الافتقار للهدى

منذ 15 ساعة

معشر الفقراء إلى الله تعالى، إن الافتقار للهدى هو أعظم الافتقار؛ لذلك ندعو الله تعالى في كل صلاة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}

لحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، لا عزَّ إلا في طاعته، ولا سعادة إلا في رضاه، ولا نعيم إلا في ذِكره، الذي إذا أُطيع شكر، وإذا عُصيَ تاب وغفر، والذي إذا دُعي أجاب، وإذا استُعيذ به أعاذ، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا.

 

أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله؛ واعلموا أن الله تعالى يقول:  {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15].

 

يا معشر الفقراء إلى الله تعالى، اعلموا أن أعظم الافتقار هو الافتقار للهدى إرشادًا وتوفيقًا وتثبيتًا، ومن رحمة الله تعالى ولُطفه أن شرع لنا اللَّهَجَ بها سبع عشرة مرة في كل يوم وليلة على أقل تقدير، فكل مصلٍّ يتلو قول ربه داعيًا راغبًا راهبًا:  {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6]، وكان رسول الهدى صلوات الله وسلامه وبركاته عليه كثير اللهج بسؤال الله الهدايةَ؛ فكان من دعائه بين السجدتين: «اللهم اغفر لي، وارحمني، واهدِني، وعافِني، وارزقني»[1].

 

وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه: «ربِّ أعنِّي، ولا تعِن عليَّ، وانصرني ولا تنصر عليَّ، وامكر لي ولا تمكر عليَّ، واهدِني ويسر الهدى لي، وانصرني على من بغى عليَّ، رب اجعلني لك شاكرًا، لك ذاكرًا، لك راهبًا، لك مطواعًا، لك مخبتًا، إليك أوَّاهًا منيبًا، ربِّ تقبل توبتي، واغسل حوبتي، وأجِب دعوتي، وثبِّت حجتي، وسدِّد لساني، واهدِ قلبي، واسلُل سخيمة صدري»[2]، وكان شيخ الإسلام يوصي باللهج بهذا الدعاء العظيم.

 

وروى مسلم عن أبي سلمة بن عبدالرحمن قال: سألت عائشة: بأي شيء كان النبي صلى الله عليه سلم يفتتح صلاته؟ قالت: كان إذا قام من الليل افتتح صلاته قال: «اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اللهم اهدِني لِما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم»[3].

 

وكان صلى الله عليه وسلم يهدي أصحابه ويرشدهم إليها؛ لطلبها ممن لا يهدي هدى التوفيق سواه؛ فمن ذلك:

ما رواه ابن أبي أوفى رضي الله عنه قال: ((جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني لا أستطيع أن آخُذ من القرآن شيئًا، فعلِّمني ما يُجزئني، قال: قُل: «سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله»، قال: يا رسول الله، هذا لله، فماذا لي؟ قال: «قُل: اللهم ارحمني وعافِني، واهدِني وارزقني» ، فقال: هكذا بيديه - وقبضهما - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:  «أمَّا هذا، فقد ملأ يديه من الخير»[4].

 

وعن عليٍّ رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قُل: اللهم اهدِني، وسدِّدني»، وفي رواية: «اللهم إني أسألك الهُدى والسَّداد»، واذكر بالهدى هدايتك الطريق، وبالسداد سداد السهم[5].

 

وروى أبو داود في سننه قول الحسن بن علي رضي الله عنهما: علَّمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلماتٍ، أقولهن في الوتر قال: «اللهم اهدِني فيمن هديتَ...»[6].

 

عباد الرحمن: إن الهدى من جملة رزق الله تعالى لخاصته وأوليائه؛ كما قال جل وعز:  {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء: 175]، وقال سبحانه:  {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 16]، والمؤمن يلهج بسؤال الله تعالى الهدى في كل ركعة:  {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6]؛ أي: أرشدنا إليه أولًا وبصِّرنا به، وفقِّهنا فيه، ثم وفِّقنا لسلوكه والسير فيه دون سواه ثانيًا، ثم ثبِّتنا عليه حتى الموافاة ثالثًا.

 

والذكاء ليس بمستقل للهدى، فهو سببٌ محتاج لجملة أسباب، وحجب موانع، وجامعُ ذلك توفيق الله لمن شاء هداه، وقد يكون الرجل من أذكياء الناس وأحدِّهم نظرًا، ويُعميه عن أظهر الأشياء، وقد يكون من أبلد الناس وأضعفهم نظرًا، ويهديه لِما اختلف فيه من الحق بإذنه، فلا حول ولا قوة إلا به.

