الفرق بين امتحان الدنيا وامتحان الآخرة

منذ يوم

الفرق شاسع بين امتحان الدنيا وامتحان الآخرة وإليك أوجهاً من ذلك التباين والاختلاف بين الامتحانين.

الفرق شاسع بين امتحان الدنيا وامتحان الآخرة وإليك أوجهاً من ذلك التباين والاختلاف بين الامتحانين.

أولاً: المـوضـوع:

امتحان الدنيا في جزءٍ من كتاب، وفي ورقاتٍ معدوداتٍ من دفتر، في مجالٍ من مجالات الحياة، وضربٍ من ضروب العلم.

أمَّا امتحان الآخرة ففي كتابٍ لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلاَّ أحصاها، قد حوى الأقوال، وأحصى الأفعال، وأحاط بالحركات والسَّكنات، وألمَّ بالخطرات والهنَّات والزلاَّت !قال تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49]، فالصغائر مسجلة به، كما أنَّ الكبائر مدوَّنة فيه.



ثانيًا/الأسـئـلة:

امتحان الدنيا أسئلته محدودة في بعض مفردات الكتاب، فلا يمكن للمعلِّم أن يسأل الطالب عن كلِّ دقيق وجليل من محتويات المنهج، وربما تدركه الشفقة فيختار له من أسهل الأسئلة وأيسرها.

أما امتحان الآخرة فالأسئلة حاويةٌ لأطراف الحياة، شاملة لدقائق العمر.. أسئلة عن الأفعال.. وأسئلة عن الأقوال.. وأسئلة عن الأموال.. وأسئلة عن الأوقات.. وأسئلة عن الأمانات.. أسئلة خطيرة؛ جِدُّ خطيرة، عن كلِّ كبير وصغير وعظيم وحقير، قال تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر: 92- 93].

قال تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات: 24]، وعن ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «لا تزُولُ قدَما ابن آدم مِن عندِ ربِّه حتَّى يُسألَ عن خمس: عن عُمرِهِ فيما أفناهُ، وعن شَبابِهِ فيما أبلاهُ، وعن مالِهِ مِن أينَ اكتسَبَهُ وفيما أنفَقَهُ، وماذا عمِلَ فيما عَلِمَ».



ثالثًا/ المـكـان:

امتحان الدنيا في جوٍّ مهيأ، ومكانٍ معدٍّ، فالكراسي مريحة، والأنوار ساطعة، والمكيفات باردة، والأمن والأمان يبسطان رداءهما على المكان.

أما امتحان الآخرة ففي جوٍّ رهيب، وموقفٍ عصيب، ومكانِ عجيب.. قال تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم: 48] أهوالٌ عظيمة، وكرباتٌ جسيمة، وأحوالٌ مفجعةٌ، ومناظر مدهشةٌ، ترتعد منها الفرائص، وتقشعرُّ منها الجلود، وتنخلع لهولها القلوب، وتشيب منها مفارق الولدان !

قال تعالى: {يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} [المزمل: 17]، يوم يجمع الله الأولين والآخرين، فإذا هم بالساهرة، حفاةً بلا أحذية، عراةً بلا أردية، غرلاً بدون ختان.. قال تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 104]، وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تُحشَرُونَ حُفاةً عُراةً غُرلاً» قالت عائشةُ: فقلتُ: يا رسولَ الله الرِّجالُ والنِّساءُ ينظُرُ بعضُهُم إلى بعضٍ ؟ فقال: «الأمرُ أشدُّ مِن أن يُهِمَّهُم ذلك».

قال تعالى: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: 2]، القلوب واجفة، والأبصار خاشعة، والأعناق خاضعة، والأمم جاثية على الرُّكب تخشى العطوب، لِما ترى وتسمع من مهلكات وخطوب، فالميزان منصوب، والصراط مضروب، والشهود تشهد، والجوارح تفضح، والصحائف تنشر ! وإلى الله يومئذِ المستقر! فأين المفر


رابعًا/ الزمـان:

امتحان الدنيا إن طال زمانه وامتدَّ أوانه فهو في ساعةٍ من نهار، وربما أكثر من ذلك بقليل. أما امتحان الآخرة فهو في: {يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4] قال تعالى: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج: 47].

وعندما يعيش المجرمون ذلك اليوم الطويل بما فيه من خطبٍ جليل، يقسمون الأيمان المغلظة ما لبثوا إلاَّ قليلاً ولا عاشوا إلاَّ يسيراً. قال تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ} [الروم: 55]، فيفزعون نادمين، وعلى أعمارهم متحسِّرين: إنما هو زمنٌ يسير ! وعمرٌ قصير! ثُمَّ كان إلى الله المصير !

قال تعالى: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون: 112- 116].


خامسًا/ المـراقب:

المراقب في الدنيا مخلوقٌ مثلك، محدود القدرات، معدود الإمكانات، ينسى ويغفل، ويسهو ويتنازل، وليس بالإمكان أن يحيط بقاعة الامتحان!

أمَّا الرقيب على امتحان الآخرة ـ وله المثل الأعلى ـ فهو الذي لا يضلُّ ولا ينسى، قد أحاط بكلِّ شيءٍ علماً، لا تخفى عليه خافية، ولا يعزب عنه مثقال ذرَّة، ولا يغيب عن بصره شيءٌ من الأشياءٍ في الأرض ولا في السَّماء.فأين تغيب عن سمعه وبصره ؟! وهو السَّميع البصير! وأين تهرب عن علمه ونظره ؟! وهو العليم الخبير !


سادسا/ الرسوب:

الإخفاق في امتحان الدنيا هيِّنٌ سهلٌ، فهو خسارةٌ لدرجة أو مرحلة أو مرتبة من دنيا لا تساوي عند الله الذي خلقها وسوَّاها جناح بعوضة.

أمَّا الرسوب في امتحان الآخرة، فخسارة الأبد، وحسرةُ السَّرمد، وألم لا ينفذ، وندم لا ينقطع، وعذاب لا ينتهي، وعقاب لا ينقضي.

يوم يُكبُّ المجرم على وجهه إلى نارٍ تلظَّى، لا يصلاها إلاَّ الأشقى، فيخسر نفسه وأهله وماله. قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر: 15] ، وأيُّ خسارةٍ أكبر من أن يرى العبد غيره يساق ـ في سعادة ومسرَّة ـ إلى جنَّةٍ عرضها السموات والأرض، لينعم بما تلذُّ به الأعين، وما تشتهيه الأنفس، ويطرب له السمع، ويسعد به القلب، ثُمَّ يقاد هو ـ في ذِلَّةٍ وصغار ومهانةٍ وانكسار ـ إلى نارٍ وقودها النَّاس والحجارة، حيثُ العقاب والعذاب، والبلاء والشَّقاء مما لا يخطر على البال، ولا يوصف بحالٍ من الأحوال والخسران الأكبر، والحرمان الأعظم، أن يحرم العبد من لذَّة النظر إلى وجه الله الكريم في الجنَّة يوم المزيد والنظر إلى وجه العزيز الحميد.

قال تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ} [المطففين: 15- 16]، وكما يرجع الطالب الخائب باللوم لنفسه، والتقريع والتوبيخ لها، والندم على تفريطها، ينقلب الحال بأهل الرسوب في الآخرة إلى الأماني العقيمة، ويركنون إلى الأحلام السقيمة، ويتمنون أن يعودوا ليجدُّوا ويجتهدوا...

قال الله تعالى عنهم: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} [الأحزاب: 66] ويدخلون النَّار، يُعذَّبون بها ويصلون سعيرها ويحرَّقون بحرارتها ينادون وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل غير الذي كنَّا نعمل فيأتيهم التقريع والتوبيخ الذي يزيد في حسراتهم، ويضاعف من لوعاتهم: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر: 37]، والجزاء في يوم الجزاء: {فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر: 37].


سابعا/ فرصة التعويض:

امتحان الدنيا أسوأ ما يمكن أن يحصل فيه أن يرسب الطالب، ويخفق في الامتحان.. وغالباً يكون لديه فرصةٌ أخرى وكرَّة ثانية، بدورٍ ثان أو بإعادة المحاولة سنةٌ أُخرى حتَّى يتمَّ له النجاح، أو بتغيير مجال الدراسة والبحث، ولعلَّ في ذلك خيراً كثيراً لا يدركه، وفضلاً عظيماً لا يعلمه... فكم من بابٍ أغلق في وجه صاحبه، وكان الخير في غلقه، ولو أنَّه ولج فيه لوقع في البلايا والمحن، والرزايا والفتن.

أمَّا امتحان الآخرة فلا فيه فرصة ثانية ولا كرَّة آتية.. وإنما هي رحلة عمل تنتهي لحظاتها، وتنقضي أوقاتها، ثمَّ تحين ساعة الانتقال إلى العظيم المتعال ! قال تعالى: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام: 62] وعند ذلك ينادي المفرِّط المخلِّط في كمد ونكد {رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون: 99] لِمَ أيُّها الغافل ؟! {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون: 100]، فهل يُجاب له سؤله ويحقق له أمله ؟! {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 100].

رحلة العمر انتهت، وفرصة الزرع انقضت، وقد حان أوان الحصاد فوا بشرى للزارعين بما حصدوا..! ووا أسفاه على الخاملين يوم جدَّ المشمِّرون وهم رقدوا..! وفاز بالغنائم طُلاَّبها، وبالمعالي أربابها !

أمَّا أولئك البطَّالون فقد حيل بينهم وبين ما يشتهون، فإنَّ الله الذي يعلم ما كان، وما هو كائن، وما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، يعلم أنَّهم لو ردوا إلى الدنيا، وفسح لهم في الأجل، لعادوا لما نُهوا عنه من المعاصي والموبقات والخمول والكسل وإنَّهم لكاذبون.


فيا لهذا الإنسان ما أشدَّ ظلمه لنفسه وما أعظم جهله بعاقبة أمره {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72] بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولكل مسلم ومسلمة فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

_________________________________________________
الكاتب: امانى يسرى محمد