الاكتفاءُ بغلبة الظن في أمور الدنيا والدين عند تعذُّر اليقين
مِنْ يُسر الشريعة الإسلامية وسماحتِها الاكتفاءُ بغلبة الظن في أمور الدنيا والدين إذا لم يمكن اليقين، فلا يُكلِّف الله نفسًا إلا وسعها
بقلم/ محمد بن علي بن جميل المطري
مِنْ يُسر الشريعة الإسلامية وسماحتِها الاكتفاءُ بغلبة الظن في أمور الدنيا والدين إذا لم يمكن اليقين، فلا يُكلِّف الله نفسًا إلا وسعها، وكثيرٌ من مسائل الاعتقاد والعبادات والمعاملات يقينيةٌ لا يوجد فيها أدنى شكٍ عند أهل الإسلام، وبعضها يُكتفى فيها بغلبة الظن المقارب لليقين أو مجردِ الظن الراجح، ومن عَمِل بغلبة ظنه فأخطأ فلا إثم عليه إذا لم يتعمد الخطأ، ولم يُقصِّر في معرفة الصواب، قال الله تعالى: {{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} } [الأحزاب: 5]، فمن غلب على ظنه مثلًا أن القِبلة إلى جهةٍ ما فصلى إليها مجتهدًا أو مقلِّدًا ثم تبين له أنه صلى إلى غير القبلة فصلاته صحيحة، ولا إعادة عليه، ومن غلب على ظنه أن المكان الذي يصلي فيه طاهر ثم تبين له بعد صلاته أن المكان نجسٌ فصلاته صحيحة، وهكذا يكتفي المغتسِل بما يغلب على ظنه في معرفة وصول الماء إلى جميع بدنه، ومن شك في عدد ركعات صلاته الرباعية هل هو في الركعة الثالثة أو الرابعة فقال بعض الفقهاء: يعمل بما يغلب على ظنه؛ لحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ، فَلْيُتِمَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ لِيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ» [رواه البخاري ومسلم] .
ولا حرج في الشريعة على من اعتمد على غلبة ظنه فأخطأ، فالدين مبنيٌّ على التيسير، وتركِ التعسير، حتى في صوم رمضان أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نصوم شهر رمضان لرؤية الهلال، فإن غُمِّي علينا، وحال بيننا وبين رؤية الهلال سحابٌ، فيجب علينا أن نُتِمَّ شهر شعبان ثلاثين يومًا، ولا حرج علينا لو أخطأنا، ولم تُكلِّفنا الشريعة أن نصعد إلى فوق السحاب لنتأكد من ظهورِ الهلال أو عدم ظهوره، فالحمد لله على تيسيره على عباده.
ويجب على القاضي أن يتحرى العدل فيقضي بغلبة ظنه بحسب ما يظهر له من البينات والشهود، مع احتمال أن بعض البينات قد تكون مُزوَّرة أو خاطئة، وقد يكون بعض الشهود كذبة أو مخطئين، فإن اجتهد القاضي فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر، ففي الصحيحين من حديث أم سَلَمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِي عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ» وفي الصحيحين من حديث عمرو بن العاص وأبي هريرة رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ» .
ومثل القاضي المفتي يُفتي بغلبة ظنه بحسب ما يظهر له من الأدلة، وكثيرٌ من المسائل الفقهية يعلم العالم الصواب فيها يقينًا، وبعضها يعلم الأصح فيها بحسب غلبة ظنه، وهذا كافٍ في الشريعة السمحة، قال الدكتور محمد الزحيلي في القواعد الفقهية وتطبيقاتها في المذاهب الأربعة (2/ 865): "غالب الظن عند الفقهاء ملحَقٌ باليقين، وتُبنى عليه الأحكام العملية، ويجب العملُ به باتفاقٍ إذا لم يوجد دليلٌ قاطعٌ من النصوص، ولا معارض له أرجح منه، كالظن الحاصل عند سماع البينات والمقوِّمين والمفتين والرواة والأحاديث والأقيسة الشرعية، ومن لم يعمل بغلبة الظن عطَّل أكثرَ الأحكام".
