صلاح الدين من التفكيك إلى البناء.. قراءة في النهضة العلمية في الدولة الأيوبية ( 1-2)

منذ 2024-01-12

عند الحديث عن عصر الدولة الأيوبية بكل ما تمثله في الذاكرة الإسلامية من أحدوثة الجهاد والبطولة والنهوض بعد قرنين من الكبوة والتراجع وبالأخص فترة السلطان صلاح الدين الأيوبي

 

عند الحديث عن عصر الدولة الأيوبية بكل ما تمثله في الذاكرة الإسلامية من أحدوثة الجهاد والبطولة والنهوض بعد قرنين من الكبوة والتراجع وبالأخص فترة السلطان صلاح الدين الأيوبي، يركز معظم الدراسين على مشاهد البطولات الاسلامية وفروسيات الفتح المقدس ومعركة حطين، والقليل من الباحثين في تاريخ العهد الوسيط يتطرقون للجوانب الثقافية والعلمية والاجتماعية في ذلك العهد المنير والذي تميز بسرعة جريان الأحداث من سقوط سلطانات ودويلات وظهور سلطانات ودويلات جديدة في العراق وبلاد الشام ومصر.

واتسم العهد الأيوبي بشكل عام وعهد صلاح الدين الأيوبي بشكل خاص بعوالم وشواهد النهضة الحضارية، وكانت خطته في التعامل مع الفترات الانتقالية في مرحلة ما بعد سقوط الدولة الفاطمية العبيدية في مصر في غاية الذكاء والحرفية والرؤية الثاقبة في التعامل مع عقبات مشروعه الطموح في تطهير سواحل العالم الإسلامي من الوجود الصليبي وتحرير درّته ؛ بيت المقدس.

 فقد اعتمد صلاح الدين على خطة نهوض متكاملة الأركان وتعمل على كل الأصعدة ويتكامل فيها جهاد القلم مع جهاد السيف لخلق حالة شعبية جماعية من الوعي والاستعداد للمشاركة في العمل الكبير وركوب الأخطار.

 فقد انتشرت في عهده المدارس والمعاهد الدينية ودور التحفيظ، وشهدت الحركة العلمية على يديه ازدهارا كبيرا، فضلاً عن دعمه للعلماء ولطلاب العلم.وإلى جانب ذلك خلّد العهد الأيوبي معالماً تاريخية هامة وآثاراً حضارية لافتة وصل أكثرها حتى يومنا هذا كالزوايا والمدارس والمساجد والجوامع والبيمارستانات وماشابه ذلك من صروح حضارية هامة. لذلك يمكننا أن نستنتج ونقول بأن العهد الأيوبي –على قصره-كان من أكثر عهد نهضة وازدهار في التاريخ الوسيط للحضارة الاسلامية إلى جانب كونه عصر استفاقة وعهد ووحدة اسلامية في وجه الحروب الحملات الصليبية ذلك الحين.

لذلك سنحاول تسليط الضوء على تجربة صلاح الدين الأيوبي للنهوض بالعلم بكافة مكوناته؛ طلاب ومعلمين ومدارس ومناهج ومصادر تمويل.

وقبل أن نشرع في تفاصيل تلك التجربة وخصوصيتها وتفردها عن غيرها من التجارب السابقة واللاحقة يجب أن نمر سريعاً على الحياة العلمية والثقافية في المجتمع المصري خلال حكم الدولة الفاطمية العبيدية لما كان من أثر واضح في تخطيط وترتيب خطة صلاح الدين الأيوبي للنهوض بالتعليم والثقافة.

الفاطميون والتدرج الماكر

عندما نقل الفاطميون مركز دولتهم من المغرب إلى مصر في عهد المعز الفاطمي قرروا الاستفادة من تجربتهم المريرة مع المغاربة بعد المقاومة العنيفة والشديدة التي أبداها المغاربة تجاه محاولات فرض التشيع قسراً عليهم، وقرروا تلافي الأخطاء التي وقعوا فيها هناك، فعملوا في بادئ الأمر على استمالة المصريين بترك حرية الاعتقاد وعدم إجبارهم على مذهب الفاطميين، وسمحوا ببقاء المدارس السنية التي تدرس المذاهب الفقهية المعروفة، وسمحوا للمحدثين والعلماء بالتدريس على عادتهم دون تضييق بادئ الأمر، وعملوا على إظهار حب آل البيت، كما استغلوا الميل الفطري عند المصريين نحو الاحتفال واللهو، فاستحدثوا 24 عيدًا ومناسبة دينية إسلامية ونصرانية ويهودية كلها بدعية ما أنزل الله بها من سلطان، ومن خلال هذه المناسبات وفي أجوائها الاحتفالية أخذ الفاطميون في بث عقائدهم وأفكارهم بين المصريين خاصة تلك المتعلقة بالاستغاثة بالأولياء والأضرحة وراجت سوق التصوف بقوة في مصر ورعى الفاطميون مروجها لما بين التصوف والتشيع من تماس في العديد من المبادئ والأفكار والرؤى.

كما توسعوا في بناء المكتبات الكبيرة وبناء المؤسسات الثقافية والعلمية، ومن أهم مؤسساتهم العلمية؛ الجامع الأزهر، الذي كان بمثابة قلعة علمية لنشر العقائد الشيعية عامة والفاطمية الباطنية خاصة، وأول مدرسة داخلية لتخريج الدعاة والعلماء في التشيع، فقد كان يدرس به 750 طالبًا من شتى أرجاء العالم الإسلامي، يتعلمون فيه أصول ومبادئ المذاهب الشيعية المختلفة، ثم يتخرجون بعد عدة سنوات دعاة لنشر التشيع والفاكر الباطني، وقد أصبح الأزهر منبرا دعويا وإعلاميا وعلميا للدولة الفاطمية سيطروا به على الحياة الثقافية في مصر لقرنين من الزمان، كما بنوا مكتبة دار العلم التي بناها الحاكم بأمر الله الفاطمي سنة 395 هـ وكان بها من درر وفرائد الكتب من كل فن ما لم يوجد في غيرها من مكتبات العالم الإسلامي وقتها، وقد وصل عدد الكتب في تلك الدار في أواخر عهد الفاطميين إلى 2,6 مليون كتاب مما يجعلها المكتبة الأكبر عبر التاريخ!

كل ذلك تم في هدوء وتدرج خبيث في غاية المكر لقرابة الخمسين سنة، ولما استتب الأمر لهم وأحكموا قبضتهم على الأوضاع داخل مصر أسفروا عن وجههم الحقيقي، فمنعوا تدريس المذاهب السنية وألزموا الناس اعتناق التشيع الفاطمي، وأجبروهم على دراسة كتب العقيدة الفاطمية، وأغلقوا المدارس وقتلوا العلماء والصالحين وطاردوا المحدثين، وأظهروا الكفر البواح والزندقة الكاملة في عهد الحاكم الفاطمي.

عهد المستنصر الفاطمي والظواهر الأربعة

ظلت الدولة الفاطمية العبيدية محتفظة بنظامها الخاص في تداول السلطة، اتباعاً لقاعدة التوريث لأكبر الأنجال، مما أكسبها نوعاً من الاستقرار رغم كثرة الأخطار المحيطة وكثرة الثورات الداخلية ضدها حتى جاء عهد المستنصر الفاطمي(ت:487 ه)

فقد اتسم عهده الطويل والذي امتد لستين سنة ليكون أطول حكام التاريخ الإسلامي بقاءً في الحكم بالعديد من الظواهر السلبية التي أدت محصلتها النهائية لتضعضع نفوذ الدولة الفاطمية وذهاب قوتها وضعف أثرها داخلياً وخارجياً، كما أدت لانهيار كبير في المجتمعات التابعة لها على كل الأصعدة وفي مقدمتها الصعيد العلمي والثقافي.

 

فالمستنصر الفاطمي استلم الحكم وفق قاعدة التوريث وهو ابن ثماني سنين فقط ليكون الخليفة الثامن والإمام الثامن عشر في سلسلة أئمة الشيعة الإسماعيلية وكأول طفل يحكم في الدولة الكبيرة. وكانت الدولة الفاطمية حين اعتلى عرشها الخليفة المستنصر الفاطمي قد استقرت تمامًا، واتسعت اتساعًا هائلاً، وبلغت دعوتها الشيعية أقصى مدى لها في الذيوع والانتشار، وامتلأت خزائنها بالأموال، مما مكنها من التأثير الكبير في ساحة الأحداث الإقليمية والدولية.

أولى الظواهر السلبية تمثل في تدخل النساء في شئون الحكم، حيث كان لأم المستنصر الفاطمي؛ السيدة رصد ، تدخل سافر ونفوذ كبير في تسيير دفة الحكم، ويخاطبها الرجال في حضرة ابنها الخليفة بمولاتهم، ويشار إليها بالجهة الجليلة والستر الرفيع. وقد أسفر تدخلها في شئون الحكم عن إذكاء نار العداوة والفتنة بين طوائف وقادة الجيش، فاشتعلت المنازعات والمعارك بينهم، وهو ما جعل أحوال البلاد تسوء بسرعة ويعمها الفوضى والاضطراب، ويحل بها الخراب.

ثاني تلك الظواهر؛ الشدة المستنصرية الشهيرة، والتي استمرت سبع سنوات بسبب القحط ونقص مياه النيل، وقد أفاض المؤرخون فيما أصاب الناس من جراء هذه المجاعة من تعذر وجود الأقوات وغلاء الأسعار، واضطرار الناس إلى أكل الميتة، وصاحب هذه المجاعة انتشار الأوبئة والأمراض التي فتكت بالناس حتى قيل: إنه كان يموت بمصر عشرة آلاف نفس، ولم يعد يرى في الأسواق أحد، ولم تجد الأرض من يزرعها، وباع الخليفة المستنصر ممتلكاته.

وكان من نتيجة هذه الأزمة العاتية أن أخذت دولة المستنصر بالله في التداعي والسقوط، وخرجت كثير من البلاد عن سلطانه، فقُطعت الخطبة للمستنصر في مكة والمدينة، وخُطب فيها للخليفة العباسي عبد الله القائم بأمر الله في سنة (462هـ)، وتداعى حكم المستنصر في بلاد الشام، وتتابع ضياع المدن والقلاع من أيديهم، فاستقلت صور وطرابلس وحلب وبيت المقدس والرملة ودمشق عن سلطانهم.

ثالث تلك الظواهر؛ بداية عصر نفوذ القادة العسكريين ممثلة في الأمير بدر الجمالي، وكان والي عكا، إذ استعان به المستنصر لضبط الدولة بعد الفوضى العارمة التي ضربتها، فأدى مهمته على خير وجه وضبط الأمور داخل الدولة، ولكن تنامي نفوذه حتى أصبح الخليفة مجرد صورة معه، والجمالي هو الآمر الناهي في البلاد.

رابع تلك الظواهر وأهمها، حدوث تغيير جذري لنظام تداول السلطة، وذلك عندما أجبر الأمير الأفضل بن بدر الجمالي الخليفة المستنصر على تولية العهد لولده الأصغر؛ أحمد الملقب بالمستعلي، وكانت أمه شقيقة الأفضل بن بدر الجمالي، وليس الأكبر، نزار  كما كان متبعاً، ضارباً بذلك صلب عقيدة الدولة؛ الإسماعيلية الباطنية في الصميم، مما أدى لانشقاق البيت الفاطمي وبداية انهياره الفعلية، إذ انشق أنصار الدولة ومعتنقي العقيدة الفاطمية إلى فرقتين، مستعلية ونزارية، ومن عباءة النزارية ظهرت أخطر فرق الباطنية عبر التاريخ؛ الحشاشون أتباع الحسن الصباح.

تلك الظواهر الأربعة جعلت الدولة في حالة انهيار كبير وتصدع داخلي خطير، وتردي بالغ على كافة الأصعدة، خاصة على الصعيد العلمي، حيث خربت الحياة العلمية بالكامل حتى على مستوى المؤسسات الفاطمية الشيعية مثل الأزهر وغيره بسبب الصراع بين المستعلية والنزارية، وانصراف الناس عن العلم وانشغلوا باللهث وراء قوت يومهم، وخيم الظلم والظلام وسيطرت الخرافة على العقول وحياة المصريين كلها.