غير المغضوب عليهم ولا الضالين

منذ 11 ساعة

سوانح تدبرية من سورة الفاتحة |9| غير المغضوب عليهم ولا الضالين

أيمن الشعبان

 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:

فإن من أعظم الحِكم والغايات من إنزال الآيات، التدبر والتفكر واستخراج الدرر والمكنونات، قال تعالى: {{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}} [ص:29].

إن تأملَ وتدبرَ آيات كتابِ الله عز وجل واستخراج كنوزها والتعرف على أسرارها؛ يعود على العبد بالبركةِ والخيرِ والنفع والهداية وسعادة الدارين.

يقول ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين (1/450): فَلَيْسَ شَيْءٌ أَنْفَعَ لِلْعَبْدِ فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ، وَأَقْرَبَ إِلَى نَجَاتِهِ مِنْ تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ، وَإِطَالَةِ التَّأَمُّلِ فِيهِ، وَجَمْعِ الْفِكْرِ عَلَى مَعَانِي آيَاتِهِ.

قال سفيان بن عيينة رحمه الله (زاد المسير في علم التفسير، 2/370): إِنما آيات القرآن خزائن، فإذا دخلتَ خزانةً فاجتهد أن لا تخرج منها حتى تعرف ما فيها.

قال تعالى في سورة الفاتحة: {{غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} }

{{غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}} ، أي: إنَّ مِن صفات الذين أَنعم الله تعالى عليهم، أنَّهم ليسوا كاليهود، ومَن سلَك طريقتَهم في ترْك العمل بالحقِّ بعد معرفته.

فأخصُّ أوصاف اليهود، الغضبُ، كما قال الله تعالى فيهم: {مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ}[المائدة:60]، وقال سبحانه أيضًا: {{فَبَاؤُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ}} [البقرة:90].

وعن عَديِّ بن حاتمٍ رضي الله عنه، قال: قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: "المغضوب عليهم: اليهود".

{{وَلَا الضَّالِّينَ}} ، أي: إنَّ من صِفات الذين أنعمَ الله تعالى عليهم، أنَّهم ليسوا كالنَّصارى، ومَن سلك طريقتَهم ممَّن جهِلوا الحقَّ، فعبَدوا الله تعالى بغير عِلم.

فأخصُّ أوصاف النصارى الضلال، كما قال سبحانه: {{قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ}} [المائدة:77].

وعن عديِّ بن حاتم رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: "ولا الضالين: النَّصارى". (التفسير المحرر).

فوائد ووقفات وهدايات وتأملات:

1- قرأ حمزة {{عليهُم}} بالضم، وقرأ بقيةُ السبعة { {عليهِم}} بالكسر.

2- بيَّنت خِتامُ الفاتحة مَعالِمَ الافتراق ومَناطَ الهداية، فالصراطُ المستقيمُ وسطٌ بين مَن علِم ولم يعمَل، ومَن عمِل بلا علم؛ وأهلُه هم الذين جمعوا بين العلمِ والعمل، فاستقاموا على الحقّ سنّةً وهدًى.

3- رسمتْ الفاتحةُ طريق النجاة للأمم كافة، فدعتْ لاتّباع الصراط المستقيم الذي يجمع العلم والعمل، ويحفظك من مسالك الغضب والضلال، ليبقى الهُدى متجدداً لكل زمان.

4- لو نفعَ العلمُ بلا عملٍ لما ذَمَّ اللهُ أحبارَ اليهود، ولو نفعَ العملُ بلا علمٍ لما ذمَّ الله رُهبانَ النصارى.

5- ضرورة الجمع بين العلم والعمل، وبيان أن التقصير في أحدهما سببٌ للغضب أو الضلال، وهو أصلٌ في إصلاح العقيدة وإيمان القلب.

6- قال ابنُ القيمِ في أحكام أهل الذمة: فَالْأُمَّةُ الْغَضَبِيَّةُ هُمُ الْيهُودُ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَأُمَّةُ الضَّلَالِ هُمُ النَّصَارَى الْمُثلِّثَةُ عُبَّادُ الصُّلْبَانِ.

7- وصفَ اللهُ صراطَ المُنعَمِ عليهم بقوله: {{غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}} ؛ تأكيدًا لكمال هذا الصراط، إذ تُذكَر الصفاتُ السَّلبيّةُ لإبراز كمال أضدادِها، كما في قوله تعالى: {{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ}} ، فذِكرُ نفيِ الموتِ دليلٌ على كمالِ الحياة.

8- الغضبُ صفةٌ إلهيّةٌ ثابتةٌ لله تعالى، تليقُ بجلالِه وكمالِه، من غير تشبيهٍ ولا تمثيلٍ بصفات المخلوقين، وهو من موجِبات الهلاك لمن استحقَّه؛ قال تعالى: {{كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فقَدْ هَوَى}} .

9- تأمّلوا دقّة البيان: أضافَ الإنعامَ إلى نفسه فقال: { {أَنْعَمْتَ} ولم يُضِفِ الغضبَ إليه فقال: { {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} لأنّ الإنعامَ مظهرُ فضلٍ ورحمةٍ، والغضبَ مظهرُ عدلٍ وانتقامٍ، فرحمتُه أسبقُ وغلبتُه أتمّ، فنسبَ إلى نفسه أكملَ الوصفين، وجاء بغيره في مقام الجزاء، وهذا من أدقّ أساليب القرآن.

10- قال بعض أهل العلم: "مَن فسدَ من عُبّادنا ففيه شَبه من النصارى، ومن فسد من علمائِنا ففيه شبه من اليهود".

11- قُدِّمَ أهلُ الغضبِ على أهلِ الضلال؛ لقُربِ اليهودِ من المؤمنين مكانًا، ولسَبْقِهم زمانًا، ولأنّ الغضبَ أغلظُ من الضلال، فمَن عرفَ الحقَّ ثم أعرضَ عنه، أعظمُ جرمًا ممّن تاهَ عنه ولم يهتدِ إليه.

12- الضلالُ: انحرافٌ عن الهُدى، وجهلٌ بالحق، وتيَهٌ يُبعِدُ عن الصراطِ المستقيم والمنهجِ القويم.

13- الغضب والضلال عقوبتان أنزل الله بهما أقوامًا ومرتكبي الكبائر والمنافقين والمشركين، وجعل القرآن، والنبي صلى الله عليه وسلم ذلك وعيدًا للذين خالفوا أمره وضلوا عن سبيله، فدلّ على شدة خطرهما وفداحة عاقبتهما.

14- في الآية دلالةٌ على خطر تحريف الدين والانحراف عنه، إذ المغضوب عليهم عرفوا الحق وتخلّوا عنه، والضالون جهلوا الصواب فسلكوا غير سبيله.

15- تحصين الإيمان بوجوب السلوك على بصيرة ووعي، وعدم الانحراف عن الحق.

16- يقول ابن القيم: فَالضَّلَالُ نَتِيجَةُ فَسَادِ الْعِلْمِ، وَالْغَضَبُ نَتِيجَةُ فَسَادِ الْقَصْدِ، وَهَذَانَ الْمَرَضَانِ هُمَا مِلَاكُ أَمْرَاضِ الْقُلُوبِ جَمِيعِهَا.

17- الحث على الاحتراز، والحذر من الأخطاء التي وقع فيها السابقون.

18- من لم يثبت على الصراط المستقيم عرّض نفسه للزلل؛ فيقع في الغضب بمعرفة الحق وتركه، أو في الضلال باتباع الباطل عن جهلٍ وعمى.

19- دعوة المسلم للمحافظة على الطاعة والابتعاد عن المعاصي التي تجلب الغضب.

20- تغرسُ الآيةُ في قلبِ المؤمنِ اليقظةَ والحذرَ؛ لئلّا يسلكَ سبيلَ المغضوبِ عليهم ولا طريقَ الضالّين.

21- تُبرزُ الآيةُ شدّةَ الترهيبِ من سلوكِ طريقِ المغضوبِ عليهم والضالّين، إذ هو مسلكُ من أعرضَ عن الحقِّ أو تاهَ عنه.

22- من أعجب العجب أن يترك المسلم وسامَ الهداية ونعيمَ الإنعام، ويختار لنفسه ذل الاتباع لأممٍ تائهة بين الغضب والضلال، ويترك السعادة الحقيقية التي ميزه الله بها.

23- الآيةُ دلالةٌ واضحةٌ على خطرِ التشبه باليهودِ والنصارى، إذ فيها تحذيرٌ من سلوكِ مسارهم، وإشارةٌ إلى تحريمِ الاقتداء بهم في العمل أو الاعتقاد.

24- فيها دعوة لحب الهداية والاستقامة، والاستعاذة من طرق أهل الانحراف والبدع، وأهمية الحرص على طلب الحق والالتزام بالهدي النبوي والسنة.

25- أنفع الدعاء وأوجبه للعبد: أن يسأل ربّه الهداية للصراط المستقيم، ويلتجئ إليه ليجنّبه طريق من عرفوا الحق وخالفوه أو عبدوا الله على جهل وضلال.

26- ينبغي للعبد أن يسعى لأحسن الطرق وأقومها، ولا يتحقق له ذلك إلا باجتناب مسالك الكفر والظلم والضلال.

27- تقديمُ الهوى على الشرع من طرق اليهود، وأداءُ العبادة بجهل من طرق النصارى.

28- مركزية الاستقامة على الحق، واجتناب الانحراف عن الدين والسنة، مع استمرار الدعاء والحرص على العلم النافع والعمل الصالح.

29- تعليم الأجيال والقُرّاء، أهمية الوعي الفردي، والمسؤولية الشخصية، أمام التوجيه الإلهي.

30- ترسيخ مبدأ أن التربية الحقيقية تبدأ من تعزيز الضمير الواعي، والقدرة على التمييز بين الحق والباطل.

تمت سلسلة "سوانح تدبرية من سورة الفاتحة"، والحمد لله أولاً وآخراً على فضله وتوفيقه.

أيمن الشعبان

داعية إسلامي، ومدير جمعية بيت المقدس، وخطيب واعظ في إدارة الأوقاف السنية بمملكة البحرين.