والعمل بغلبة الظن كافٍ عند العقلاء في الأمور الدنيوية والدينية، فمن رأى سِلعةً تُباع في السوق فالظاهر أنها مِلكُ البائع، فيكتفي المشتري بغلبة ظنه، ويصح البيع، مع احتمال أن السلعة قد تكون مسروقة، ولا يجوز أن يتنطع المشتري فيطلب من البائع اليمين على أن السلعة مِلْكُه، ومن اشترى لحمًا من مسلمٍ فالظاهر أنه لحمٌ حلالٌ مذبوحٌ على الطريقة الإسلامية، فيكتفي المشتري بغلبة ظنه، ولا يلزمه طلبَ اليقين بالحضور عند الذَّبح ونحو ذلك، وكل واحدٍ منا يشهد أن فلانًا هو ابن فلان، اعتمادًا على معرفة ذلك بغلبة ظنه، ولا يصح أن يشك في ذلك لكونه لم يشهد عقد والده بوالدته، ولم يشهد ولادة أمه به! وإذا أخبرك مخبِرٌ أنَّ فلانًا يدعوك إلى بيته فإنك تعمل بخبره إذا غلب على ظنك صدقه، ولو أرسل لك صاحبك رسالة من هاتفه إلى هاتفك فإنك تعتمدها غالبًا إذا لم يكن فيها ما يدعو إلى التثبت، وغلب على ظنك أن الرسالة منه، مع احتمال أن الذي كتب الرسالةَ غيرُه، لكنه احتمالٌ نادرٌ لا يُلتفَت إليه إلا عند وجود قرينةٍ تقوي هذا الاحتمالَ النادر، وهكذا إذا مرضت فإنك تذهب إلى طبيبٍ يغلب على ظنك أنه عارف بالطب، وتقبل خبره في علاجك، وتستعمل الأدوية كما يصف لك، ولا يصح أن تُكذِّبه أو تُشكِّك في علمه بالطب أو تَدَّعي خطأه توهُّمًا بلا حُجَّة، ومن شكَّك في مثل هذه الأمور التي يُكتفى فيها بغلبة الظن فإنه مُتنطِّعٌ مُتكلِّف، مخالفٌ لشرائع الأنبياء والعقلِ والفِطرة، والنبي محمد صلى الله عليه وسلم يقول: ((هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ)) رواه مسلم من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وقد عَمِل النبي موسى عليه الصلاة والسلام بخبر الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى يُخبره أن الملأ يأتمرون به ليقتلوه، فاعتمد موسى على خبره للقرائن التي تدل على صدقه، فخرج من مصر خائفًا مُتَّجِهًا إلى مَدْيَن، ولم يقل: هذا خبرُ رجلٍ واحدٍ لا يُفيد اليقين، فلا أُصدِّقه ولا أعملُ بخبره، وحين جاءته إحدى المرأتين تخبره أن أباها يدعوه ليجزيَه أجر ما سقى لهما صدَّقها موسى عليه السلام مع كونها مجهولة لا يعرفها، لكن غلب على ظنه صدقها، وهذا كافٍ عند العقلاء في جميع الأمم والشرائع.
قال العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/ 4): "الاعتمادُ في جلبِ معظم مصالح الدارين ودرءِ مفاسدهما على ما يظهر في الظنون، وللدارين مصالحُ إذا فاتت فسد أمرُهما، ومفاسدُ إذا تحققت هلك أهلُهما، وتحصيلُ معظمِ هذه المصالح بتعاطي أسبابِها مظنونٌ غيرُ مقطوعٍ به؛ فإن عُمَّال الآخرة لا يقطعون بحسن الخاتمة، وإنما يعملون بناءً على حسن الظنون، وهم مع ذلك يخافون ألا يُقبَل منهم ما يعملون، وقد جاء التنزيل بذلك في قوله: { {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} } [المؤمنون: 60]، فكذلك أهل الدنيا إنما يتصرفون بناءً على حسن الظنون، وإنما اعتُمِد عليها لأن الغالب صِدقُها عند قيام أسبابها؛ فإن التجار يسافرون على ظن أنهم يربحون، والزارعون يحرثون ويزرعون بناءً على أنهم يَحْصُدُونَ، والملوك يُجنِّدون الأجناد ويُحصِّنون البلاد بناءً على أنهم بذلك ينتصرون، والناظرون في الأدلة والمجتهدون يعتمدون في الأكثر على ظن أنهم يظفرون بما يطلبون، والمرضى يتداوون لعلهم يبرءون، ومعظمُ هذه الظنون صادقٌ موافقٌ غيرُ مخالفٍ ولا كاذب، فلا يجوز تعطيلُ هذه المصالح الغالبة الوقوع خوفًا من ندورِ وكذب الظنون، ولا يفعل ذلك إلا الجاهلون" انتهى باختصار وتصرف.
فالشريعة الإسلامية تُكلِّف المسلمَ أن يعلمَ ويعملَ في أمور دينه ودنياه بما يغلب على ظنه بحسب الأدلة والقرائن، فإن أمكن اليقينُ فيلزمه اليقين، مثل اليقين بمعرفة توحيد الله وأركان الإيمان، ومثل المصلي أمام الكعبة يلزمه إصابةُ عينِها، وأما المصلي البعيد من الكعبة فيكتفي باستقبال جهة الكعبة وإن لم يُصِب عينَها، وكثيرٌ من المسائل التي يُكتفى فيها بغلبة الظن يكون الظن فيها أشبه باليقين، وبعضها يكون الظن فيها راجحًا غير مقارب لليقين، ومع ذلك تكتفي به الشريعة، كبعض المسائل الدقيقة في العقيدة، وبعض مسائل الفقه الاجتهادية، ومنها بعض مسائل النِّزاع التي يَفصِلُ فيها القاضي باليمين، مع أن الحالف قد يكون كاذبًا في يمينه، فتكتفي الشريعة بيمينه عند عدم وجود البينة.
قال ابن عثيمين في شرح العقيدة السفارينية (ص: 307 - 309): "لا يمكن أن نقول: إن جميع مسائل العقيدة يجب فيها اليقين؛ لأن من مسائل العقيدة ما اختلف فيه العلماء رحمهم الله، وما كان مختلفًا فيه بين أهل العلم فليس يقينيًا؛ لأن اليقين لا يمكن نفيه أبدًا. فمثلًا اختلف العلماء رحمهم الله هل عذاب القبر واقعٌ على البدن أو على الروح؟ واختلف العلماء هل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه [ليلة المعراج] بعينِه أو بقلبِه؟ فيوجد من مسائل العقيدة ما يعمل فيه الإنسان بالظن ... فمسائل العقيدة ليست كلها مما لا بد فيه من اليقين؛ لأن اليقين أو الظن حسب تجاذبِ الأدلة، وتجاذبُ الأدلة حسبُ فهمِ الإنسان وعلمِه ... فليس كل مسائل العقيدة مما يجزم فيه الإنسان جزمًا لا احتمال فيه، فهناك بعض المسائل قد يشك الإنسان فيها، ... ففي مسائل العقيدة ما فيه خلاف، وفي مسائل العقيدة ما لا يستطيع الإنسان أن يجزم به، لكن يترجح عنده" انتهى باختصار وتصرف يسير.
فالشريعة الإسلامية تكتفي بما يترجح في قلب المسلم بحسب غلبة الظن والظاهر، ولا تنطُّعٌ فيها ولا تكلُّف، فنحكم مثلًا على الشخص بأنه مؤمنٌ بحسب ما يظهر لنا من أعماله، وحسابُه على ربه، قال الله سبحانه: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}} [الممتحنة: 10]، فأمر الله سبحانه الصحابة أن يختبروا المهاجرات ليعلموا أنهن مؤمنات بحسب الظاهر وغلبة الظن والقرائن، وبهذا صرَّح المفسرون في تفسير هذه الآية، قال البيضاوي في تفسيره (5/ 329): "{فَامْتَحِنُوهُنَّ} فاختبروهن بما يغلب على ظنكم. {{اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ}} فإنه المطلع على ما في قلوبهن. {{فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ}} العلم الذي يُمكِنكم تحصيلُه، وهو الظن الغالب بالحلِف وظهور الأمارات، وإنما سمَّاه علمًا إيذانًا بأنه كالعلم في وجوب العمل به"، وقال ابن جُزَي في التسهيل لعلوم التنزيل (2/ 366): "أي: اختبروهن لتعلموا صدق إيمانهن، وإنما سماهن مؤمنات لظاهر حالِهِن"، وقال أبو حيان في البحر المحيط في التفسير (10/ 158): "أطلق العلم على الظن الغالب بالحلِف وظهور الأمارات بالخروج مِن الوطن، والحلول في قومٍ ليسوا مِنْ قومها".
فإن تيسَّر اليقينُ في الشريعة الإسلامية فبِها ونِعْمَت، وإن لم يتيسر اليقينُ فيكفي غلبةُ الظن، وهذا من تيسير الله سبحانه على عباده، وقد رفع اللهُ المنَّانُ عن هذه الأمة المؤاخذة بالخطأ والنسيان، قال الله تعالى مُعلِّمًا عباده أن يقولوا: {{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} } [البقرة: 286]، وبهذا تصلح أمورُ الناس في الدين والدنيا، ومَنْ تنطَّع فلم يقبل إلا اليقينَ ولو تعذَّرَ فإنه في ضلالٍ مبين، ولن يستطيع تحقيقَ اليقين في كثيرٍ من أمور دينه ودنياه، فلو دخل مسجدًا للصلاة فإنه يكتفي بغلبة ظنه في معرفة جهة القِبلة، وطهارة فِراشِ المسجد، وصحة وضوء الإمام الذي يصلي بهم، ومن تكلَّف طلب اليقين في هذه الأمور فإنه مُتنطِّع موسوِسٌ، ولو تزوَّج رجلٌ بامرأة وزُفَّت إليه، فإنه يكتفي بما يغلب على ظنه أنها المرأةُ التي تزوَّجها، ولو لم يكن رآها، فيعملُ بالقرائن التي تدلُّه على أنها زوجتُه التي عقد عليها، كمجيء بعض أهلِها معها إليه، وإخبارهم أنها زوجته، فيدخلُ بها عملًا بغلبة ظنه الراجح الذي يقارِب اليقين، ولو تنطَّع بطلب البطاقة الشخصية لهذه المرأة التي زُفَّت إليه أو طلبِ اليمين من الحاضرين ليتأكد أنها المرأة التي كُتِب اسمها في عقد النكاح؛ لعدَّه الناسُ مُوسوِسًا ومريضًا نفسيًّا، لكن لو وُجِدت قرائنُ تدل على أنها غير المرأة التي عَقَدَ عليها فإنه يجب عليه حينئذ أن يتوقف ويتبين، وهكذا لو ولَدَتْ زوجتُه في المستشفى، وجيء بولده إليه، فإنه يجب عليه أن يقبل ذلك الولد بحسب غلبة الظن، ولا يجوز له أن يُنكِر ولده بدعوى أنه لم يشاهد ولادة زوجته به، ولا يصح أن يطلب اليمين ممن جاءه بولده لاحتمال أنه بدَّله متعمِّدًا أو مخطئًا، ولا ينبغي أن يطلب تحليل الحمض النووي لطلب اليقين بأنه ولده، فهذا كلُّه من التنطع والتكلف، وقد نُهِينا عن التنطع والتكلف.
وما ينقله العلماء المتخصصون في كل العلوم الدينية والدنيوية فالأصل قبول أخبارهم، وصحة علومهم، اكتفاءً بغلبة الظن، ولا يجوز ردُّ أخبارهم وبحوثِهم العلمية بلا دليلٍ ولا قرينة، ما لم يتبين كذبُ الناقل أو خطؤه أو تفردُه بما لا يوافقه غيرُه من المتخصصين في ذلك العلم.
وطلاب العلم المبتدئون يُحصِّلون العلوم الدينية والدنيوية بغلبة الظنون أولًا، ومع استمرارهم في التعلم يرسخ العلم في قلوبهم لاحقًا، ويتيقن الطالبُ كثيرًا من مسائل العلم التي تلقاها أول مرة بغلبة ظنه، وقد يَصِلُ إلى مرحلةٍ يستطيع معها أن يُبرْهِنَ على صحتها أو خطئها، ويتبينَ له خطأُ بعضِ ما كان يظنه صوابًا في بداية تحصيله العلم، {{وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}} [يوسف: 76].
وإذا روى صحابيٌّ حديثًا عن النبي عليه الصلاة والسلام فالأصل أنه صادقٌ في خبره، ولا يجوز ردُّ خبره بالظن السيء، وإذا روى التابعي الثقة حديثًا عن صحابيٍّ أدركه فالأصل أنه صادق في روايته، وإذا روى تابع التابعي الثقة ذلك الحديث عن التابعي عن الصحابي فالأصل صحة ذلك الحديث لاتصال سنده بالرواة الثقات العدول، وغالبُ الأحاديث النبوية التي رواها الصحابة مشهورةٌ رواها أكثر من صحابي، وعلماء الحديث يجمعون طرق كل حديث بالأسانيد المتعددة، ويقارنون روايات الرواة، فيعرفون حفظ الراوي وإتقانه إذا كان يوافق زملاءه فيما يروونه عن شيخهم، فإن روى أحد الرواة حديثًا خالف فيه زملاءه الذين شاركوه في السماع من شيخهم عرف المحدِّثون أنه أخطأ في متن ذلك الحديث أو في إسناده، فإن أكثرَ من الخطأ وصفوه بأنه ضعيف الحفظ، فإن روى ما لا يتابعه عليه زملاؤه، وكثُر تفرُّده بأحاديث غريبة لا يتابعه على روايتها زملاؤه الذين سمعوا من نفس الشيخ؛ حكم علماء الحديث بأنه راوٍ كذاب يروي ما لا أصل له، وكثيرٌ من الأحاديث يحكم المحدثون بصحتها بغلبة ظنهم، أو يحكمون بضعفها بغلبة ظنهم، أو يحكمون بأنها مكذوبة بغلبة ظنهم، وحُكمُ العلماء المتخصصين في أيِّ علمٍ بغلبة ظنهم كافٍ في جميع العلوم؛ لنُدْرةِ خطئ الظن الغالب، وغلبة إصابته، لا سِيما أحكام العلماء المتخصصين في علم الحديث الشريف، فيجب قبولُ ما صححوه من الأحاديث، وردُّ ما حكموا بأنه موضوع مكذوب، والتوقفُ فيما ضعَّفوه، فالعملُ بغلبة الظن واجبٌ في جميع العلوم، ومنها علم الحديث النبوي، قال العلامة ابن الصلاح في معرفة أنواع علوم الحديث (ص: 14): "إذا قالوا في حديث: إنه غير صحيح فليس ذلك قطعًا بأنه كذِبٌ في نفس الأمر، إذ قد يكون صِدقًا في نفس الأمر، وإنما المراد به أنه لم يصح إسنادُه"، وقال الحافظ العراقي في شرح التبصرة والتذكرة (1/ 105): "حيث قال أهل الحديث: هذا حديث صحيح، فمرادهم فيما ظهر لنا عملًا بظاهر الإسناد، لا أنه مقطوعٌ بصحته في نفس الأمر؛ لجواز الخطأ والنسيان على الثقة"، وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري (1/ 585): "تعليلُ الأئمة للأحاديث مبنيٌّ على غلبة الظن، فإذا قالوا: أخطأ فلان في كذا لم يتعين خطؤه في نفس الأمر، بل هو راجِحُ الاحتمال فيُعتمد".
وكثيرٌ من أحاديث الآحاد يحكم علماء الحديث بصحتها يقينًا لقرائن تدل على صحتها، كغالب أحاديث الصحيحين وغيرها من الأحاديث الصحيحة التي رواها الثقات الحفاظ بالأسانيد المتصلة التي ليس فيها علة، ولم يُضعِّفها أحدٌ من علماء الحديث الجهابذة، قال الحافظ ابن حجر في نخبة الفِكَر في مصطلح أهل الأثر (ص: 2): "وقد يقع في أحاديث الآحاد ما يفيد العلم النظري بالقرائن على المختار"، وقال ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى (1/ 257): "جمهور متون الصحيحين متفقٌ عليها بين أئمة الحديث، تلقوها بالقَبول، وأجمعوا عليها، وهم يعلمون عِلْمًا قطعيًا أن النبي صلى الله عليه وسلم قالها"، وجاء في الموسوعة الفقهية الكويتية (1/ 45): "يكفي لوجوب العمل بالحديث غلبة الظن بأنه صادرٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان صلى الله عليه وسلم يكتفي بإبلاغ دعوته بإرسال واحد من أصحابه، مما يدل على أن خبر الواحد إذا غلب على الظن صدقُه يجب العملُ به".
تنبيه: العلامة ابن حزم الأندلسي رحمه الله خالف العلماء فادَّعى أنه لا يجوز العمل بغلبة الظن، واستدل على ذلك ببعض الآيات القرآنية التي فيها النهي عن اتباع الظن، يُنظر: المحلى لابن حزم (1/ 89، 166) و (11/ 111) و (12/ 106)، والفِصَل في الملل والأهواء والنِّحَل لابن حزم (4/ 128)، وهذا خطأٌ منه عفا الله عنا وعنه، والناظر في كتاب المحلى لابن حزم يجد أنه يقرر العمل بغلبة الظن في كثيرٍ من المسائل التي يُكتفى فيها بغلبة الظن إجماعًا وإن ادَّعى أنه لا يعمل فيها إلا باليقين، مثل الحكمِ بطهارة الثوب الذي لا تظهر فيه نجاسة، والحكمِ بحل ذبائح المسلمين الذين لم نشاهدهم وهم يذبحون الأنعام، وقبولِ شهادة الشاهِدَين بحسب ما يظهر مِنْ عدالتهم، والحكمِ باليمين مع احتمال أن يكون الحالِف كاذبًا، والعملِ بكثير من الأدلة الظنية الدَّلالة أو الظنية الثبوت التي تفيد غلبة الظن.
وقد بيَّن العلماء أن الآيات والأحاديث التي فيها النهي عن اتباع الظن لا تنافي العمل بغلبة الظن، قال القرطبي في تفسير قوله تعالى: { {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} } [الحجرات: 12]: "للظن حالتان: حالة تُعرف وتَقوى بوجهٍ من وجوه الأدلة، فيجوز الحكم بها، وأكثر أحكام الشريعة مبنية على غلبة الظن، كالقياس وخبر الواحد وغير ذلك من قِيَم المتلفات وأروش الجنايات. والحالة الثانية: أن يقع في النفس شيء من غير دلالة، فلا يكون ذلك أولى من ضده، فهذا هو الشك، فلا يجوز الحكم به، وهو المنهي عنه. وقد أنكرَت جماعةٌ من المبتدعة تعبُّدَ اللهِ بالظن، وجوازِ العمل به، تحكُّمًا في الدين، ودعوى في المعقول، وليس في ذلك أصلٌ يُعوَّل عليه، فإن البارئ تعالى لم يذم جميعه، وإنما أورد الذم في بعضه، وربما تعلقوا بحديث أبي هريرة: (( «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الحَدِيثِ» )) فإن هذا لا حجة فيه؛ لأن الظن في الشريعة قسمان: محمودٌ ومذمومٌ، فالمحمود منه ما سَلِم معه دين الظان والمظنون به عند بلوغه. والمذموم ضده، بدلالة قوله تعالى: {{إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} } [الحجرات: 12]، وقوله: { {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا} } [النور: 12]، وقوله: {وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا} [الفتح: 12]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (( «إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ مَادِحًا أَخَاهُ فَلْيَقُلْ: أَحْسِبُ فُلَانًا، وَلَا أُزَكِّي عَلَى اللهِ أَحَدًا» ))، وأكثر العلماء على أن الظن القبيح بمن ظاهره الخير لا يجوز، وأنه لا حرج في الظن القبيح بمن ظاهره القبح" انتهى من الجامع لأحكام القرآن (16/ 332) باختصار وتصرف يسير.
وقال ابن عثيمين في تفسير قوله تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28]: " {{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ}} يعني: ما يتبعون إلا الظن، والمراد بالظن هنا الوهم الكاذب، وليس المراد بالظن هنا الراجح من أحد الاحتمالين، وبعض العلماء أخذ من هذه الآية أنه لا يجوز العمل بالظن في المسائل الفقهية وغيرها، وهذا خطأ؛ لأن كثيرًا من المسائل الفقهية ظنية: إما لخفاء الدليل، أو خفاء الدلالة، ليس كل مسألة في الفقه يقول بها الإنسان على سبيل اليقين أبدًا، بل بعضها يقين، وبعضها ظن، ومن نعمة الله أنه إذا تعذر اليقين رجعنا إلى غلبة الظن، فليس كل ظن منكرًا، لكن الظن الذي ليس له أصلٌ يُبنى عليه منكَر، {{وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}} أي: هذا الظن المبني على الوهم لا على القرائن لا يفيد شيئًا من الحق؛ لأنه وهم باطل، والوهم الباطل لا يمكن أن يفيد" انتهى باختصار من تفسير العثيمين: الحجرات - الحديد (ص: 222، 223).
وأختم هذه الرسالة النافعة بنقولٍ نفيسةٍ من كتب أهل العلم:
قال السَّرْخَسِي في المبسوط (24/ 49): "غالب الرأي يُقام مقام الحقيقة فيما لا طريق إلى معرفته حقيقة".
وقال الكاساني في بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (1/ 138): "غالب الرأي حجةٌ عند عدم اليقين".
وقال الموصلي الحنفي في الاختيار لتعليل المختار (1/ 36): "غلَبة الظن دليل في الشرعيات لا سيما عند تعذر اليقين".
وقال ابن رُشد المالكي في البيان والتحصيل (13/ 26): "الأصل في الأحكام الظاهرة غلبة الظنون".
وقال القَرافي في الذخيرة (1/ 177): "قاعدة: الأصل ألا تبنى الأحكام إلا على العلم لقوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] لكن دعت الضرورة للعمل بالظن؛ لتعذر العلم في أكثر الصُّور، فتثبت عليه الأحكام لندرة خطئه، وغلبة إصابته، والغالب لا يُترك للنادر، وبقي الشك غير معتبَر إجماعًا، ثم شرطُ العمل بالظن اقتباسُه من الأمارات المعتبَرة شرعًا، ثم حيث ظفِرنا بالعلم لا نعدل عنه إلى الظن".
وقال الشاطبي في الاعتصام (2/ 643): "الحكمُ بغلبة الظن أصلٌ في الأحكام".
وقال أبو حامد الغزالي في الوسيط في المذهب الشافعي (7/ 362): "المطلوب غلبة الظن".
وقال الدَّمِيري في النجم الوهاج في شرح المنهاج (10/ 79): "غلبة الظن أُجريت في الحكم مجرى اليقين كما نحكم بخبر الواحد والقياس بغلبة الظن".
وقال الزَّرْكَشي في البحر المحيط في أصول الفقه (6/ 313): "مدار الأخبار على غلبة الظن".
وقال ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى (3/ 313، 314): "طوائف من أهل الكلام يزعمون أن مسائل أصول الدين يجب القطعُ فيها جميعِها، ولا يجوز الاستدلالُ فيها بغير دليلٍ يفيد اليقين، وقد يوجبون القطعَ فيها كلِّها على كلِّ أحد! وهذا الذي قالوه على إطلاقه وعمومه خطأٌ مخالفٌ للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها ... فما أوجب الله فيه العلم واليقين وجب فيه ما أوجبه الله من ذلك كقوله: {{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ}} [محمد: 19]، وكذلك يجب الإيمان بما أوجب الله الإيمان به، وقد تقرر في الشريعة أن الوجوب معلَّقٌ باستطاعة العبد ... وكثيرٌ مما تنازعت فيه الأمة من المسائل الدقيقة قد يكون عند كثير من الناس مُشتبِهًا لا يقدر فيه على دليلٍ يفيده اليقين؛ لا شرعي ولا غيره، وليس عليه أن يترك ما يقدر عليه من اعتقادٍ قويٍّ غالبٍ على ظنه لعجزه عن تمام اليقين؛ بل ذلك هو الذي يقدر عليه، لا سيما إذا كان مطابقًا للحق، فالاعتقاد المطابق للحق ينفع صاحبَه، ويُثاب عليه، ويسقط به الفرض إذا لم يقدر على أكثر منه" انتهى باختصار وتصرف يسير.
فليست كل مسائل العقيدة قطعية، ويكفي اعتقاد كثير من المسائل بغلبة الظن بحسب الأدلة والقرائن، كالحكم بأن فلانًا ثقةٌ أو ضعيفٌ أو مسلمٌ أو كافرٌ أو أن معنى هذه الآية كذا أو أن هذا الحديث صحيح أو ضعيف أو أن معناه كذا، قال ابن تيمية كما في مختصر الفتاوى المصرية (ص: 68): "قد تنازع الناس في أن محمدًا هل رأى ربه؟ وفي أن عثمان أفضل أم علي؟ وفي كثير من معاني القرآن، وتصحيح بعض الأحاديث، وهي اعتقادات، ... كثيرٌ من مسائل النظر ليست قطعية، وكون المسألة قطعية أو ظنية هي أمور تختلف باختلاف الناس، فقد يكون قاطعًا عند هذا ما ليس قاطعًا عند هذا".
وقال ابن عثيمين في الشرح الممتع على زاد المستقنع (2/ 282): "مَنْ كان عنده غلبة ظنٍّ في أمر من أمور العبادة فإنه يَتْبَع غلبة الظَّنِّ، قال الله تعالى: {{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} } [التغابن: 16]".
وقال عبد الرحمن بن صالح في القواعد والضوابط الفقهية المتضمنة للتيسير (2/ 635، 642): "يُنزَّل غالب الظن منزلة اليقين ... الله تعالى لم يُكلِّف عباده بتحصيل اليقين الذي يكون عليهم شاقًا أو متعذرًا بسبب نقص علمهم وعدم إحاطتهم بالأمر على حقيقته في كثير من المواضع ليبنوا عليه الأحكام، بل جعل وسيلة ذلك ما هو في قدرتهم، وهو الظن الغالب؛ إذ لو كُلِّفوا تحصيل اليقين في مثل هذا الأمر لأدّى ذلك إلى عَنَتِهم، وإلى ضياع كثير من الحقوق، وإلى اضطراب شؤون العباد".
وقال محمد صِدقي الغَزِّي في موسوعة القواعد الفقهية (7/ 456): "عند عدم اليقين يكفي غلبة الظن في بناء الأحكام عليها؛ لأن القطع في أكثر الأحكام متعذِّر".
محمد بن علي بن جميل المطري
دكتوراه في الدراسات الإسلامية وإمام وخطيب في صنعاء اليمن
- التصنيف: