لا تتسرع في الحكم على الناس
قال ابن الجوزي - رحمه الله -: ما اعتمد أحد أمرا إذا هم بشيء مثل التثبت، فإنه متى عمل بواقعة من غير تأمل للعواقب، كان الغالب عليه الندم
د. بدر عبد الحميد هميسه
المسلم مطالب بوجوب التثبت من الأخبار , وبخاصة الأخبار الكاذبة التي لا يعلم مصدرها , أو تكون من مصادر غير موثوقة , قال تعالى : {{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} } [(6) سورة الحجرات] .
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدقات بني المصطلق، وقد روي ذلك من طرق أحسنها ما رواه الإمام أحمد في مسنده من رواية ملك بني المصطلق، وهو الحارث بن ضرار والد جويرية بنت الحارث أم المؤمنين رضي الله عنها، قال الإمام أحمد حدثنا محمد بن سابق حدثنا عيسى بن دينار حدثني أبي أنه سمع الحارث بن ضرار الخزاعي رضي الله عنه قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاني إلى الإسلام فدخلت فيه وأقررت به، ودعاني إلى الزكاة فأقررت بها، وقلت: يا رسول الله أرجع إليهم فأدعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة، فمن استجاب لي جمعت زكاته وترسل إلي يا رسول الله رسولا إبان كذا وكذا ليأتيك بما جمعت من الزكاة، فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له وبلغ الإبان الذي أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه احتبس عليه رسول الله ولم يأته، وظن الحارث أنه قد حدث فيه سخطة من الله تعالى ورسوله فدعا بسروات قومه فقال لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان وقَّت لي وقتا يرسل إلي رسوله ليقبض ما ك ان عندي من الزكاة وليس من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الخلف، ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطة، فانطلقوا بنا نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة، فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق فرق أي خاف، فرجع حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن الحارث قد منعني الزكاة وأراد قتلي، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم البعث إلى الحارث رضي الله عنه، وأقبل الحارث بأصحابه حتى إذا استقبل البعث وفصل عن المدينة لقيهم الحارث فقالوا: هذا الحارث: فلما غشيهم قال لهم: إلى من بعثتم؟ قالوا: إليك، قال: ولم؟ قالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليك الوليد بن عقبة فزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله، قال رضي الله عنه: لا والذي بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق ما رأيته بتة ولا أتاني، فلما دخل الحارث على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: منعت الزكاة وأردت قتل رسولي؟ قال: لا والذي بعثك بالحق ما رأيته ولا أتاني، وما أقبلت إلا حين احتبس علي رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم خشيت أن يك ون كانت سخطة من الله تعالى ورسوله، قال: فنزلت الحجرات: يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ... إلى قوله حكيم، ورواه ابن أبي حاتم عن المنذر بن شاذان التمار عن محمد بن سابق به، ورواه الطبراني من حديث محمد بن سابق به، غير أنه سماه الحارث بن سرار والصواب أنه الحارث بن ضرار. تفسير ابن كثير 7/370 , أسباب النزول , للواحدي 379 , لباب النقول في أسباب النزول , للسيوطي 180.
قال الإمام الحسن البصري - رحمه الله -: المؤمن وقاف حتى يتبين.
وقال ابن الجوزي - رحمه الله -: ما اعتمد أحد أمرا إذا هم بشيء مثل التثبت، فإنه متى عمل بواقعة من غير تأمل للعواقب، كان الغالب عليه الندم، ولهذا أمر الإنسان بالمشاورة، لأن الإنسان بالتثبت يطول تفكيره، فتعرض على نفسه الأحوال، وكأنه شاور، وقد قيل: خمير الرأي خير من فطيره. وأشد الناس تفريطا من عمل مبادرة في واقعة من غير تثبت ولا استشارة، خصوصا فيما يوجب الغضب، فإنه ينـزقه طلب الهلاك واستتبع الندم العَظِيمٌ، فالله الله، التثبت، التثبت في كل الأمور، والنظر في عواقبها. انظر: صيد الخاطر ص 374.
فالمسلم لا يتسرع في الحكم على الناس ولا يجعل من المظاهر سنداً للحكم عليهم أو تصنيفهم , فعن سهل بن سعد الساعدي , قَالَ: «مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم رجل. فَقَالَ النبي : مَا تَقُولُونَ في هَذَا ؟ قَالُوا : رأيك في هذا.نقول : هذا من أشرف الناس , هذا حَرِيٌّ , إِنْ خَطَبَ , أَنْ يخطب ، وَإِنْ شَفَعَ , أَنْ يُشَفَّعَ ، وَإِنْ قَالَ : أَنْ يُسْمَعَ لقوله , فسَكَتَ النبي صلى الله عليه وسلم , وَمَرَّ رَجُلٌ آخر , فقال النبي صلى الله عليه وسلم : مَا تَقُولُونَ في هَذَا ؟ قَالُوا : نقول : والله يا رسول الله , هذا من فقراء المسلمين , هذا حَرِيٌّ , إِنْ خَطَبَ , لمَ يُنْكَحَ , وَإِنْ شَفَعَ , لاَ يُشَفَّعَ ، وَإِنْ قَالَ , أَنْ لاَ يُسْمَعَ لقوله , فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم : لهَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِثْلَ هَذَا» .أخرجه البخاري 7/9(5091) و\"ابن ماجة\" 4120 .
قال الشاعر :
لا يغرنك من المرء قميص رقعه * * * أو إزارا فوق كعب الساق منه رفعه
أو جبين لاح فيه أثر قد قلعه * * * ولدى الدرهم فانظر غيه أو ورعه
وقال آخر :
لا تحمدن أحداً حتى تجربه***ولا تذمنه من غير تجريب
فحمدك المرء ما لم تبله خطأ***وذمك المرء بعد الحمد تكذيب
ولذا حينما جاء رجل يشهد لرجل بالصلاح عند أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه فقال له: أأنت جاره الأدنى الذي يعرف مدخله ومخرجه؟ قال: لا، قال: أسافرت معه في سفر طويل يسفر عن أخلاق الرجال؟، قال: لا، قال: أعاملته بالدينار وبالدرهم ـ الذي به يظهر ورع المرء من شرهه ـ؟ قال: لا، قال: لعلك رأيته في المسجد يمسك بالمصحف، يقرأ القرآن، يرفع رأسه تارة ويخفضها تارة؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: اذهب فلست تعرفه، وقال للرجل: ائتني بمن يعرفه.إحياء علوم الدين 2/83.
ومما يحكى أن رجلاً عجوزاً كان جالسا مع ابن له يبلغ من العمر خمسة وعشرون عاماً في القطار. وبدا الكثير من البهجة والفضول على وجه الشاب الذي كان يجلس بجانب النافذة.
اخرج يديه من النافذة وشعر بمرور الهواء وصرخ \"أبي انظر جميع الأشجار تسير ورائنا\"!! فتبسم الرجل العجوز متماشياً مع فرحة ابنه.
وكان يجلس بجانبهم زوجان ويستمعان إلى ما يدور من حديث بين الأب وابنه. وشعروا بقليل من الإحراج فكيف يتصرف شاب في عمر الخمسة والعشرين عاماً كالطفل!!.
فجأة صرخ الشاب مرة أخرى: \"أبي، انظر إلى الِبركة وما فيها من حيوانات، انظر يا أبي ..الغيوم تسير مع القطار\". واستمر تعجب الزوجين من حديث الشاب مرة أخرى.
ثم بدأ هطول الأمطار، وقطرات الماء تتساقط على يد الشاب، الذي امتلأ وجهه بالسعادة وصرخ مرة أخرى \"أبي إنها تمطر ، والماء لمس يدي، انظر يا أبي\".
وفي هذه اللحظة لم يستطع الزوجان السكوت وسألوا الرجل العجوز\" لماذا لا تقوم بزيارة الطبيب والحصول على علاج لابنك؟\".
هنا قال الرجل العجوز:\" إننا قادمون من المستشفى حيث أن ابني قد أصبح بصيراً لأول مرة في حياته \".
أرأيت كيف تسرع هذان الزوجان في الحكم على هذا الشاب قبل معرفة الحقيقة , وقبل انتظار النتيجة .
إن بعض الناس قد لا ينتبه إلى تسرعه في الحكم على الناس .. هذا التسرع الذي قد يُعد من سوء الظن المنهي عنه .
فحقق قبل أن تحكم , ودقق قبل أن تصنف .. وتثبت قبل أن تنشر .
- التصنيف:
- المصدر: