فلذات الأكباد وأتون المهالك

منذ 2024-09-25

فلا ينبغي الاستسلام للأمر الواقع وتسليم فِلْذات الأكباد لقمة سائغة لدعاة الانحلال، ومروِّجي الانحطاط، بل يجب مقاومة ذلك بالوعظ الدائم، والنصيحة المستمرة، والتحذير المتكرر

مفهوم الولد الصالح: إنَّ طلب الولد فِطرة فطرنا الله عليها، وصلاحُ الولد هو مطلب كلِّ مسلم، فما من مسلم صالح أو غير صالح من رجل أو امرأة، إلا يتمنى إذا رُزِقَ بولد أن يكون ذلك الولد صالحًا، ولربما كان مفهوم الصلاح عند البعض يختلف عنه عند البعض الآخر؛ فإن حدود الصلاح ومفهومه قد يكون واسعًا في المنظور العام، مختلفًا صعودًا وهبوطًا، وقربًا وبُعدًا من أحكام الدين، بحسب ثقافة كل أحد، ومدى فَهمِهِ لدِينه، فقد يكون نصف الصلاح عند البعض هو كماله عند البعض الآخر، وقد يكون كماله عند البعض هو عين التشدُّد أو التطرُّف عند البعض الآخر، لن نستطيع في هذا الجانب أن نكون على نموذج مثاليٍّ واحد متَّفَق عليه إنسانيًّا أو مجتمعيًّا، رغم أنه في الحقيقة الدينية نموذج ثابت.

 

ثالثةُ الأثافِيِّ: إن التباين في مفهوم الصلاح وحدوده أمر واقع لا يمكننا إنكاره، بل يمكننا أن نفهم أنه أحدُ جوانب الاختلاف البشري، ومن ثَمَّ فإننا نستطيع أن نتعايش معه، طالما كان ذلك الاختلاف ضمن إطار متفق عليه، من قبول اختلاف الدين أو المذهب أو نحو ذلك، لكن الذي يُغِصُّ حلوقنا، ويُكدِّر عيشنا، وتتفطَّر له أكبادنا، هو أن نكون على نموذج محدَّد من الصلاح، يتوافق مع منهجية دينية وسطية، لا إفراط فيها ولا تفريط، ثم يأتي حصاد تربية فِلْذات أكباد أفاضل منا في نهاية الأمر على خلاف ذلك، إن هذا يمثِّل خطرًا حقيقيًّا، وزلزالًا مدوِّيًا، له آثار أخلاقية كارثية على جموع المسلمين الذين ينظرون لهؤلاء على أنهم قدوات، ثم يرَونهم عِيانًا وقد أخفقوا في تربية أبنائهم دون اعتراف صريح من هؤلاء القدوات بذلك؛ إذ تصبح تلك الإخفاقات مع تعدُّدها ونشرها، وعدم تبرؤ أصحابها منها، تصبح أمرًا مألوفًا وعاديًّا.

 

التربية بين الماضي والحاضر: الحقيقة أن التربية كانت في السابق أسهل مما هي عليه الآن بمراحلَ، كان في جيل أبي يشارك في التربية شركاء ستة؛ هم: البيت والمسجد، والمدرسة والكتب، والصحف والشارع، وكان البيت والمسجد هما صاحبا النصيب الأوفر في التوجيه وغرس المفاهيم، ثم صار في جيلي أنا يشارك في التربية شركاء سبعة؛ هم: البيت والمسجد، والمدرسة والتلفاز، والكتب والصحف والشارع، وصار الذي يتقاسم النصيب الأوفر من التوجيه وغرس المفاهيم من هؤلاء السبعة اثنان هما: البيت، والتلفاز، فلذلك كثرت نماذج الانحراف الشخصي، والفشل الأسري في مرائينا، فشاهدنا المدمنين، وسمعنا البلطجية يصيحون في الشوارع والحواري، وكثرت حالات الطلاق وحالات التفسُّخ الأسري، وغيرها من صور الانحراف الأخلاقي؛ بسبب ما كانت ولا تزال تروِّج له الشاشات الزرقاء بطريق التلقين من انحرافٍ ومفاسدَ، ولكن مع ذلك ظل البيت في الغالب الأعم هو الحصن الحصين الذي تتغربل فيه جميع المثالب، وتتفلتر فيه المفاهيم والمبادئ، ولقد خرجت المرأة في جيلي إلى العمل خارج البيت، لكنها ظلَّت أيضًا تقوم بدور كبير في التربية والحماية.

