الوقت والفراغ

منذ 2024-05-11

فليتق المسلم ربه في طلب معاشه، فإن المال وحده ليس طريقا للسعادة ولا للخلود، إنما هو استمتاع ووسيلة لا غاية.

الحمد لله الذي بيده ملكوت كل شيء، وهو يجير ولا يجار عليه. أحمده من إله وأحد أحد فرد صمد، خلق كل شيء وقدره تقديرا، أحمده حمد الشاكرين له، المنقادين لحكمه، الآمرين بأمره المنتهين بنهيه. وأشهد أن لا إله في الأرض، وأهل السماء إلاه. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله إمام الأولين والآخرين وسيد أهل الأرض أجمعين  صلى الله عليه وسلم ما تعاقب الليل والنهار.

 

أما بعد، فيا عباد الله اتقوا الذي خلقكم، والذين من قبلكم واعلموا علم اليقين أن الله جلت قدرته خلق الجن والإنس أجمعين، وعدل في حكمه حين أنزل الأبوين وذريتهما إلى الأرض جزاء عدلا وفاقا لينظر كيف يعملون.

 

استخلف الإنسان في هذا الكون علوه وسفله وأمره بالعمل في حدود طاقته، وطلب إليه أن يتفكر في خلقه، وفي خلق السماوات والأرض. {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101].

{وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21].

 

عباد الله، لقد ثبت في الأثر مما صح عن نبي الإسلام  صلى الله عليه وسلم أن أرزاق الله تقسم على الخلق بعد مطلع كل شمس، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: «بارك الله لأمتي في بكورها».

 

وهذا يعني أن الإنسان المسلم مطالب بحفظ أوقاته حيث لا يدعها تذهب في غير منفعة، وحيث لا يقضيها فيما يضره. فإن طلب الرزق فليجمل في الطلب، وإن قعد فليكن قعوده لسبب حتى إذا زال السبب هب إلى البحث عن مصدر معاشه في حدود ما أباحه الله له. فلا يجعل الدنيا همه وغايته، وإنما يبحث عن رزق الله ليكون وسيلة إلى العمل لله وبلوغ الدار الآخرة؛ لأن هذه الدار ليست مقر تنعم ولا دار قرار ولا استقرار، وإنما هي دار ممر يتمتع الإنسان ما قسمه الله له منها، ثم يزول المعطى، والمعطى له كائنا ما كان.

 

ولنعلم يا عباد الله أن المسلم مأمور بالبحث عن مصدر رزقه، ولكن بطريق مشروع حلال، ولا يفكر بعد ذلك في تأمين الرزق وكثرته وقلته؛ لأن الله حين خلق الخلق من إنسان وحيوان وطير ضمن رزق كل ما يدب على الأرض من كل ذي كبد رطبة حي.

 

وإنما على المسلم أن يفكر في طريق الرزق الحلال من أين اكتسبه، وفيما أنفقه، لأنه سيسأل أمام الله عن كل دانق.

 

وعليه أن يسأل الله من رزقه ولا يستعجل ثمرة دعائه فإنه قد يكون الخير له في تأجيل مسألته. والله وحده هو الذي يعلم النفع من الضر، وعباده لا يعلمون.

 

يقول الحديث القدسي:

«إن من عبادي من يصلح حاله الغنى، وإن من عبادي من يصلح حاله الفقر».

 

عباد الله، يظن كثير من الناس أن السعادة تكون في جمع الأموال، وفي كثرة البنين، وكنز الذهب والفضة، وينسى أن هذه الأمور زينة قد تنفعه وقد تضره، لأنها مصدر خير ومصدر شر، والأصل في ذلك قول الله تبارك وتعالى:

{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران: 14].

 

ولما كانت هذه الدنيا متاع وما عليها زينة يؤتى المسلم والكافر منها بقدر ما أراد الله، وقسم تفاوت الناس في طلب المعاش فمحسن وظالم لنفسه، ومجمل وقاعد وحريص ومتأن. ومهما يكن من شيء فليس للإنسان من هذه الدنيا إلا ما قسم الله له.

فرزق الله لا يأتي به جمع جامع ولا حرص حريص.

