علم بلا عمل... هلاك محقق

منذ 2011-12-25


عن خباب بن الأرت -رضي الله عنه- قال صلى الله عليه وسلم: «إن بني إسرائيل لما هلكوا قصوا» (رواه الطبراني والضياء المقدسي في المختارة، وحسنه (صحيح) انظر حديث رقم: 2045 في صحيح الجامع).

العلم النافع والعمل الصالح هما مفتاح السعادة، وأساس النجاة للعبد في معاشه ومعاده، ومن رزقه الله علمًا نافعًا ووفقه لعمل الصالح، فقد حاز الخير، وحظي بسعادة الدارين، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].

إن الكلمة لتنبعث ميتة وتصل هامدة مهما تكن طنانة رنانة متحمسة إذا هي لم تنبعث من قلب يؤمن بها، ولن يؤمن إنسان بما يقول حقًا إلا أن يستحيل هو ترجمة حية لما يقول، وتجسيمًا واقعيًا لما ينطق، عندئذ يؤمن الناس ويثق الناس، ولو لم يكن في تلك الكلمة طنين ولا بريق، إنها حينئذ تستمد قوتها من واقعها لا من رنينها، وتستمد جمالها من صدقها لا من بريقها، إنها تستحيل يومئذ دفعة حياة، لأنها منبثقة من حياة (في ظلال القرآن: 1/ 85).

قال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44]. وقال تعالى عن شعيب عليه الصلاة والسلام: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2- 3].

قال المناوي: "«إن بني إسرائيل» أولاد يعقوب العبد المطيع ومعناه: عبد اللّه، فإسرا هو العبد أو الصفوة وإيل هو اللّه «لما هلكوا قصوا» أي: لما هلكوا بترك العمل أخلدوا إلى القصص وعولوا عليها واكتفوا بها، وفي رواية لما قصوا هلكوا أي لما اتكلوا على القول وتركوا العمل كان ذلك سبب إهلاكهم، وكيفما كان ففيه تحذير شديد من علم بلا عمل" (فيض القدير للمناوي 1/524).

وعن أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- قال: سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «يُجَاءُ بِرَجُلٍ فَيُطْرَحُ فِي النَّارِ فَيَطْحَنُ فِيهَا كَطَحْنِ الْحِمَارِ بِرَحَاهُ فَيُطِيفُ بِهِ أَهْلُ النَّارِ فَيَقُولُونَ أَيْ فُلَانُ أَلَسْتَ كُنْتَ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ فَيَقُولُ إِنِّي كُنْتُ آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا أَفْعَلُهُ وَأَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ وَأَفْعَلُهُ» (رواه البخاري ومسلم).

وعَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ -رضي الله عنه- قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: « لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ» (رواه الترمذي والدارمي، وانظر الصحيحة للألباني رقم: 946).

وعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ -رضي الله عنه- قَالَ: "لَا أَقُولُ لَكُمْ إِلَّا كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ، كَانَ يَقُولُ: «إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ وَمِنْ دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا»" (رواه مسلم).

وعن جندب بن عبد الله -رضي الله عنه- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ الْعَالِمِ الَّذِي يُعَلِّمُ النَّاسَ الْخَيْرَ وَيَنْسَى نَفْسَه كَمَثَلِ السِّرِاجِ يُضِيءُ لِلنَّاسِ وَيَحْرِقُ نَفْسَهُ» (رواه الطبراني في الكبير: 2/ 165، 167، قال المنذري: وإسناده حسن إن شاء الله، انظر صحيح الترغيب: 1/ 128).

وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى قَوْمٍ تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ قَالَ: قُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالُوا: خُطَبَاءُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا يَعْقِلُونَ» (رواه أحمد، وسنده حسن، انظر صحيح الترغيب: 1/ 125)

وعن علي -رضي الله عنه- أنه ذكر فتنًا في آخر الزمان، فقال له عمر: "متى ذلك يا علي؟" قال: "إذا تفقه لغير الدين وتعلم العلم لغير العمل والتمست الدنيا بعمل الآخرة".

وقال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "تعلموا فإذا علمتم فاعملوا".

وعن لقمان بن عامر قال: كان أبو الدرداء -رضي الله عنه- يقول: "إنما أخشى من ربي يوم القيامة أن يدعوني على رؤوس الخلائق فيقول لي: يا عويمر. فأقول: لبيك ربّ. فيقول: ما عملت فيما علمت". وقال الحسن: "لقد أدركت أقوامًا كانوا آمر الناس بالمعروف وآخذهم به، وأنهى الناس عن المنكر وأتركهم له، ولقد بقينا في أقوام آمر الناس بالمعروف وأبعدهم عنه، وأنهى الناس عن المنكر وأوقعهم فيه، فكيف الحياة مع هؤلاء؟"

يقول ابن جماعة -رحمه الله-: "واعلم أن جميع ما ذكر من فضيلة العلم والعلماء إنما هو في حق العلماء العاملين الأبرار المتقين الذي قصدوا به وجه الله الكريم، والزلفى لديه في جنات النعيم، لا من طلبه لسوء نية، أو خبث طوية، أو لأغراض دنيوية: من جاه أو مال أو مكاثرة في الأتباع والطلاب" (تذكرة السامع والمتكلم ص13).

"إن الإيمان الصحيح متى استقر في القلب ظهرت آثاره في السلوك، والإسلام عقيدة متحركة لا تطيق السلبية، فهي بمجرد تحققها في عالم الشعور، تتحرك لتحقق مدلولها في الخارج، ولتترجم نفسها إلى حركة في عالم الواقع، ومنهج الإسلام الواضح يقوم على أساس تحويل الشعور الباطن بالعقيدة وآدابها إلى حركة سلوكية، لتبقى حية متصلة بالينبوع الأصيل" (في ظلال القرآن: 6/114).

ولهذا ينبغي على العاقل أن يحاسب نفسه قبل أن يقدم على العمل، وينظر في همه وقصده، فالمرء إذا نفى الخطرات قبل أن تتمكن من القلب سهل عليه دفعها، ذلك أن بداية الأفعال من الخطرات، فالخطرة النفسية والهم القلبي قد يقويان حتى يصبحا وسواس، والوسوسة تصير إرادة، والإرادة الجازمة لا بد أن تكون فعلًا.

ومما يقوى في الإنسان إرادة الخير الإكثار من العمل الصالح على علم وبصيرة ومعرفة بالحلال والحرام، وفي ذلك يقول الإمام الغزالي: "الطريق إلى تزكية النفس اعتياد الأفعال الصادرة من النفوس الزكية الكاملة، حتى إذا صار ذلك معتادًا بالتكرار مع تقارب الزمان، حدث منها للنفس هيئة راسخة، تقتضي تلك الأفعال وتقاضاها بحيث يصير له بالعبادة كالطبع فيخف ما يستثقله من الخير".

الكـاتب: خالد سعد النجار
المختار الإسلامي