من فقه التمكين

منذ 2024-10-14

أجواءٌ تمرُّ على المسلمين اليومَ مُعْتِمَة، وأيامٌ من تاريخِ الأُمَّةِ حالِكة، وفَتْرَةٌ من الزمن قاتِمَة عَصِيبة، وغُرْبَةٌ لأهل الدين شديدة؛ لكنها في موازينِ الإيمانِ مُبَشِّرَةٌ مُطَمْئِنَة؛ فما من محنةٍ تمرُّ على المسلمين إلا ويَعْقُبُها مِنْحَة

أيها المؤمنون، النصرُ والتمكين، والعزةُ في الدين حقيقةٌ حتميةُ الوقوع، ووعدٌ إلهيٌّ أكيد، نصَّ على قُربِهِ العزيزُ الحميد.

 

النصرُ لعبادِ اللهِ المؤمنين قادمٌ لا محالة، والتمكينُ للإسلامِ حالٌّ في الأرضِ بعزِّ عزيزٍ أو بِذُلِّ ذليل، نَصْرٌ في الدنيا، وفوزٌ في الآخرة {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51].

 

أجواءٌ تمرُّ على المسلمين اليومَ مُعْتِمَة، وأيامٌ من تاريخِ الأُمَّةِ حالِكة، وفَتْرَةٌ من الزمن قاتِمَة عَصِيبة، وغُرْبَةٌ لأهل الدين شديدة؛ لكنها في موازينِ الإيمانِ مُبَشِّرَةٌ مُطَمْئِنَة؛ فما من محنةٍ تمرُّ على المسلمين إلا ويَعْقُبُها مِنْحَة، والعُسْرُ أبدًا يَعْقُبُه اليُسْر.

 

أَلَا إن في الأُفُقِ ومَيضَ نورٍ، وبشارةَ أملٍ، ونصرًا قريبًا، فالإسلامُ -وإن ضَعُفَ المسلمون في زمنٍ من الأزمان- له العلوُّ والسيادةُ والتمكين، فهو يعلو ولا يُعلى عليه.

 

عاش النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- فترةً من حياتِه والمسلمون معه في مكة ظروفَ المحنةِ والابتلاء حتى جاءَهُ اللهُ بالفتحِ والنصرِ المُبين، ومن تأمل التاريخ وجدَهُ بينَ زمنِ غلبةٍ وتمكينٍ للمسلمين، وزمنِ انحسارِ مدِّ الإسلامِ، وهيمنةِ غيرِ المسلمين.

 

وإذا كان المسلمون يلتزمون الإسلامَ في حال غَلَبتِه، فإن القلةَ منهم من يتمالكُ نفسَهُ، ويلتزمُ العقيدةَ والدين، ويصبرُ على اللَّأْواءِ والمحنِ في حالِ انحسارِه وغلبةِ أعدائه، حتى يجدَ المتمسكون أنفسَهُم غُرباءَ، ويصبحُ التمسكُ بالدين غريبًا، فطوبى للغرباء!

 

يصاب فِئَامٌ من الناس بالهلَعِ وفُقْدانِ الثقةِ بنصر الله للدين، ويصابُ آخرون بالإحباطِ واليأسِ والقُنوطِ من رحمةِ الله، والتسخطِ لأقدار الله، وغيرِ ذلك من الأدواءِ المنافيةِ لحقيقةِ التوحيدِ من الصبر واليقين، والتقوى والتوكلِ على رب العالمين.

 

عبادَ الله، النصرُ آتٍ لا محالة، لكنَّ له أسبابًا وسُننًا {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55].

 

يبدأُ النصرُ من تغيير الناسِ ما بأنفسِهم حتى يُغيرَ اللهُ -عز وجل- ما بأرضِهِم ويُمَكِّنَ لهم، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11].

 

عاش سلفُنا الصالح حياةً عزيزةً، مهيمنةً قويةً، متملكةً لزمامِ العالمِ أجمع، عاشوا حياةَ التمكين، تلك الحياة التي تُتبَع ولا تَتْبَع، وتقودُ ولا تُقاد، فلما غَيَّرَ الناسُ مِنْ بَعدِهِم ما بأنفُسِهِم غَيَّرَ اللهُ حالَهم فعاشُوا حياةَ الضعفِ والانحسار، وفُقْدَانِ الثقةِ الذاتية، وسَعَوا لتحقيقِ الذاتِ واستمدادِ العزةِ من المناهجِ والقِيَمِ الغربيةِ، زعموا!

 

ألا إنَّ حالَنا اليوم لن يتغير حتى نُغيرَ ما بأنفسنا، فَنُنَقِّي واقِعَنا من البدعِ والشركِ في شتى أنواعِهِ وصُورِهِ، ومن التبعيةِ الغربيةِ النابِعة من انحسارِ الإيمان، وفُقدانِ الثقةِ في مصدرِ عزنا.

 

نُغيرُ ما بأنفسنا بمحو آثارِ المعاصي والفجور التي لَبِسَت ثَوبَ المباح تارة، وثوبَ التقدمِ والرقيِّ تارةً أُخرى، وخلعت لباسَ التقوى والعزةِ والورعِ والكرامة.

 

لن يَتغيَّرَ حالُنا حتى نُفْرِدَ اللهَ بالحبِّ والخوفِ والإنابةِ، والتلقِّي والتَّوَجُّه، ونُجَرِّدَ الولاءَ له ولدينِه ولرسولِه وللمؤمنين.

 

ولن يتغير حالُنا حتى تمتلئ النفوسُ شعورًا باستعلاءِ الإيمان، وثقةً بهيمنةِ كتابنا القرآن، وأنه نَبْعُ العزِّ والتمكين.

 

وإذا لم يُغيرِ الناسُ ما بأنفسِهم فإن النصرَ قادمٌ بعد أن يستبدِلَهُمُ اللهُ بجيلٍ يُحبُّهُم ويحبونه، أذلة على المؤمنين، أعزة على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله، لا يخافون لومة لائم، يحققون أسبابَ النصرِ والتغيير فيشرِّفُهُمُ اللهُ بنصرِه المبين، ويدفعُ بهم فسادَ المفسدين، ويعذبُ بأيديهم قومًا كافرين، قال تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38]، وقال سبحانه: {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التوبة: 39].

 

"نعم، قد يتأخرُ النصرُ لحكمةٍ يريدُها اللهُ تعالى، ليعلمَ الصادقَ من الكاذب، وليميزَ الخبيثَ من الطيب، ولينكشفَ زيفُ الباطلِ للناس، ولِتتهيَّأَ البيئةُ لَقَبُولِ الحق والعدل، قد يتأخرُ النصرُ؛ لتزيدَ الأمةُ المؤمنةُ صِلَتَها بالله، وهي تعاني وتتألمُ وتَبْذل، ولا تجدُ لها سندًا إلا الله، ولا مُتوجَّهًا إلا إليه وحدَه، فتستقيمُ على النهجِ بعد النصرِ حين يأذن اللهُ به، فلا تطغى ولا تنحرفُ عن الحق والعدل والخير الذي نَصَرَها اللهُ به".

 

{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214].

 

أيها المؤمنون، التحاكُم إلى شرعِ الله، والاهتداءُ بوحيِه، ونبذُ كُلِّ ما يُخلُّ به ويخدِشُ كَمَالَه، ونصرةُ دينِ اللهِ، والقيامُ به قولًا وعملًا واعتقادًا ودعوةً، مع إقامةِ الصلاةِ وإيتاءِ الزكاةِ، والأمرِ بالمعروفِ والنهي عن المنكرِ، من أعظمِ أسبابِ النصر والتمكين، قال تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 40، 41].

 

ومن وسائلِ النصرِ وأسبابِه: الإخلاصُ لله تعالى، وابتغاءُ مرضاتِه، والصدقُ في طلبِ النصرِ والعزة: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 18].

 

ومن وسائل النصرِ وأسبابِه: التوكلُ على اللهِ، والالتجاءُ إليه، ولقد ضرب لنا المجاهدون في فلسطين أروع الأمثلة المعاصرة في التوكل عليه، والالتجاء إليه، واليقينِ بأنه وحدَهُ الناصرُ المعزُّ دونَ سواه.

 

وسيحفظ التاريخ عبارات التوحيد والتوكل على الله التي ردَّدَها الصغير والكبير منذ بداية جهادهم ضد اليهود المجرمين، تحت أصوات المدافع ومعاول البطش والتصفية، سَيُذْكَرُ ذلك كُلُّه في أسبابِ نصرِهم وعزِّهِمُ القريب، عجَّل اللهُ فَرَجَهُم، وكشفَ الغُمَّةَ عنهم.

 

والوقوفُ مع مصائبِ المسلمين ومناصرةُ المظلومين سببٌ من أسباب النصر والتمكين، وهو واجبٌ على كل مسلمٍ بما يستطيعُه وأعظمُه الدعاءُ لهم، في السر والعلن.

 

ومن أسباب النصرِ ومتطلباتِه: الصبرُ والاحتساب، وفي المسند أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يَا أَبَا جَنْدَلٍ، اصْبِرْ وَاحْتَسِبْ؛ فَإِنَّ اللَّهَ -عز وجل- جَاعِلٌ لَكَ وَلِمَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا".

 

وفي وصيةِ النبي -صلى الله عليه وسلم- لابن عمِّه عبدِالله بنِ عباس -رضي الله عنه-: "وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا، وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا".

 

والصبرُ وصيةُ ربِ العالمين للنبي الأمين: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [يونس: 109].

 

ما تقوم به دول النصارى الكافرة وعلى وجه الخصوص الدول المحتلة مثل بريطانيا وأمريكا وفرنسا، ليس بجديد فهي دول حاقدة على الإسلام والمسلمين، ودول احتلال، ودول ناهبة لخيرات العالم الإسلامي وثرواته، وما تقوم به أمريكا وسائر دول العدوان الصليبي هو امتداد للحروب والحملات الصليبية على العالم الإسلامي.

 

وها هم اليوم يضربون المسلمين في فلسطين واليمن كما ضربوا بالأمس أفغانستان والصومال والعراق وسوريا، فاللهم عليك بالنصارى والأمريكان وسائر دول الكفر.

 

اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وارْضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين، وعن سائرِ أصحابِ نبيك أجمعين، وعنا معهم بفضلك وإحسانك وجودك يا أرحمَ الراحمين.