 

فمن اتكل على نظره واستدلاله أو عقله ومعرفته، خُذل؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة كثيرًا ما يقول: «يا مُقلِّب القلوب، ثبَّت قلبي على دينك»[7]، ويقول في يمينه: «لا ومقلب القلوب»[8]، ويقول: «والذي نفسي بيده»[9]، ويقول: «ما من قلبٍ من قلوب العباد إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن، وإن شاء أن يُقيمه أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه»[10].

 

وكان يقول هو وأصحابه في ارتجازهم:

اللهم لولا أنت ما اهتدينا   **   ولا تصدقنا ولا صلينـــا 

فأنزلَنْ سَكينة علينــــــــا   **   وثبت الأقدام إن لاقينا 

 

وهذا في العلم كالإرادات في الأعمال، فإن العبد مفتقر إلى الله في أن يُحبِّب إليه الإيمان، ويُبغض إليه الكفر، وإلا فقد يعلم الحق وهو لا يحبه ولا يريده، فيكون من المعاندين الجاحدين؛ قال تعالى:  {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14][11].

فيا معشر الفقراء إلى الله تعالى، إن الافتقار للهدى هو أعظم الافتقار؛ لذلك ندعو الله تعالى في كل صلاة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6]؛ قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: "والمسلمون قد تنازعوا فيما شاء الله من الأمور الخبرية والعلمية، الاعتقادية والعملية، مع أنهم كلهم متفقون على أن محمدًا حقٌّ، والقرآنَ حقٌّ، فلو حصل لكل منهم الهدى إلى الصراط المستقيم فيما اختلفوا فيه لم يختلفوا، ثم الذين علموا ما أمر الله به أكثرُهم يعصُونه ولا يحتذون حذوه، فلو هُدوا إلى الصراط المستقيم في تلك الأعمال، لَفعلوا ما أُمروا به، وتركوا ما نُهوا عنه، والذين هداهم الله من هذه الأمة حتى صاروا من أولياء الله المتقين، كان من أعظم أسباب ذلك دعاؤهم الله بهذا الدعاء في كل صلاة، مع علمهم بحاجتهم وفاقتهم إلى الله دائمًا في أن يهديهم الصراط المستقيم، فبدوام هذا الدعاء والافتقار، صاروا من أولياء الله المتقين؛ قال سهل بن عبدالله التستري: ليس بين العبد وبين ربه طريق أقرب إليه من الافتقار.

 

وما حصل فيه الهدى في الماضي، فهو محتاج إلى حصول الهدى فيه في المستقبل، فإن العمل في المستقبل بالعلم لم يحصل بعدُ، ولا يكون مهتديًا حتى يعمل في المستقبل بالعلم، وقد لا يحصل العلم في المستقبل، بل يزول عن القلب، وإن حصل فقد لا يحصل العمل.

 

فالناس كلهم مضطرون إلى هذا الدعاء؛ ولهذا فرضه الله عليهم في كل صلاة، فليسوا إلى شيء من الدعاء أحوجَ منهم إليه، وإذا حصل الهدى إلى الصراط المستقيم، حصل النصر والرزق وسائر ما تطلب النفوس من السعادة"[12].

 

وتأمل قصة موسى عليه السلام مع الخَضِر، وما فيها من أبواب العلوم، ومن أخصها افتقار العالم - مهما علا شأنه وارتفع كعبه - إلى علم الله وتوفيقه وتسديده.

 

وقد بوَّب البخاري رحمه الله في صحيحه[13]: باب ما يُستحب للعالم إذا سُئل: أي الناس أعلم؟ فيَكِل العلم إلى الله. وأسند حديث أُبي بن كعب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قام موسى النبي خطيبًا في بني إسرائيل، فسُئل: أي الناس أعلم؟ فقال: أنا أعلم، فعتب الله عليه إذ لم يرُدَّ العلم إليه، فأوحى الله إليه: أن عبدًا من عبادي بمجمع البحرين هو أعلم منك، قال: يا رب وكيف به؟ فقيل له: احمل حوتًا في مِكْتَل، فإذا فقدته فهو ثَمَّ[14]، فانطلق، وانطلق بفتاه يوشع بن نون، وحَمَلا حوتًا في مكتل، حتى كانا عند الصخرة، وضعا رؤوسهما وناما، فانسل الحوت من المكتل فاتخذ سبيله في البحر سربًا، وكان لموسى وفتاه عجبًا، فانطلقا بقية ليلتهما ويومهما، فلما أصبح، قال موسى لفتاه: آتِنا غداءنا، لقد لقِينا من سفرنا هذا نَصَبًا، ولم يجد موسى مسًّا من النصَب، حتى جاوز المكان الذي أُمر به، فقال له فتاه: أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت، قال موسى: ذلك ما كنا نبغي، فارتدا على آثارهما قصصًا، فلما انتهيا إلى الصخرة، إذا رجل مسجًّى بثوب - أو قال: تسجى بثوبه - فسلَّم موسى، فقال الخضر: وأنى بأرضك السلام؟![15] فقال: أنا موسى، فقال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، قال: هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدًا؟ قال: إنك لن تستطيع معي صبرًا، يا موسى إني على علمٍ من علم الله علَّمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علمٍ علَّمكه لا أعلمه، قال: ستجدني إن شاء الله صابرًا، ولا أعصي لك أمرًا» .

 

«فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، ليس لهما سفينة فمرَّت بهما سفينة، فكلموهم أن يحملوهما، فعرَف الخَضِر، فحملوهما بغير نَولٍ[16]، فجاء عصفور فوقع على حرف السفينة، فنقر نقرة أو نقرتين في البحر، فقال الخضر: يا موسى، ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كنقرة هذا العصفور في البحر، فعمد الخضر إلى لوح من ألواح السفينة فنزعه، فقال موسى: قوم حملونا بغير نول، عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها؟! قال: ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرًا؟ قال: لا تؤاخذني بما نسيت، فكانت الأولى من موسى نسيانًا» .

 

«فانطلقا، فإذا غلام يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر برأسه من أعلاه فاقتلع رأسه بيده، فقال موسى: أقتلت نفسًا زكيةً بغير نفس؟! قال: ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرًا» ؟!

 

«فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها، فأبوا أن يضيفوهما، فوجدا فيها جدارًا يريد أن ينقض فأقامه، قال الخضر بيده فأقامه، فقال له موسى: لو شئت لاتخذت عليه أجرًا، قال: هذا فراق بيني وبينك».

 

قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يرحم الله موسى، لوددنا لو صبر حتى يقص علينا من أمرهما»[17].

 

ومن لم يكن له من ربه عاصمُ توفيق، وحارس هدًى، هجمت عليه عاديات الضلال ولا بدَّ، واعتبر ذلك بفحول الأذكياء وأكابر أهل العلوم، لما رفع الله عنهم توفيقه، طاشت بهم الأحلامُ، وضاعت بهم الفهوم؛  {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأحقاف: 26]، وكما قال الأول:

إذا لم يكن عون من الله للفتى  **  فأول ما يجني عليه اجتهاده 

اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد، وآله وصحبه، ومن تبعه بإحسان.

 


[1] أبو داود (850)، والترمذي (284)، وابن ماجه (898)، والحاكم (1/ 262/ 271)، والحديث صحيح.

[2] أبو داود (1510)، والترمذي (3551)، وأحمد (1/ 227) (1997)، وابن ماجه (3830)، والحديث صحيح.

[3] مسلم (770).

[4] أخرجه أبو داود (832) وسكت عنه، وما سكت عنه فهو صالح عنده، وحسنه الألباني، وأخرجه أحمد (4/ 382)، والحميدي (717)، والنسائي (2/ 143).

[5] مسلم (8/ 83) (2725) (78)؛ قال النووي رحمه الله: "سدِّدني: وفِّقني واجعلني منتصبًا في جميع أموري مستقيمًا"؛ [شرح صحيح مسلم (9/ 38)].

[6] سنن أبي داود (1/ 536)، وصححه الألباني.

[7] الترمذي (3/ 304).

[8] البخاري (8/ 128).

[9] وهي كثيرة، ومنها ما جاء عند مسلم (222).

[10] المسند (4/ 182)، وسنن النسائي الكبرى (7738)، وسنن ابن ماجه (199)، ورواه ابن منده في الرد على الجهمية (87) وقال: "ثابت؛ رواه الأئمة المشاهير ممن لا يمكن الطعن على واحد منهم".

[11] درء تعارض العقل والنقل: (9/ 34، 35).

[12] مجموع الفتاوى (10/ 107 - 110)، وانظره في: أمراض القلوب (1/ 12) وما بعدها.

[13] ومن افتقار أبي عبدالله البخاري رحمه الله ما نقله الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح (ص:7) عن الحافظ أبي ذر الهروي: "سمعت أبا الهيثم محمد بن مكي الكشميهني يقول: سمعت محمد بن يوسف الفربري يقول: قال البخاري: ما كتبت في كتاب (الصحيح) حديثًا إلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين"؛ استعانة واستهداءً وافتقارًا.

[14] أي: هناك.

[15] تعجبًا من وجود من يسلِّم عليه في ذلك المكان.

[16] أي: بلا أجرة.

[17] أخرجه البخاري في كتاب العلم: باب ما يُستحب للعالم إذا سُئل: أي الناس أعلم؟ فيكِل العلم إلى الله، ومسلم (2380).

____________________________________

الكاتب: إبراهيم الدميجي