{وإن تشكروا يرضه لكم}

منذ 2024-09-30

اعترافٌ من العبد بِمِنَّةِ اللهِ عليه، وإقرارٌ بنِعَمِه وآلائه عليه.. وهو دليلٌ على صفاء النفس وطهارةِ القلب، وسلامةِ الصدر، وكمال العقل.

خلقٍ عظيم من أخلاق المؤمنين، ومقامٍ كريمٍ من مقامات الصالحين، أثنى الله على أهله بأجمل الثناء، ووعَدهم بأحسنِ الثواب والجزاء.

 

خُلقٌ رائعٌ أصيل، وعملٌ صالحُ جليل، ووصفٌ رائقُ جميل، انفردَ به طائفةٌ من الِعباد موفقون، على أنهم في الناس قِلَّةٌ قليلون.. و {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيم} [الجمعة: 4].

 

خُلقٌ عجيب، فهو الغايةُ من إيجاد الخَلْقِ، كما أنه سببٌ لحفظ النِعَمِ الموجودة، وجلب النعم المفقودة.. وسببٌ من أسباب حصول الأمن والأمان... إنه الشكر يا عباد الله: يقول جلَّ وعلا: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} [النساء: 147]، ويقول سبحانه: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7]، وقال تعالى: {وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِين} [آل عمران: 145].. ويقول عزَّ وجلّ: {ٱعْمَلُواْ ءالَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13].

 

والشكرُ أيها الكرام: اعترافٌ من العبد بِمِنَّةِ اللهِ عليه، وإقرارٌ بنِعَمِه وآلائه عليه.. وهو دليلٌ على صفاء النفس وطهارةِ القلب، وسلامةِ الصدر، وكمال العقل.. والله عزَّ وجلَّ إنما خلَق الناسَ من أجل أن يشكروه، قال عزَّ وجلّ: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78].. {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُون} [الملك: 23].. وأخبَر سبحانهُ أن رضاه في شكره فقال تعالى: {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7]، وخصَّ اللهُ الشاكرينَ بِمِنَّتِه عليهم من بين سائرِ عبادِه فقال جلَّ وعلا: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 53].

 

وَمَنْ تأمل القُرْآنَ وتدبره.. تعلَّم منه شُكْرَ النِعَمِ، وَأنَّ هذا هو مَنْهَجُ الأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ.. فأبو الأنبياء نوحٌ عليه السلام وصَفَه ربُّه بقوله: {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء: 3]، وقال عن خليله إبراهيمُ: {شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ، وقال على لسان موسى عليه السلام: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7]، وقال عن سليمان عليه السلام: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل: 19]..

وبالشكر أمر الله خليله محمد صلى الله عليه وسلم: فقال تعالى: {بَلِ ٱللَّهَ فَٱعْبُدْ وَكُن مّنَ ٱلشَّـٰكِرِينَ} [الزمر: 66]، وبه أمر كليمه موسى عليه الصلاة والسلام فقال عز وجل: {يٰمُوسَىٰ إِنْى ٱصْطَفَيْتُكَ عَلَى ٱلنَّاسِ بِرِسَـٰلَـٰتِي وَبِكَلَـٰمِي فَخُذْ مَا ءاتَيْتُكَ وَكُنْ مّنَ ٱلشَّـٰكِرِينَ} [الأعراف: 144]، وبه أمر الله داود عليه السلام فقال: {ٱعْمَلُواْ ءالَ دَاوُودَ شُكْرًا} [سبأ: 13]، وبه أمر الله لقمانَ فقال سبحانه: {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا لُقْمَانَ ٱلْحِكْمَةَ أَنِ ٱشْكُرْ للَّهِ} [لقمان: 12]، وبالشكر أوصى الله جميع بني آدم، فقال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان: 14]، وهو وصية الحبيب صلى الله عليه وسلم لأصحابه، كما جاء في الحديث الصحيح: «يَا مُعَاذُ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ، أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ تَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ».. وحين تعجب الصحابة من كثرة عبادة النبي صلى الله عليه وسلم وطول قيامه، أجابهم بقوله: “أفَلَا أكونُ عبدًا شكورًا“.

 

فحريٌ بِالعِبَادِ أَنْ يَشْكُرُوا اللهَ تَعَالَى عَلَى مَا هَدَاهُمْ لِدِينِهِ، وعَلَى مَا عَلَّمَهُمْ مِنْ شَرَائِعِهِ، وعلى ما وفقهم لطاعته وعبادته، وعلى ما صرف عنهم من الشرور والفتن، فَإِنَّ الهِدَايَةَ نِعْمَةٌ، وَالعِلْمَ النافع نِعْمَةٌ، وَالتَّوْفِيقَ لِلْعَمَلِ الصالح نِعْمَةٌ، والسلامةَ من الآفات والفتنِ ن عمة، {وما بكم من نعمة فمن الله} [النحل: 53]، وَكُلُّ نِعْمَةٍ تَسْتَوْجِبُ الشُّكْرَ.. وَالإِنْسَانُ بين حالين لا ثالث لهما، شكرٌ أو جحود، كما قال جلَّ وعلا: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 3].

 

وشُكر الله يكون بالقلب ويكون باللسان ويكون بالجوارح، فالقلب يقرُّ بنعم الله، ويعترفُ بفضل المنعم وكرمه ومنته سبحانه، ويستشعرُ التقصير والعجز عن شكرها، قال جل وعلا: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد: 16]، وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُون} [الإنفال: 2].. وشكر اللسان بالإكثار من ذكر الله والثناء عليه بما هو أهله، قال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152]، وقال سبحانه: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبّكَ فَحَدّثْ} [الضحى: 11].. وشكر الجوارح أن تقومَ بما عليها من الفرائض والعبادات، قال تعالى: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ} [الزمر66]، وقال تعالى: {وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78].

 

كما أنَّ من الشكر استعمالُ النِّعمِ في مرضاة الله، قال تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُون} [الأعراف: 10]، وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون} [النحل: 14].

 

ألَا فاتقوا اللهَ رحمكم الله واعلموا أنَّ وسائل الشكر كثيرةٌ متنوعة، وميادينه رحبةٌ واسعة، فتعدادَ النِّعم من الشكر، والتحدُّثُ بها من الشكر، وَمَنْ أثنَى فقد شَكَرَ، والقناعةُ شكرٌ، والصدقةٌ شكر، ومِنَ الشكرِ ألَّا يزالُ لسانُكَ رطبًا بذكرِ اللهِ، ومن قال إذا أصبح وإذا أمسى: “اللهم ما أصبَح بي من نعمةٍ أو بأحدٍ من خَلْقِكَ فمنكَ وحدَكَ لا شريكَ فلكَ الحمدُ ولكَ الشكرُ، فقد أدَّى شكرَ يومه“.. ويقول التابعي الجليل: عبد الرحمن السُّلَمِيُّ: “الصلاةُ شكرٌ، والصيامُ شكرٌ، وكلُّ خيرٍ يعمَلُه لله عزَّ وجلَّ شكرٌ، وأفضلُ الشكرِ الحمدُ“..

 

والموفق من عباد الله: هو الذي يلْحَظَ نِعَمَ اللهِ تَعَالَى عَلَيهِ، ولا يغيب عن قلبه وعقلهِ شعورهُ بفضل اللهِ عليه، فالأمنُ والأمانُ نعمة، والصحةُ والعافيةُ نعمة، ورغدُ العيش نعمة، والسلامةُ من الشرور نعمة.. واجتماعُ الكلمةِ نعمة، وَكُلُّ عَمَلٍ صَالِحٍ نُوَفَّقُ إِلَيْهِ ونقوم به فَهُوَ نعمة.. {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النحل: 18]، وكلما استشعر القلب ترادف النعم لهج بحمد الله وشكره والثناء عليه بما هو أهله.. والمولى جلّ وعلا يقول في محكم كتابه: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِين} [الزمر: 22].. فمع كثرة ما أحدَث اللهُ لأهلُ هذا الزمان من النّعَم والخيراتِ، وما خصهم به منها دون السابِقين من أسلافهم، وما فتحهُ الله عليهم من العلوم والمكتشفات، والآلاتِ والأدوات والمعدات، ووسائل النقل والمواصلات، وأجهزة التواصل والاتصالات، وفي كلِ مجالٍ من مجالات الحياة، أمورٌ كثيرةٌ جداً تيسرت بها الأحوال، وتحسَّنت بها أسبابُ المعيشة.. ومع كلِّ هذا فأنّ أكثر الناس في غفلةٍ معرضون، و {إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُون} [غافر: 61]، وسنة الله الجارية: أنه عندما يُنعِمُ على العباد فيكفرون بالنعمة ولا يشكرون، يعاقبهم بسلبها منهم، ويسلط عليهم الجوع والخوف جزاءً بما كانوا يصنعون، قال تعالى: {وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [النحل: 112].

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُّونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ * لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ * سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ} [يس: 33].

 

معاشر المؤمنين الكرام: الْأَمْنُ والأمان: أُساسٌ من أساسيات الحياةِ، وضَرُورَةٌ من أهم الضَّرُوريّاتِ؛ بل إن الدِّين وَالنَّفْس وَالْعَقْل وَالْعِرْض وَالمَال، لَا تُحْفَظُ إِلَّا بِالْأَمْنِ..

 

إِذَا اخْتَلَّ الْأَمْنُ لا قدَّر الله: فلا تسل عن سفك الدماء والقتل، ولا عن انتشار الْفَوْضَى والجهل، ولا عن فساد الأخلاق، وتفشي البطش والظلم.. أذا اختل الأمنُ: فلا هناءة بعَيشٍ، وَلا تلذذَ بطعامٍ، وَلا راحةَ في نَومٍ، ولا استئناس بنعيم.. إِذَا اخْتَلَّ الْأَمْنُ: توقفت عجلت الحياة، وتعطلت أسبابُ الرقي والنماء، ليحِلُ محلّها الهدم والخراب، وتوقفُ التعليمُ، ليحِل محلَّهُ الجهلُ والتَّخلف، وتوقفُ الإنتاجُ، ليحِلُ محلَّهُ الفقرُ والديون..

 

إِذَا اخْتَلَّ الْأَمْنُ يا عباد الله: تسلَّط اللُّصُوصُ والمجرمونَ عَلَى الْأَعْرَاضِ فَانْتَهَكُوهَا؛ وَعَلَى الْأَمْوَالِ والممتلكات فَانْتَهَبُوهَا؛ وعلى كُلِّ جميلٍ في الحياة فأفسدوه وخربوه.. فالأمنُ يا عباد الله: ضَرُورَةٌ لا تستقيمُ الحياةُ بدونه.. الأمن تاجٌ على رؤوس الدول لا يراه إلا من فقده.. تأمَّلوا كيف يمتنُ اللهُ تعالى على أهل مكةً بالأمن، بينما الناس من حولهم خائفون، {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} [العنكبوت: 67]..

 

وتأملوا بم يُبَشَّرُ أهلُ الْجَنَّةِ عند أولِ دخولهم لها: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ} [الحجر: 46]، لمَ؟ لَأنهُ لا قيمةَ لأيِّ نعيمٍ بدون الْأَمْنَ والأمان، وليس عند الدخول فقط، فمقامهم في الجنة آمن: {إِنَّ المُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} [الدخان: 51]، وطعامُهم فيها مؤمَّن: {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ} [الدخان: 55]، ومستقرهم فيها آمنٌ: {وَهُمْ فِي الغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [ سبأ: 37].. كُلُّ ذلك يبينُ شِدَّة أَهَمِّيَّةِ الْأَمْنِ وضروريته، وأنَّ فقدهُ فُقدانٌ لكُلِّ ما هو جميلٌ في الحياة، وأن خسارته خَسَارَةٌ لَا تعَوَّضُ بأيِّ شَكلٍ كان..

 

فإذا عرفنا قيمة الأمن يا عباد الله، فاعملوا أنّ التعرضَ للفِتَنِ، والانفتاحَ على الشهوات والشُّبهات، فيه خطرٌ عظيمٌ على أمْنَ المسلِم وإيمانه، بل على أمن المجتمع كله، ولذا فإنَّ من آكدِ ما يجبُ على المسلم أن يأخذَ بأسباب النجاة، ووسائل السلامة، وأولها: الاعْتِصَامُ بِاللهِ تعالى، فهو القائل سبحانه: {وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [آل عمران: 101]، وقال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء: 175]..

 

وثاني الأسباب: التمسك بالكِتَاب والسنة، تعلماً وتطبيقاً، في الحديث الصحيح، قال صلى الله عليه وسلم: "تركتُ فيكم ما إن اعتصمتُم به فلن تَضِلُّوا أبدًا، كتابَ اللهِ، وسُنتي"..

 

وثالث الأسباب: المحافظةُ على الأذكار والفرائض والعبادات، فالعبادة والذكر أمنٌ وأمان، وراحة واطمئنان، يقول الحق جلَّ وعلا: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28].. وقال حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَ: كان رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا حزَبَه أمْرٌ، فَزِعَ إلى الصَّلاةِ"..

 

ورابع الأسباب: اجْتِمَاعُ الكَلِمَةِ، وَالِالْتِفَافُ حَولَ العُلَمَاءِ، ولُزُومُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، والسمع والطاعة لإمامهم: قَالَ تَعَالَى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103]، وقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59]..

 

وخامس الأسباب: اعْتِزَالُ الفتن، والبعد عن أماكنها، فَلَا يحضرها المسلم ولا يقربها، ففي صحيح البخاري، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "سَتَكُونُ فِتَنٌ القاعِدُ فيها خَيْرٌ مِنَ القائِمِ، والقائِمُ فيها خَيْرٌ مِنَ الماشِي، والماشِي فيها خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي، ومَن يُشْرِفْ لها تَسْتَشْرِفْهُ، ومَن وجَدَ مَلْجَأً أوْ مَعاذًا فَلْيَعُذْ بهِ"..

 

فنسْأَلُ اللهَ بِمَنَّهِ وَكَرَمِهِ أَنْ يَحْفَظَ علينا دِينَنَا وَأَمْنَنَا، وأنْ يَحْفَظَ لِهَذِهِ البِلَادِ وَسَائِرِ بِلَادِ المُسْلِمِينَ أَمْنَهُمْ وَإِيْمَانَهُمْ، وَأَنْ يرد عنهم كَيْدَ الكَائِدِينَ، وأن يصرفَ عن بلادنا الغالية الفتن والشرور، ما ظهر منها وما بطن..

 

ويا ابن آدم عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، البر لا يبلى والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان..

 

اللهم صل على محمد...

________________________________________________________
الكاتب: الشيخ عبدالله محمد الطوالة