 

ألم تعلموا يا عباد الله أن الإنسان يجهد نفسه في طلب الدنيا حتى يكون له من الأموال مثلما أوتي فرعون وزيراه قارون وهامان، حتى يكون حتف الإنسان في ماله، فأين فرعون وملكه؟ وأين فارون وهامان وجنودهما وأموالهما؟

 

نعم قد يسلط الله المال على صاحبه فتشغله عن طاعة الله ويشغله عن النعمة والراحة فتراه لا يفكر إلا في هذا الربح وفي هذه الخسارة، وفي تلك الصفقة، وفي هذه السلعة، وفي هذا السعر، وفي هذا التأجيل، وفي هذا القسط، وفي هذا المقدار، وفي هذا العدد، وفي هذا المصدر، وفي هذه النوعية، وفي هذه المؤسسة، وفي هذه الشركة، وفي عدد العمال، وفي أجورهم، وفي حساباتهم.

 

ويظل طول ليله ونهاره في تفكير لا ينقطع كيف يصلع هذا؟ وكيف يدير هذا؟ وكيف يرد هذا؟ وكيف يأخذ هذا؟ حتى يصاب بنوع من الجنون الذي يجمع عليه الكثير من الأمراض، حتى إذا حشرجت روحه فدعا أمواله وشركاته ومؤسساته وعماله ليحول واحد منهم دون مرض ألم به، ودون قضاء الله لم تستطع أي قوة على وجه الأرض، أن تخلي بينه وبين قدر الله عليه.

 

فأين تكون السعادة إذا علمنا أن المال وحده مصدر خير وشر، وما سمعناه إنما هو في الجانب السلبي الذي مضرته أكبر من نفعه.

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15]   {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67].

 

فالنبي الأمي  جعل المال وسيلة لا غاية وصرفه في مرضات ربه، حتى مات ودرعه مرهونة في دين عليه، خرج من الدنيا يطلب الآخرة، وكان مثال المسلمين في النظرة إلى الحياة نظرة قامت على الزهد في الدنيا وإكبار الآخرة؛ لأن المال الذي اكتسبه نشأ من قراريط في رعي الغنم ونشأ من أجر العمل في تجارة خديجة، ونما من الفيء في الإسلام، وعلى الرغم من ذلك لم يعرف في سيرته الحميدة أنه كان من أصحاب رؤوس الأموال، وأن أهل بيته يرفلون في الحلل ويتبخترون في الذهب والرياش.

 

فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أن أهل بيته يبيتون وطعامهم الأسودان التمر والماء.

ولم يكن ذلك من فقر وإنما هو من زهد في الدنيا واتجاه إلى الله والدار الآخرة.

 

وهذا أقوى جانب إيجابي في المال، وهذا هو مفهم السعادة حيث ينشدها المسلم من المال. إجمال في الطلب وعدم حرص، وعدم استعجال في ثمرة الدعوة حين يوجهها إلى الله، وعدم قعود عن طلب الرزق، توسط بين الحالين مع تفويض الأمور إلى الله.

 

ثم ليعلم المسلم أن من خير ما يتبعه في أسلوب طلب المعاش الاستقامة على دين الله. فلا يتعامل بالغش والخداع والتزييف والكذب في السلعة، وإنفاق الأيمان الكاذبة. فإن ذلك مدعاة لمحق بركة المال. وليؤد حق الله فيه من زكاة وبر وصدقة، فإنه ليس له مما يجمع إلا ما أنفق فأبقي، وأكل ولبست فأبلى. فليحذر المسلم فتنة المال والولد. فإنه لا أشد من هلاك المال إذا وكل إليه الإنسان، لأن المال يعمي ويصم، ويكفي في ذلك شاهدا ما كان عليه بنو إسرائيل، إذ فتنوا بالمال والنساء حتى أخذهم الله وسلط عليهم أموالهم لما انخدعوا بما آتاهم الله، حتى قال طاغيتهم. {يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف: 51]   {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي}[القصص: 38]. {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24].

 

وبعد هذه الأقوال سلوا فرعون عن رؤوس الأموال، وعن ملك مصر، وعن تمتعه بتلك الأنهار الجارية؛ لقد أصبحت وأصبح معها فرعون وقومه أثرا بعد عين. {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [آل عمران: 180]، {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم: 40].

 

فليتق المسلم ربه في طلب معاشه، فإن المال وحده ليس طريقا للسعادة ولا للخلود، إنما هو استمتاع ووسيلة لا غاية. اللهم إنا نسألك رزقا حسنا طيبا حلالا يخدمنا ويعيننا في الاستقامة على منهجك الذي ارتضيته لنا، واجعله بلاغا لنا إلى الخير.

___________________________________________________

المصدر: من كتاب: من المنبر - خطب وتوجيهات

الكاتب: د. محمد بن سعد الدبل