ثلاثية الحياة الزوجية: السكن - المودة - الرحمة

منذ 2024-09-05

محبة وتعاون، إيثار وتضحية، سكن ومودة علاقة، روحيَّة شريفة، ارتباط جسدي مشروع، ذلك هو الزواج.

 

د. زيد بن محمد الرماني

 

محبة وتعاون، إيثار وتضحية، سكن ومودة علاقة، روحيَّة شريفة، ارتباط جسدي مشروع، ذلك هو الزواج.

الطريق البشري الذي سارت فيه الإنسانية منذ مولدها إلى اليوم؛ من ذكر وأنثى بدأت حياة البشر، ومن بيت واحد نبعت الإنسانية.

بيت عماده آدم وحوَّاء، ومنهما تكونت أسر وسلالات، ومنهما تفرعت بيوتات، وقامت مجتمعات، وظهرت أمم ودول، وتبارك الله - تعالى -: { {الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} } [الفرقان: 54].

الحصن الذي يرد عن المرء جموح الغريزة، ويدفع غائلة الاشتهاء، ويحفظ الفرج ويصون العرض، ويحول دون التردِّي في مزالق الفجور، ومهاوي الفاحشة، هو الزواج.

فنرى القرآن الكريم يبعث في نفس كل من الزوجين الشعور بأن كلاًّ منهما ضروري للآخر، ومكمّل له؛ فيقول للرجل: إن المرأة فرع منك وأنت أصلها، ولا غِنى لأصل عن فرعه، ويقول للمرأة: إن الرجل أصلك وأنتِ جزء منه، ولا غِنى للجزء عن أصله، يقول - تعالى -في ذلك: {{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا}} [الأعراف: 189]، فالنفس الواحدة هي نفس آدم - عليه السلام - وزوجه هي حوَّاء.

ولذا، فالزواج في نظر القرآن ليس وسيلة لحفظ النوع الإنساني فحسب، بل هو امتثال لأمر الله - عزّ وجلّ - القائل - سبحانه -: { {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ}} [النساء: 3]، والزواج تحصين للفرج وغض للبصر، وقضاء للوطر في ما أباحه الله، وفيه صيانة وحفظ النسل البشري؛ ليعمر الأرض بعبادة الله، وحفظ للأنساب، وفيه إكثار لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - وحماية للمجتمعات من الأمراض الخُلُقية، وهو فوق ذلك وسيلة للاطمئنان والسكن النفسي، والهدوء القلبي والوجداني.

والزوجان يعيشان حياتهما الزوجية في ظلِّ تعاليم الإسلام في انسجام واتحاد في كل شيء، اتحاد شعور ومشاعر، واتحاد عواطف وبواعث، واتحاد آمال ومآل، واتحاد عمل وتفاهم، واتحاد تربية ورعاية، واتحاد أسرار متبادلة، واتحاد تناكح وتناسل.

ومن عظمة القرآن وكماله نجدُ كل هذه المعاني ما حصرناه، وما لم نحصره متمثِّلاً في آية من القرآن الكريم عدد كلماتها ست كلمات، يقول - تعالى -: {{هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} } [البقرة: 187]، يقول القرطبي - رحمه الله - في تفسيره "الجامع لأحكام القرآن": أصل اللباس في الثياب، ثم سُمِّي امتزاج كل واحد من الزوجين بصاحبه لباسًا، لانضمام الجسدين وامتزاجها وتلازمها؛ تشبيهًا بالثوب.

وبذلك يتضح أنَّ العلاقة بين الزوجين هي علاقة امتزاج والتصاق، وهي أقوى علاقة اجتماعية؛ لاحتوائها على ناحيتين: ناحية غريزية فطرية، وناحية عاطفية وجدانية،

وإذا التقت الغريزة والعاطفة، فثمَّ أقوى رابطة نفسية.

ويصوِّر القرآن الكريم ارتباط الغريزة والعاطفة بين الزوجين، ويشير إلى أنه آية من آيات الله ونعمة من نعمه التي لا تُعد ولا تُحصى، يقول - تعالى -: {{وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} } [الروم: 21].

فسكون الزوج إلى زوجه والتصاق المرأة بزوجها أمرٌ فطري غريزي، وما بينهما من مودة ورحمة، أمور عاطفية تتولد وتنشأ عن الجانب الغريزي وغيره.

وفي تلك الآية وضع القرآن أُسس الحياة العاطفية الهانئة الهادئة، فالزوجة ملاذ للزوج يأوي إليها بعد جهاده اليومي في سبيل تحصيل لقمة العيش، ويركن إلى مؤنسته بعد كده وجهده وسعيه ودَأَبِه، يلقي في نهاية مطافه بمتاعبه إلى هذا الملاذ إلى زوجته التي ينبغي أن تتلقاه فَرِحَة، طلقة الوجه، ضاحكة الأسارير، يجد منها آنئذٍ أُذنًا صاغية وقلبًا حانيًا، وحديثًا رقيقًا.

عن أبي أُمامة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله - عزّ وجلّ - خيرًا له من زوجة صالحة، إن أمرها أطاعته، وإن نظر إليها سرته، وإن أقسم عليها أبرته، وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله)).

وهذا المفهوم لصلاح المرأة يؤكده ما خُلِقت المرأة من أجله وهو أن تكون سكنًا للرجل، بكل ما تحمله كلمة سكن من دلالات ومعان وأبعاد، وحتى يكون السكن صالحًا لا بد من أن تتوفر فيه صفات أهمها أن يرى فيه صاحبه ما يَسرُّه، وأن يقدر على أن يحفظ فيه أهله وماله، وألاَّ يقيم فيه معه من يخالفه وينازعه، وهذه هي الصفات نفسها التي أطلقها النبي - صلى الله عليه وسلم - على المرأة الصالحة.

قال أحدهم لآخر: لمن أزوِّج ابنتي؟! قال: زوّجها لمؤمن، إن أحبَّها وَدَّها، وإن كرهها رحمها ولم يظلمها.

ولنقف قليلاً عند قوله - تعالى -: {{وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} } [الروم: 21].

أولاً: تفاسير العلماء لهذه الآية:
يقول الطبري - رحمه الله - في كتابه "جامع البيان عن تأويل آي القرآن": ومن حججه وأدلته - عزّ وجل - على أنه القادر على ما يشاء، خَلقُه لأبيكم آدمَ - عليه السلام - من نفسه زوجةً؛ ليسكن إليها، وذلك أنه - سبحانه وتعالى - خلق حوَّاء من ضلع من أضلاع آدم، وجعل بينكم بالمصاهرة والختونة مودة تتوادُّون بها، وتتواصلون من أجلها، ورحمة رحمكم بها، فعطف بعضكم بذلك على بعض، إنّ في فِعْله ذلك لعِبَرًا وعظاتٍ لقوم يتذكرن في حجج الله وأدلته.

ويقول أبو الحسن الماوردي - رحمه الله - في كتابه "النكت والعيون": وجعل بينكم مودة ورحمة، فيه أربعة أقوال: أحدها: أنّ المودة المحبة، والرحمة الشفقة.

الثاني: أنّ المودة الجماع، والرحمة الولد.
الثالث: أنّ المودة حب الكبير، والرحمة الحنو على الصغير.
الرابع: أنهما التراحم بين الزوجين.

ويقول ابن كثير - رحمه الله - في كتابه "تفسير القرآن العظيم": ومن آياته - سبحانه - الدالة على عظمته وكمال قدرته أنْ خلقَ لكم من جنسكم إناثًا تكون لكم أزواجًا؛ لتسكنوا إليها، ولو أنه - تعالى - جعل بني آدم كلَّهم ذكورًا، وجعل إناثهم من جنس آخر من غيرهم؛ إما من جنّ أو حيوان، لما حصل هذا الائتلاف بينهم وبين الأزواج، بل كانت تحصل نفرة لو كانت الأزواج من غير الجنس، ثم من تمام رحمته ببني آدم أن جعل أزواجهم من جنسهم، وجعل بينهم وبينهنَّ مودة وهي المحبة، ورحمة وهي الرأفة، فإنّ الرجل يمسك المرأة إما لمحبته لها، أو الرحمة بها، بأن يكون لها منه ولد، أو محتاجة إليه في الإنفاق، أو للألفة بينهما وغير ذلك.

ثانيًا: ولنقف قليلاً عند قوله: {من أنفسكم}، الزوجة إنسان كريم، والمماثلة قائمة بينها وبين الزوج، وللرجل درجة القوامة على المرأة؛ { {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}} [البقرة: 228]. والقوامة ليست تحكُّمًا من الزوج؛ لإلغاء آراء الآخرين، إنها كإشارة المرور التي تنظم السير في الشارع دون أن توقفه، ولذا فقوامة الرجل لا تلغي دور المرأة ولا مشاركتها في الرأي ومعاونتها في بناء الأسرة.

ثالثًا: إنّ الأمن والسكن والاستقرار يؤدي إلى نجاة الأبناء من كل ما يُهدِّد كيانهم، ومن كل ما ينحرف بهم، ويبعدهم عن الطريق القويم؛ لأنهم ينشؤون داخل مؤسسة نظيفة لا غش فيها ولا دغل، اتضحت فيها الحقوق واستبانت المعالم، وقام فيها كل فرد بواجبه وأدى ما عليه؛ كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته.

تحددت فيها القوامة، ورضي كل فرد فيها بماله بغير تعدٍّ على الآخرين أو تحدٍّ لهم؛ {{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ}} [النساء: 34]، إنها اختصاصات موزعة توزيعًا ربانيًّا عادلاً، لا جور فيه ولا ظلم، بل تكامل وتراحم.

رابعًا: إنّ على كل من الزوجين أن يحترم رأي الآخر، وليكن النقاش المبلل بندى العاطفة السبيل الذي يُرجع إليه، ومن الخير ألاّ يطول النقاش وألاّ يصل إلى حد المراء، ومن الخير أن يتنازل واحد منهما مرة عن رأيه للآخر، لا سيما عندما يبدو له رجاحة الرأي المقابل.

إنّ النقاش الموضوعي المصقول بندى المودة والمحبة يتغلب على كل المصاعب؛ حفاظًا على الحياة الزوجية السعيدة، ولسان حال الزوجة السعيدة يقول:

أنا   أنت    وأنت    أنا        كلانا روحان سكنا بدنا

خامسًا: إنّ المودة والرحمة الفطرية التي جعلها الله بين الزوجين لتزداد بازدياد خصال الخير في كليهما، وتقل بانخفاض خصال الخير فيهما، وإن النفس جبلت على محبة مَن يعاملها بلطف ويسعى لها بالخير فكيف إذا كان هذا الإنسان هو الزوج أو الزوجة وبينهما مودة من الله؟ لا شك أن تلك المودة سوف تزداد وتقوى، يقول - صلى الله عليه وسلم -:  «الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة» .

سادسًا: ومن لطائف الحياة الزوجية في بيت النبوة، ما جاء في رعاية حق الزوجية في الحياة، وبعد الممات، ففي صحيح البخاري عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: « ما غرتُ على أحد من نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - ما غرتُ على خديجة وما رأيتُها، ولكن كان النبي يُكثر ذكرها، وربَّما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاءً ثم يبعثُها في صدائق خديجة، فربّما قلت له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة؟ فيقول: إنها كانت وكانت، وكان لي منها ولد» .

وفي الحديث من الفوائد:
(1) في الحديث بيان ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - من كريم الخصال وعظيم الصفات، من حسن العهد، وحفظ الود، والحلم وحُسن المعاشرة، ورعاية حرمة الصاحب والمعاشر حيًّا وميِّتًا، وإكرام معارف ذلك الصاحب.
(2) وفيه فضل خديجة وعظيم قدرها عند رسول الله ومحبته لها.
(3) وفيه أنّه ينبغي للزوج أن يحفظ لزوجه المودة والتقدير، حيًّا وميتًا؛ اقتداءً برسول الله.
(4) على الزوجة أن تسعى جاهدة؛ لكسب ودِّ زوجها، والتحبب إليه بحسن المعاملة، وطيب المعاشرة، فالمرأة المحبوبة هي التي تعطي الرجل ما نقص من معاني الحياة، وتلدُ له المسرات من عواطفها، كما تلد من أحشائها، فالمرأة وحدَها هي التي تستطيع إيجاد الجو الإنساني لزوجها، فمن النساء مَن تدخل الدار فتجعلها روضة ناضرة باسمة مهما كانت مصاعب الحياة، ومن النساء مَن تدخل الدار فتجعل فيها مثل الصحراء برمالها وقيظها وعواصفها، ومن النساء من تجعل الدار لزوجها هي القبر!

أيها الزوجان، لتكن حياتكما مملوءة بالمودة والرحمة، وليكن أساسها السكن النفسي، لتنعما بحياة أُسَرية، وراحة نفسية، وهناءة زوجية، وصفاء روحي، ونعيم دنيوي وثواب أخروي، وتواصل وجداني، ومحبة متبادلة ، وذرية صالحة، وأُسَرة كريمة.