 

تدمير الجيل الحالي: كان أمرُ القِيَم وتعاليم الدين إلى حدٍّ ما من القبول بمكان بحيث إن الانحطاط كانت قد قوَّضته صحوة الخمار واللحية في تسعينيات القرن الميلادي الماضي، والعشر الأوائل من القرن الحالي، فصار السير إلى الهاوية متباطئًا بشكل ربما أطمَعَنَا وقتها في سَرَفٍ من التفاؤل، فلما كان جيل أبنائي صار الذين يشاركون في التربية ستة؛ هم: الفيس بوك، ومقاطع اليوتيوب، والتيك توك، وأغاني الفيديو كليب، والأفلام والمسلسلات، والبيت، والمسجد، وغاب دور المدرسة والكتاب والصحيفة في كثير من البلاد، لأسباب عديدة، وحلَّت وسائل التواصل محل الكتاب والصحيفة، أما المدرسة والمعلم، فإن الدروس الخصوصية حلَّت محلها، والمدرس لم يعُد في نظر تلاميذه هو القدوة الذي يُحتذى به في سلوك أو خُلُقٍ، ولو كان في حقيقته كفئًا لذلك، لكن بروز وضعه الاجتماعي المتراجع بسبب الفقر وطغيان المادة - في الغالب - أو بطغيان التعصب القبلي في بعض الأماكن، كل ذلك أدى إلى تراجع دور المدرسة والمعلم، أما البيت فإنه لم يعُد يؤثر في الواقع ذلك التأثير الفاعل؛ لأن ارتباط أبنائنا بالهواتف ووسائل التواصل وما يُنشَر فيها من الغثِّ والتافه، وما هو في ظاهره برَّاق لامع، وفيه باطنه جمر حارق، ووصول الأولاد إلى هذه المواقع والصفحات على مدار الساعة دون انقطاع، وتأثرهم بما ينشره غيرهم ممن لا نعرفهم، ولا يعرفوننا، من مفاهيم ومبادئ مع عدم قدرة الوالدين على ملاحقة كل كبيرة وصغيرة مما يرى ويسمع أولادهم وبناتهم، كل ذلك أدى إلى تراجع دور البيت، لا سيما عند وجود أب مشغول في الغالب، وكلما حاول التدخل في شؤون أولاده، تعقَّدت علاقته بهم؛ إذ يحملون تدخُّله فوق رؤوسهم عبئًا وصدامًا، وكذلك حين تكون الأم كثيرة المشاغل؛ عاملة كانت أو غير عاملة، فالمرأة لا تنتهي أعباؤها عند حدٍّ، وذلك بحكم طبيعتها، ثم هي عادة ما ترى أنها في التربية لا تُقصِّر، وأنها بذلت وتبذل، ونصحت وما فرَّطت، وأن أولادها هم قلائد اللؤلؤ على جبين الزمن، مهما كانوا وكيف كانوا، في هذا الجو وفي ذلك البيت ينشأ كثير من أبناء المتدينين؛ أمٌّ تحفِّظ القرآن ولكنها لا تستطيع أن تراجع لأولادها بعد سن البلوغ آيةً مما كانوا يحفظونه في الصغر، وأبٌ داعية في محيطه ربما ملأ السمع والبصر، ولكن لا يسمع له أبناؤه ولا يُبصرونه؛ لأنه عندهم مخلوق قادم من زمن آخر، والحقيقة أننا في غفلة لما سمحنا لغرباء آثمين أن يتخلَّلوا مخادعنا، ويسكنوا مع أولادنا بين أسماعهم وأبصارهم، في مكان ما بين القلب والعقل.

 

الوقاية خير من العلاج: هناك أشياء أخلاقية كثيرة عند جَرْحِها، فإنها لا يمكن أن تعود إلى ما كانت عليه، إنما غاية ما يمكن الوصول إليه لو يسَّر الله للإصلاح سببًا أن يلتئم الجرح الأخلاقي مع ندب باقٍ وظاهر، وإنَّ مكمن الخلل الذي يجب إصلاحه هو تلك النوافذ الإلكترونية الشريرة المشرعة، التي يتعرض لها أبناؤنا في كل لحظة، وتأثير بعضهم في بعض عن بُعد، وتأثرهم بمن لا نعرف عنهم شيئًا، لن نستطيع إصلاح ما يفسُد من أخلاق الأجيال الصاعدة، إذا ما تسرَّب الفساد إليهم، وإن لحظة واحدة من الغفلة كفيلة بأن تهدم ما بناه الوالدان في سنوات، طالما كان البناء مُثْخَنًا بالثغرات، وهو غالبًا كذلك.

 

مجرد نماذج: لقد طفحت على السطح منذ عدد قليل من السنوات نماذجُ لأبناء أناسٍ أفاضلَ ضلُّوا وجهتهم، لتدقَّ الأقدار لنا ناقوس الخطر، وتعلن عن حصول المصاب الجَلَل وقرب انتشاره، بحيث إنَّ هؤلاء سيكونون مع الغفلة مجرد بداية، ستليها توابع سلبية مُفجِعة في أخلاق الأمة كلها وقناعاتها، فلقد تفاجأ الناس من سنوات قلائل أنَّ أمًّا وأبًا من كبار الدعاة الإسلاميين قد ظهرت ابنتهم في مكان ما بدون حجاب، ونال الوالدين الوقورين من التهكُّم والسِّباب إذ ذاك ما نالهم، على وسائل التواصل، ومنذ أشهر قليلة ظهرت ابنة طبيب كبير مشهور بالتدين وبربط العلم بالدين في لقاءاته الإعلامية، ظهرت وهي في حفل زفافها غير محتشمة تمامًا، ومنذ أيام قليلة إذا بنفس المشهد العبثي الصادم يتكرر مع داعية معروف ظهرت ابنته أيضًا في حفل زفافها، بغير حجاب، ولم يَسْلم أحدٌ من هؤلاء الدعاة من تهكُّم الناس بهم، وسخرية الكثيرين، وزعمهم أن هذا مظهر من مظاهر مخالفة القول للعمل، وذلك التسرع من الغوغاء في الحكم على غيرهم يجعل السؤال يطرح نفسه: هل نحن الآن لنا سيطرة على أولادنا وبناتنا؟ وهل نستقل بمقدار مقبول بتربيتهم؟ بصرف النظر عن نماذج بنات الدعاة الثلاثة المشار إليهن، فلسنا هنا بصدد الحديث عن ذلك، ولا سبر أغواره، لكن الذي يجب أن نجد له جوابًا ربما لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الأجيال القادمة، هو ذلك السؤال الْمُلِحُّ: ما الحل؟ إذا كنا نعرف ونُقِرُّ ونشهد أننا لم تعُد لنا سيطرة معقولة على أولادنا في ظل سيطرة الهاتف وما فيه، وقنوات الفضاء وما تبثُّه في عقولهم، فماذا يمكنني أن أفعله، كأب أو كأم، في ظل تلك التحديات والمصاعب؟ والجواب أن الحل يكمن في ثلاثة أمور: أولها الوعظ والاستمرار في الوعظ، لا نملك إلا ذلك؛ لأن الله قال فيما هو أشد: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132]. 

فلا ينبغي الاستسلام للأمر الواقع وتسليم فِلْذات الأكباد لقمة سائغة لدعاة الانحلال، ومروِّجي الانحطاط، بل يجب مقاومة ذلك بالوعظ الدائم، والنصيحة المستمرة، والتحذير المتكرر؛ فإنَّ هذا إن فشل في إحداث تغيير كامل، فإنه لن يفشل في السيطرة على الأثر السلبي، وكبحه عن التمادي.

ثانيًا: ينبغي أيضًا على من يُبتلى بشيء من ذلك في أبنائه أو بناته، أن يجهر بعدم الرضا، ويصرِّح بالرفض؛ فإن التعايش والقبول ولو لمرة واحدة سيؤدي إلى استمرار ذلك وانتشاره، وبخاصة إذا كان من يُبتلى بذلك معروفًا بالتدين، فضلًا عن أن يكون داعية أو نحو ذلك، فليس الحل مجرد الإنكار بالقلب، أو مجرد النصح، ثم يفعل الفتى أو تفعل الفتاة ما يشاء أو تشاء، إنما لا بد من موقف يتسم بالاعتدال والحكمة مع الحسم، فلا هو انسياق لِما هم فيه من خلل وانحراف، ولا هو تطرف في ردِّ الفعل؛ كما ظهر في بعض الأخبار من أسابيع قليلة حين قام أب بمشاركة ابنه في حلق شعر ابنته العشرينية المتخرجة من الجامعة؛ لأنها خلعت الحجاب، يجب أن يكون هناك خيار ثالث، أكثر رشدًا، فيه تقدير للواقع ومقدار المخالفة، وحدود ما يمكن وما لا يمكن من القول أو العمل.

ثالثًا: في ظل عجزنا الذريع عن التأثير الحقيقي في صون أبنائنا وبناتنا من الأخطار الأخلاقية المحدِقة بهم، لا ينبغي أن نُغفِل أهمية الدعاء؛ فقد علمنا الله أن نقول: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [سورة الأحقاف: 15].

 

نبذل الوسع ولكن يبقى أن نؤكِّد على أن فساد زوجة نوح عليه السلام وفساد ابنه، وكذلك فساد زوجة لوط عليه السلام، لم يكن سوى رسالة لنا على مر الأجيال بأن الهداية من الله وحده، وأن مخالفة الأبناء لآبائهم الأنبياء، ومَن دونهم ممن هم على نهجهم من الدعاة، هو أحد الابتلاءات، التي ينبغي حين أن نعرف بها أن نترفَّق بالمبتلى، فنحن لا نعرف مقدار ما يَجِيش به صدره من الألم لِما يرى ولده عليه، وقد يكون تركه الإنكار في الظاهر ليس لقبوله بالخطأ، ولكن لفرط إحساسه بالحزن، مع خوفه من أن يصبح عونًا للشيطان على ولده، إذا هو قطعه، أو أعلن التبرؤ منه، فيُفضِّل أن تظل علاقته به كما يظهر لنا؛ رجاءَ أن يتقبل الله دعوته له بالهدى ولو بعد حين.

________________________________________________
الكاتب: د. محمد محمود النجار