{فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز}

منذ 10 ساعات

"(زُحْزِحَ) أي: دُفع ببطء؛ وذلك لأن النار - أعاذني الله وإياكم منها - محفوفة بالشهوات، والشهوات تميل إليها النفوس، فلا يكاد الإنسان ينصرف عن هذه الشهوات إلا بزحزحة؛ لأنه مُقبل عليها بقوة."

قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185].

 

في تفسير الوسيط لطنطاوي يقول: "هذه الآية فيها تعزية لجميع الناس، فإنه لا يبقى أحد على وجه الأرض حتى يموت، والذوق حقيقته إدراك الطعوم، والمراد به هنا حدوث الموت لكل نفس، وعبَّر عن حدوث الموت لكل نفس بذَوقه؛ للإشارة إلى أنه عند ذوق المذاق إما مرًّا لما يستتبعه من عذاب، وإما حلوًا هنيئًا بسبب ما يكون بعده من أجر وثواب".

 

قال صاحب الكشاف: "فإن قلت: كيف اتصل قوله تعالى: {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} بما قبله؟ قلت: اتصاله به على معنى أن كلكم تموتون، ولا بد لكم من الموت، ولا توفون أجوركم على طاعتكم ومعصيتكم عقيب موتكم، وإنما توفَّونها يوم قيامكم من القبور، فإن قلت: فهذا يُوهم نفيَ ما يُروى من أن القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار؟ قلت: كلمة التوفية تُزيل هذا الوهم؛ لأن المعنى أن توفية الأجور وتكميلها يكون في ذلك اليوم، وما يكون قبل ذلك فهو بعض الأجور".

 

ثم قال تعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} ، الزحزحة عن النار هي التنحية عنها، وعدم الاقتراب منها، والفعل "زحزح" مضاعف الفعل "زحه" عن المكان: إذا جذبه وأبعده عنه بعَجَلَةٍ وسرعة، والمعنى أن كل نفس سيدركها الموت لا محالة، وأن الناس سيُحاسبون على أعمالهم يوم القيامة، فمن كانت نتيجة حسابه الإبعاد عن النار والنجاة من سعيرها، فقد فاز فوزًا عظيمًا، وأدرك البُغية التي ليس بعدها بُغية.

 

وفي الحديث الشريف عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «موضعُ سَوطٍ في الجنة خيرٌ من الدنيا وما فيها، اقرؤوا إن شئتم»: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران: 185].

 

وعن عبدالله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحبَّ أن يُزحزح عن النار ويُدخَل الجنة، فَلْتُدْرِكْهُ مَنِيَّتُه وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأتِ إلى الناس ما يُحب أن يُؤتى إليه».

 

ويقول الشيخ السعدي رحمه الله: "هذه الآية الكريمة فيها التزهيد في الدنيا بفنائها وعدم بقائها، وأنها متاع الغرور، تفتِن بزخرفها، وتخدع بغرورها، وتغر بمحاسنها، ثم هي مُنتقِلة، ومُنتقَل عنها إلى دار القرار، التي توفَّى فيها النفوس ما عمِلت في هذه الدار، من خير وشر؛ {فَمَنْ زُحْزِحَ} أي: أُخْرِج، {عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ}؛ أي: حصل له الفوز العظيم من العذاب الأليم، والوصول إلى جنات النعيم، التي فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ومفهوم الآية أن من لم يزحزح عن النار ويُدخَل الجنة، فإنه لم يفُز".

 

وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "(زُحْزِحَ) أي: دُفع ببطء؛ وذلك لأن النار - أعاذني الله وإياكم منها - محفوفة بالشهوات، والشهوات تميل إليها النفوس، فلا يكاد الإنسان ينصرف عن هذه الشهوات إلا بزحزحة؛ لأنه مُقبل عليها بقوة؛ ولهذا قال: {زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ}؛ أي: دُفِعَ عنها بمشقة وشدة، {وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ}؛ لأنه نجا من المرهوب، وحصل على المطلوب".

 

قال الفخر الرازي: "اعلم أن فساد الدنيا من وجوه:

أولها: أنه لو حصل للإنسان جميع مراداته، لكان غمُّه وهمه أزيدَ من سروره، لأجل قصر وقته، وقلة الوثوق به، وعدم علمه بأنه هل ينتفع به أم لا.

 

وثانيها: أن الإنسان كلما كان وجدانه بمرادات الدنيا أكثر، كان حرصه في طلبها أكثر، وكلما كان الحرص أكثر، كان تألُّم القلب بسبب ذلك الحرص أشدَّ، فإن الإنسان يتوهم أنه إذا فاز بمقصوده، سكنت نفسه، وليس كذلك، بل يزداد طلبه وحرصه ورغبته.

 

وثالثها: أن الإنسان بقدر ما يجد من الدنيا يبقى محرومًا عن الآخرة التي هي أعظم السعادات والخيرات، ومتى عرفت هذه الوجوه الثلاثة، علِمْتَ أن الدنيا متاع الغرور".

 

فهذا المطلوب الأعظم يحتاج إلى ضراعة مستمرة، ودعاء ولَهَجٍ، ومن أجمع الدعاء:

{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201].

 

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.