إنّ الخلوات المفعمة بالذكر، المجللة بالخشوع، هي محاريب الهبات، ومصانع الثبات، ومعارج الأرواح إلى مراتب الإحسان.

منذ 16 ساعة

من أصدق دلائل الإيمان، وأمارات الإحسان، أن يجد القلب في خلوته بالله برد اليقين، ونعيم السكينة، ولذة الأنس. تلك اللحظات التي ينفرد فيها العبد بربه، متجردًا من علائق الدنيا، متخففًا من أثقال الخلق، هي لحظات لا تزنها الأيام، ولا تُقاس بالساعات

من أصدق دلائل الإيمان، وأمارات الإحسان، أن يجد القلب في خلوته بالله برد اليقين، ونعيم السكينة، ولذة الأنس.
تلك اللحظات التي ينفرد فيها العبد بربه، متجردًا من علائق الدنيا، متخففًا من أثقال الخلق، هي لحظات لا تزنها الأيام، ولا تُقاس بالساعات؛ إذ فيها تُسكب الرحمات، وتتجلّى النفحات، وتُشرق في القلب أنوار الطمأنينة، وأنس القرب، وراحة الرضا.

نعم، يختار الله من يشاء من عباده لمناجاته، كما يُصطفي أحبابه لمحبته، فإذا أحبّ عبدًا قرّبه، وإذا قرّبه آنسه، وإذا آنسه جعله لا يأنس بغيره، ولا يأنف من خلوة إليه مهما ازدحم الناس من حوله.

فما أهنأ تلك النفس التي إذا ضاقت بها السبل، وسئمت من ضوضاء الحياة، وجدت في خلوتها بالله سَعةً لا تضيق، وطمأنينةً لا تذهب، تخلّت عن الناس لتخلو برب الناس، وانقطعت عن الدنيا لتتصل بالملكوت، فصارت خلواتها جَنّات، ومناجاتها لذّات، لا تطاولها لذائذ الدنيا، ولا تدانيها أفراح العيون.

وما أجلّ هذه الخلوة إذا كانت في ساعات الصفاء، كالأسحار، أو في آخر ساعة من الجمعة، أو في هدوء ما بعد العشاء. فهناك تُفتح أبواب السماء، وتتنزل الملائكة، وتكتب الأرواح أعذب صفحاتها في ديوان السرائر.

إنّ الخلوات المفعمة بالذكر، المجللة بالخشوع، هي محاريب الهبات، ومصانع الثبات، ومعارج الأرواح إلى مراتب الإحسان.

طوبى لمن جعل له عبادةً خفية، لا يعلم بها إلا الله، لا يطّلع عليها صاحب، ولا يشعر بها قريب، حتى أقرب الناس إليه؛ فإنّ عمل الخفاء هو السر الأعظم في صلاح القلوب، وثبات الخطى، ودوام الصلة بالله جل وعلا.

كان بعض الشيوخ يقول لتلاميذه:
“يا بَنيّ، إن أردتم الثبات، فاجعلوا بينكم وبين الله ديوان سر، لا يعلم به بشر.”
يا لها من كلمات قليلة لكنها تحمل من حكمة التجربة شيئًا عظيمًا يختصر لك الطريق ويطوي عنك المسافات. 

ألا فلتكن لك ساعةٌ في يومك، تخلو فيها إلى ربك، تعرِض عليه قلبك، وتغسل فيها ما عَلِق من غبار الحياة، وتُرمِّم ما تصدّع من جدران الإيمان.

في تلك الساعة، جدد إيمانك، واستغفر من خطيئتك، وناجه في دمعك، وسبّحه في سكونك، واذكر له حاجتك، فإنك ما خلوت به إلا وهو أقرب إليك من كل قريب.

فما أكثر الأعمدة التي سقطت، لا لطولها، ولكن لضعف جذورها؛ وكذلك القلوب، كلما علت في الناس، احتاجت إلى عمق في الخفاء، كي لا تسقطها رياح المدح، ولا تطيح بها عواصف الهوى.

ومن لم يتزوّد من الخلوة نورًا، عجز أن ينير في الجلوة دربًا، ومن لم يأخذ من الله سرًا، عجز أن يعطي الخلق أثرًا.

فيا من أراد البركة في حياته، والقَبول في قوله وعمله؛ اصدق مع الله في سِرّك، واجعل خلَواتك أطهر من جَلَواتك، ففي ذلك الفلاح، ومن وراء ذلك نورٌ لا يخبو، وبركة لا منتهى لها.