ضَبَّةُ وَتَيْمٌ وَعُكْلُ الشَّمْسَ، وَعَبَدَتْ كِنَانَةُ الْقَمَرَ، وَعَبَدَتْ لَخْمٌ وَخُزَاعَةُ وَبَعْضُ قُرَيْشٍ الشِّعْرَى، وَعَبَدَتْ تَمِيمٌ الدبران، وعبدت طيىء الثُّرَيَّا، وهؤلاء كلهم جعلوا الآلهة بزعمهم وسيلة يتقربون بها إلى الله تعالى، فهؤلاء جمعوا العبادة والاستعانة بهم لأن جعلهم وسيلة إلى الله ضرب من الاستعانة.
** و {{إِيَّاكَ}} «التفات» لأنه انتقال من الغيبة، إذ لو جرى على نسق واحد لكان: "إياه". ولأهل البلاغة عناية بالالتفات الذي هو من فنون البلاغة لأن فيه تجديد أسلوب التعبير عن المعنى بعينه تحاشيا من تكرر الأسلوب الواحد عدة مرار فيحصل بتجديد الأسلوب تجديد نشاط السامع كي لا يمل من إعادة أسلوب بعينه، وفيه أيضا إظهار الملكة في الكلام، والاقتدار على التصرف فيه.
وفائدته في { {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}} أنه لما ذكر أن الحمد لله المتصف بالربوبية والرحمة والمُلك والمِلك ليوم الدين، أقبل الحامد مخبراً بأثر ذكره الحمد المستقر له منه ومن غيره، أنه وغيره يعبده ويخضع له.
وكذلك أتى بالنون في {{نَعْبُدُ * نَسْتَعِينُ} } التي تكون له ولغيره، فكما أن الحمد يستغرق الحامدين، كذلك العبادة والاستعانة تستغرق المتكلم وغيره.
قال ابن عاشور: وفي العدول عن ضمير الواحد إلى الإتيان بضمير المتكلم المشارك الدلالة على أن هذه المحامد صادرة من جماعات. ففيه إغاظة للمشركين إذ يعلمون أن المسلمين صاروا في عزة ومنعة، ولأنه أبلغ في الثناء من أعبد وأستعين لئلا تخلو المناجاة عن ثناء أيضا بأن المحمود المعبود المستعان قد شهد له الجماعات وعرفوا فضله.
ففي هذا الخطاب من التلطف على بلوغ المقصود ما لا يكون في لفظ "إياه"، ولأنه ذكر ذلك توطئة للدعاء في قوله: {{اهْدِنَا الصِّرَاطَ}} ... فمما يزيد الالتفات وقعا في الآية أنه تخلص من الثناء إلى الدعاء ولا شك أن الدعاء يقتضي الخطاب فكان قوله {{إِيَّاكَ نَعْبُدُ}} تخلصا يجيء بعده {{اهْدِنَا الصِّرَاطَ}}
وقال ابن عاشور أيضا: وهنا التفات بديع، فإن الحامد لما حمد الله تعالى ووصفه بعظيم الصفات بلغت به الفكرة منتهاها فتخيل نفسه في حضرة الربوبية فخاطب ربه بالإقبال.
{{نَعْبُدُ}} «العبادة»: التذلل والخضوع، أو الطاعة كقوله تعالى: {{يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ} } [مريم:44]، أو التقرب بالطاعة أو الدعاء: {{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} } [غافر:60] أي عن دعائي، أو التوحيد {{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} } [الذاريات:56] أي ليوحدون، وكلها متقاربة المعنى.
والعبادة في الشرع هي: فعل ما يرضي الرب من خضوع وامتثال واجتناب. ولا شك أن داعي العبادة التعظيم والإجلال، وهو إما عن محبة أو عن خوف مجرد، وأهمه ما كان عن محبة لأنه يرضي نفس فاعله، وهي تستلزم الخوف من غضب المحبوب، ولذلك قال تعالى: { {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} } [آل عمران:31] فذلك يشعر بأن اتباع الشريعة يوجب محبة الله وأن المحب يود أن يحبه حبيبه وإلى هذا النوع ترجع عبادة أكثر الأمم، ومنها العبادة المشروعة في جميع الشرائع لأنها مبنية على حب الله تعالى، وكذلك عبادة المشركين أصنامهم كما قال تعالى: {{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}} [البقرة:165]. ومن الأمم من عبدت عن خوف دون محبة، وإنما هو لاتقاء شر المعبود، كما عبدت بعض الأمم الشياطين وعبدت المانوية من المجوس المعبود «أهرمن» وهو عندهم رب الشر والضر، ويرمزون إليه بعنصر الظلمة وأنه تولد من خاطر سوء خطر للرب «يزدان» إله الخير
ومعني الآية: نتذلل لك أكمل ذلّ؛ ولهذا تجد المؤمنين يضعون أشرف ما في أجسامهم في موطئ الأقدام ذلاً لله عزّ وجلّ: يسجد على الأرض؛ وقد تمتلئ جبهته من التراب. كل هذا ذلاً لله؛ ولو أن إنساناً قال: "أنا أعطيك الدنيا كلها واسجد لي" ما وافق المؤمن أبداً؛ لأن هذا الذل لله عزّ وجلّ وحده.
و «العبادة» تتضمن فعل كل ما أمر الله به، وترك كل ما نهى الله عنه؛ لأن من لم يكن كذلك فليس بعابد؛ لو لم يفعل المأمور به لم يكن عابداً حقاً؛ ولو لم يترك المنهي عنه لم يكن عابداً حقاً؛ العبد: هو الذي يوافق المعبود في مراده الشرعي؛ فـالعبادة تستلزم أن يقوم الإنسان بكل ما أُمر به، وأن يترك كل ما نُهي عنه؛ ولا يمكن أن يكون قيامه هذا بغير معونة الله؛ ولهذا قال تعالى:
{{وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} } «الاستعانة»، طلب العون، وهي تسهيل فعل شيء يشق ويعسر على المستعين وحده. والمقصود هنا الاستعانة على الأفعال المهمة كلها التي أعلاها تلقي الدين وكل ما يعسر على المرء تذليله من توجهات النفوس إلى الخير وما يستتبع ذلك من تحصيل الفضائل. ولذلك حذف متعلق {نَسْتَعِينُ}، وقد أفاد هذا الحذف الهام عموم الاستعانة المقصورة على الطلب من الله تأدبا معه تعالى.
** وقرنت الاستعانة بالعبادة للجمع بين ما يتقرب به العبد إلى الله تعالى، وبين ما يطلبه من جهته.
** وقدمت العبادة على الاستعانة لتقديم الوسيلة قبل طلب الحاجة لتحصل الإجابة إليها، وأطلق العبادة والاستعانة لتتناول كل معبود به وكل مستعان عليه.
فوجه تقديم قوله {{إِيَّاكَ نَعْبُدُ}} على قوله { {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} } أن العبادة تقرب للخالق تعالى فهي أجدر بالتقديم في المناجاة. وأما الاستعانة فهي لنفع المخلوق للتيسير عليه فناسب أن يقدم المناجى ما هو من عزمه وصنعه على ما يسأله مما يعين على ذلك.
ولأن الاستعانة بالله تتركب على كونه معبودا للمستعين به ولأن من جملة ما تطلب الإعانة عليه العبادة فكانت متقدمة على الاستعانة في التعقل... وقد حصل من ذلك التقديم أيضا إيفاء حق فواصل السورة المبنية على الحرف الساكن المتماثل أو القريب في مخرج اللسان.
** وكرر {{إِيَّاكَ} } ليكون كل من العبادة والاستعانة سِيْقا في جملتين، وكل منهما مقصودة، وللتنصيص على طلب العون منه بخلاف لو كان إياك نعبد ونستعين، فإنه كان يحتمل أن يكون إخباراً بطلب العون، أي وليطلب العون من غير أن يعين ممن يطلب.
** وفيه: إخلاص العبادة لله؛ لقوله تعالى: { {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}} ؛ ووجه الإخلاص: تقديم المعمول. فإذا أتم الحامد حمد ربه يأخذ في التوجه إليه بإظهار الإخلاص له انتقالا من «الإفصاح عن حق الرب» إلى «إظهار مراعاة ما يقتضيه حقه تعالى على عباده» من إفراده بالعبادة والاستعانة.. ومفاتحة العظماء بالتمجيد عند التوجه إليهم قبل أن يخاطبوا طريقة عربية.
** والاستعانة نوعان: «استعانة تفويض»؛ بمعنى أنك تعتمد على الله عزّ وجلّ، وتتبرأ من حولك وقوتك؛ وهذا خاص بالله عزّ وجلّ؛ واستعانة بمعنى «المشاركة» فيما تريد أن تقوم به: فهذه جائزة إذا كان المستعان به حياً قادراً على الإعانة؛ لأنه ليس عبادة؛ ولهذا قال الله تعالى: { {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى}} [المائدة:2]
فإن قال قائل: وهل الاستعانة بالمخلوق جائزة في جميع الأحوال؟
فالجواب: لا؛ الاستعانة بالمخلوق إنما تجوز حيث كان المستعان به قادراً عليها؛ وأما إذا لم يكن قادراً فإنه لا يجوز أن تستعين به: كما لو استعان بصاحب قبر فهذا حرام؛ بل شرك أكبر؛ لأن صاحب القبر لا يغني عن نفسه شيئاً؛ فكيف يعينه!!! وكما لو استعان بغائب في أمر لا يقدر عليه، مثل أن يعتقد أن الوليّ الذي في شرق الدنيا يعينه على مهمته في بلده: فهذا أيضاً شرك أكبر؛ لأنه لا يقدر أن يعينه وهو هناك.
جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار
alnaggar66@hotmail.com
خالد سعد النجار
كاتب وباحث مصري متميز
- التصنيف: