مَتاهة النَّباهة

منذ يوم

ولقد جاء ذكر الكِبر في القرآن في موضعين كلاهما شاهدان بأن الكبر حجاب قلبي يقلِّص الرؤية، فذكر تعالى حال المجادلين في الحق بغير بيَّنة، وذكر أن الباعث لهم على ذلك الكبر الذي في صدورهم..."

أكثر ما يؤتى المتميزون ذهنيًّا -في أي مجال- من ظنِّهم دومًا أنهم أكبر من الجوادّ المسلوكة والطرق المعبَّدة والمسالك المشهورة، فيقفزونها قفزًا لما يظنُّونَه أليقَ بقدراتهم وأجدرَ بِطاقاتِهم وأخلقَ بمهاراتهم، فتفوتهم بهذا الظن مكاسبُ جمّة، ولو أنهم سلكوا الطرق المعبدة المذلَّلَة ثم جعلوا امتيازهم على غيرهم من جهة الضبطِ والإتقان والتحرير والتدقيق والتعمق والتجاوز لأدركوا فضلا عظيما!

وليس هذا هو المزْلَق الوحيد الذي يتهدَّد أصحاب المواهب، ومن ثَمَّ يحول بينهم وبين الاستفادة من الهِباتِ الإلهيَّة، فمن الظواهر المتكررة أن كثيرًا من ذوي النباهة العلمية ينطفؤون سريعًا، يلمع نجمهم في الفضاء القريب ثم يضمحلّ، توهجٌ عابرٌ كالشهاب المضيء بين ركام السحاب ثم ينطفئ، لموعٌ مؤقت وطاقاتٌ مبدَّدة ومواهبُ حقيقيةٌ في مَهَبِّ الرِّيح، لم تقتلعها عاصفة خارجية مباغتة، بل منذ توهجها وهي تحمل بيديها بذور فنائِها، ومن حين تفتُّحِها وهي موشكة على التساقط كما تسَّاقط الأوراق في الخريف.

تنهش المراقبَ كلاليبُ الأسى حينما تتداعى في ذهنه شتلات علمية صغيرة كان يُرجى لها أن تكون يومًا مًا حدائقَ ذات بهجة لكنها لم تلقَ حظَّها من الرعاية النفسية والاتزان الشعوري والتزكية الإيمانيَّة ففتكت بها العواصف الهوجاء، نماذج كثيرة تتوارد على الذهن كلما لاحَ الحديث عن المواهب والعبقريات والطاقات، ومع كثرة النماذج وتراكمها غدت الموهبة في عين المراقب تبعث على الريبة أكثر مما تنثره من البهجة، وعلى التوجس فوق ما تبثُّه من الاغتباط!

يأخذ بِلُبِّي ما ذكره الإمام ابن القيم من أن (من علامات السعادة والفلاح: أن العبد كلما زِيدَ في علمه زيد في تواضعه ورحمته، وعلاماتُ الشقاوة: أنه كلما زيد في علمه زيد في كِبْره وتِيْهِه)، وهذه العبارة لفتةٌ نُورانيّة وإشارةٌ دقيقة، وهي تفسِّر شيئًا كبيرًا من أسباب انطفاءِ الشموع، واندثارِ المواهب، وتبدّدِ الطاقات.

تحليل مادة الكِبر:

كثيرًا ما يُعرَض الجانب القلبي باعتباره جانبًا متاخِمًا للعلم وموازيًا للمعرفة، لكن لا أثرَ له على حركة العلوم، ولا تأثير له على انتحال الآراء واعتناق المعتقدات، والحقيقة أن الكبرَ حالٌ علميَّة لا مجرَّدَ شعور قلبي، وأن التواضعَ من أعظمِ أدوات الفَهم وملَكاتِ التحصيل، وهذا معنى صحيح يمكن إدراكه بشيء يسيرٍ من التأمل، فمن أظهرِ علامات الكبر في العلوم كثرة الدعاوى بلا موجِب، وردُّ الحقّ بلا بينة، والأنفة عن الرجوع، وغمط ما لدى الناس من حججٍ واستدلالات، وهذه مواقف نفسية تُبنى فوقها شواهقُ من الأفكار والآراء والمعتقدات، ولذلك ما أعمقَ كلام السَّلف حينما قالوا: (لا يتعلم العلم مستحٍ ولا مستكبر)، (ذكره البخاري في صحيحهِ عن مجاهد) .

ولقد جاء ذكر الكِبر في القرآن في موضعين كلاهما شاهدان بأن الكبر حجاب قلبي يقلِّص الرؤية، فذكر تعالى حال المجادلين في الحق بغير بيَّنة، وذكر أن الباعث لهم على ذلك الكبر الذي في صدورهم، فقال تعالى: {إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه}، وقال تعالى: {سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق}، قال سفيان بن عيينة: (أنزع عنهم فهم القرآن).

فالتواضع ليس مجرَّدَ شعور قلبي، وإنما هو حالٌ من أحوال تحصيلِ العلم وحسنِ فهمِه وطرقِ تلقِّيه، والكبر ليس مجرّد شعور قلبي وإنما هو حال من أحوال انطماس البصيرة، وتقلُّص الرؤية، وانسداد الأفق.

ولا مِراء في أنَّ كثيرًا من السلوكيَّات المتشابهة تتلوَّن أغراضها وتتنوع بواعثها من حبِّ الثناء، والولع بالسبق، وشهوة العلو في الأرض، ولكن الكِبر آفة كبيرة يبتلى بها كثيرٌ من المنتسبين للعلم كما يقول ابن تيمية: (كثير من المنتسبين إلى العلم يبتلى بالكبر كما يبتلى كثير من أهل العبادة بالشرك، ولهذا فإن آفة العلم الكبر، وآفة العبادة الرياء، وهؤلاء يحرمون حقيقة العلم)، فحقيقة العلم تجريد القلب لقبول الهدى بدليله، وهذه حالٌ علميَّة تناقض مادَّة الكبر.
 

صيانة الأولياء:

ولعظيمِ هذا الشأن فإن الله تعالى كثيرًا ما يؤدّب أولياءَه البرَرَة ويسددهم للأحسن من الأخلاق وللأتمّ من الأقوال، ويوفقهم إلى تركِ العبارات التي توهِم معاني بعيدة، هذا مع سلامتهم من هذه الأدواء، فقد بوَّب البخاري في صحيحه: (باب: ما يستحب للعالم إذا سئل: أي الناس أعلم؟ فيكل العلم إلى الله)، وذكر فيه حديث موسى حينما قام خطيبًا في بني إسرائيل فسئل: أي الناس أعلم؟ فقال: أنا أعلم، فعتب الله عليه، إذ لم يردَّ العلم إليه، فأوحى الله إليه أن عبدًا من عبادي بمجمع البحرين، هو أعلم منك.. الحديث.

وكان أحد أوعية الحفظ من السلف الأوائل جالسًا، فقال: ما نسيت شيئًا حفظتُه! ثم قال: يا غلام ناولني نعلي. فقال الغلام: نعلك في رجلك. قال الذهبي: هذه الحكاية عبرة، فإن الدعاوى لا تثمر خيرًا!

ومع تراخي الزمان، وإخلاد الإنسان إلى الأوهام، وكثرة مجالسته للأقران، وتراجع الطرح الأخلاقي، وتهميش التزكية الإيمانية، فإنه تتسرب إلى كثيرٍ من النابهين بعض الأدواء التي تفتك بهم في أول حياتهم العلمية، فما أكثر ما تطرق مسامعك الدعاوى العريضة والإطلاقات الفجَّة التي يتهيب من إطلاقها الأكابر، وهذا بخلافِ أحوال نوابغ السلف والخلف ممن لامَسوا سقفَ العبقرية بأطرافِ أناملهم، فقد كان ذكاؤهم مقترنًا بالزكاء، ومعارفهم سالمة من هذه الأدواء، ونفوسهم في غاية الاتزان، ولذلك أمست معارفهم أكثر حياةً وأعظم نفعًا من معارف الأحياء.

العبقرية الهادئة:

ولأني أحب أن أسوق النماذج والأمثلة العملية وتضمينها في شرح الأفكار النظرية، فإنه يطيب لي أن أبعث الذكرى العذبة للنابغة اليماني عبد الرحمن المعلِّمي -رحمه الله-، فهذا العالم الفذّ مثالٌ للتبحر العلمي مع السَّواء النفسي، فرغم كونه في علوم السنة النبوية متوخيًا لطريقة الأوائِل، متتبعًا لآثار أقدامهم، بارعًا في استقراءِ تصرفاتهم، لا يكادُ يُشَق له غبارٌ في هذا المِضمار، حتى قال عنه الشيخ بكر أبو زيد -رحمه الله-: (تحقيقات هذا الحبر نقشٌ في حجر، ينافس الكبار كالحافظ ابن حجر)، ورغم ذلك التوخي والتتبع النادر لم يكن المعلّمي يتباهى مطلقًا بما وصل إليه من فتوحات علميَّة، أو يثير زوابعَ حول نتائجه الكثيرة التي لم يُسبق إليها، وإنما كان يأتي بالنتائج العلمية الباهِرة، ثم يقدِّمها مع أدلَّتها تقديمًا علميًّا هادئًا بنفسٍ مطمئنَّة، وهذا بخلاف من يزفُّ نتائِجَه العلميَّة -أو حتى أوهامَه- كما تُزفُّ العروسُ مصحوبةً بقرْعِ الطُّبول ونَقْرِ الدُّفوف.

تقرأ للمعلّمي على سبيل المثال تفصيلَ مراتبَ توثيق ابن حبان، وتتوهَّم لفرطِ هدوئِه وعظيمِ اتِّزانه أنك حيالَ تفصيلٍ عابرٍ نَقَلَه الشيخ نقلًا من فتحِ المغيث أو من تدريبِ الرَّاوي، فإذا بها مِن فتوحاته العلمية الكثيرة التي وَرِثها عن استقراءٍ واسعٍ وفحصٍ دقيق، ولذلك تجد الشيخ الألباني -رحمه الله- يكتب في الهامش: (هذا تفصيل دقيق، يدلُّ على معرفة المؤلف -رحمه الله تعالى- وتمكنه من علم الجرح والتعديل، وهو مما لم أره لغيره فجزاه الله خيرا..)، وهي شهادة لها قيمة معرفية عالية لكونها صادِرةً من عالمٍ ضليعٍ في الفن.

ورغم كون الشيخ من أعلام المجدِّدين في علم الحديث لدى المتأخرين، فإنه لم يفعل ما يفعله بعضهم من إلقاءِ الناس يمينًا وشمالا، ومقسِّمًا لهم ما بين متشدَّدٍ ومتساهل، ومشعرًا أن أطروحتَه العلميَّة خطّ استواء، وإنما كان يُلقي أطروحته العلميَّة بكل اتِّزان ثم ينصِب لها الدلائل بعيدًا عن الحشو والتهويل والإنشاء، وانظر احتشامَه في لُغَته في أثناء الكلام عن تساهل المتأخرين في التصحيح والتضعيف، وتحاشيه من لمزِ الآخرين الذي يخالفهم: (إنني عندما أَقْرِنُ نظري بنَظَر المتأخرين، أجدني أرى كثيرًا منهم متساهلين، وقد يدلُّ ذلك على أن عندي تشددًا، قد لا أُوافقُ عليه، غير أني مع هذا كله رأيتُ أن أبديَ ما ظهر لي، ناصحًا لمن وقف عليه من أهل العلم، أن يحقق النظر)، وهذه العبارات دروس تحتذى في التواضعِ المقترنِ بالإبانةِ التامة عن المقصود.

ولم يقف إبداع الشيخ على المسائل الحديثيَّة أو التاريخيَّة، بل صحبتْه عادتُه في شتى العلوم والمعارف التي تكلم فيها، فطبعُ النفوس غلَّاب، ومن ألِفَ التحقيقَ العلمي فسيكون سجيَّةً له، وسيلازمه التحقيق حتى وهو يتابع شريط الأخبار أو يقلِّب أوراق الفواتير.

فعلى سبيلِ المثال للشيخ رسالة صغيرة بعنوان: (طرائف في العربية) أثار فيها مسائل نحوية وصرفِيَّة متنوِّعة، وصَرّح في مقدِّمتها أنه سيذكر فيها آراء جديدة لم يُسبَق إليها، فالشيخ جريءٌ في أدب، عبقريٌّ في تواضع، مبتكرٌ في اتِّزان، بخلافِ من يتوهَّم أن النَّزَق من لوازمِ العبقرية، وأن العَجْرَفةَ من قرائنِ الدهاء.

وانظر كيف يتلطَّف الشيخ في صدرِ هذه الرّسالة، متحاشِيًا عباراتِ التباهي وأساليبَ الانتفاخ الصريحة والمؤولة التي يولع بها بعضهم، فيقول ما يلي: (ما مِن مُعْتَنٍ بفنٍّ من الفنون إلا وتلوح له فيه نِكاتٌ لا يجد من تَقَدَّمَهُ نَصَّ عليها، فمِنْ محسنٍ ظَنَّه بنفسه يَتَبجَّح لما لاح له ويتعصَّب، ومن مُسِيءٍ يكون حَالُه كحال ذاك الأعمى الذي أَبْرَمَتْهُ امرأتُه بإطراء نفسها بالجمال، فقال لها: لو كنتِ كما تقولين لسَبَقَني البُصراءُ إليك، هذه نكات طريفة في العربية لم أجد من نص عليها، ولم أرض لنفسي أن أقبلها متبجِّحًا، ولا أن أَردَّها حاذٍ حذْوَ ذاك الأعمى الذي تزوج امرأة فكانت مما تطري نفسها بالجمال فلمَّا عيل صبره قال لها: لو كنت كما تقولين لما تركك المبصرون لهذا الأعمى! لكنِّي أعرضها على أهل العلم، فإما أن يتقبلوها فأطمئن إليها، وإما أن ينبهوني على وجه الخطأ إن كان)، ويُلاحظ في هذه المقدمة الاتزان الشعوري العميق، فلم يتبجَّح بسبقِه المعرفي، كما لم يمنعه تواضعه الفطري من الإدلاء بدلوِه!

ولم يكن هذا الصنيع من الشيخ مجردَ تطبيقٍ عابرٍ، بل كان مستقرَّا في نفسه نظريًّا، ولذلك فإنه يقول في موضع من كتبِه: (الباحث المتزن الواثق بحجته هو الذي يترك الإعلان عن نفسه وعن كتابه إلى الأدلة نفسها، ويدع للناس الحرية التامة في موافقته أو مخالفَته)، وحينما أطرى أبو ريَّة كتابَه الذي أودعَه مقترفاتِه الفكريَّة، علَّق الشيخ: (وأنا لا أثني على كتابي، ولا أبرِّئ نفسي، بل أكِلُ الأمر إلى الله، فهو حسبي ونعم الوكيل)، هذا وأبو ريَّة أبو ريَّة!

وإياك أن تتوهَّم أن العباراتِ العابرة ليس لها امتدادٌ نفسي أو أثرٌ معرفي، فإن موسى عليه السلام وهو المختص بالتكليم والمصطفى بالرسالة، وإنما أجاب عما يعلمه من كونه أعلمَ أهل الأرض، ومع ذلك عتِبَ عليه ربُّه إذْ لم يردَّ العلم إليه، وأرشدَه إلى الحال الأكمل، وأكثر الضلالات العلميَّة إذا فتشتها وجدتَّ خلفَها: {إنما أوتيته على علمٍ عندي}، و(أنا خيرٌ منه)، سواءً بلسان الحالِ أو المقال، فهذه متاهةٌ من متاهاتِ ذوي النَّباهة!

_________________________________

بقلم: د. سليمان بن ناصر العبودي