يا دعاة الخارج: لابد من فهم البيئة أولًا!

منذ 14 ساعة

من أعظم ما يُبتلى به العمل الدعوي المعاصر، أن يمارس بعض الدعاة جهودهم في بيئة لا يعرفونها، أو لم يتبينوا خصائصها وسياقاتها، فيغيب عنهم كثير من مفاتيح التأثير وطرائق الإصلاح فيها.

من أعظم ما يُبتلى به العمل الدعوي المعاصر، أن يمارس بعض الدعاة جهودهم في بيئة لا يعرفونها، أو لم يتبينوا خصائصها وسياقاتها، فيغيب عنهم كثير من مفاتيح التأثير وطرائق الإصلاح فيها.

وقد التقيت بدعاةٍ من الشام، وبلاد الأفغان، والبلقان، وإفريقيا، وغيرهم، وكلهم يشكون بأسلوب واحد، قائلين: يأتينا علماء أجلاء، ودعاة أتقياء أنقياء، نثق في إخلاصهم وصدق نيتهم، لكنهم – مع تضلعهم في فهم واقع الدعوة في بلدانهم – لا يدركون واقع الدعوة في بلادنا إدراكًا كافيًا، فيقيسون أحوالنا على بيئاتهم، فيخطئون التقدير ويقترحون غير الممكن، أو يهتمون بغير المهم!

فإذا وافقهم دعاة الميدان دون تمحيص، أوقعوا الدعوة في ارتباكٍ وفتنةٍ وتشويشٍ على أولوياتها، وإن خالفوهم حُرموا من خبراتٍ كبيرةٍ وخيراتٍ متجددةٍ تحتاجها بيئتهم أشد الحاجة.

ومن هنا كانت الخطوة الأولى للداعية الوافد: الفهم العميق للبيئة التي يدخلها.
إذ ينبغي له أن يستمع كثيرًا إلى دعاة الميدان، فيتعرف إلى عناصر القوة والفرص أمامهم، وإلى مكامن الضعف والمخاطر المحدقة بهم، وأن يدرس الإمكانات البشرية والمادية المتاحة، وما الذي يستطيعونه فعلاً وما يعجزون عنه.

كما يجدر به أن يدرس خصائص البيئة الدعوية والفكرية والاجتماعية والسياسية التي يفد إليها: من رموزها المؤثرة، وصراعاتها الداخلية، ومداخل التأثير فيها، وما يحسن للداعية الوافد أن يقترب منه، وما يجب أن يتجنبه.
فليس كل ما يصلح في بيئةٍ يصلح في أخرى، ولا كل مدخلٍ مألوفٍ في بلدٍ يكون آمنًا في بلدٍ مختلف التكوين.

ومن فقه الدعوة أيضًا أن يدرك الداعية الوافد التراتبية الدعوية في المجتمع الجديد، فليس كل من يراه من الدعاة المحليين هو المتصدر أو الأقدر على القيادة، وقد يؤدي التعامل مع بعضهم دون إدراكٍ لحساسية المشهد إلى شق الصف أو إثارة الفتنة – وإن لم يُرَد ذلك قصدًا.

وعليه، فالواجب التريث في اتخاذ المواقف وتبني المشاريع، وعدم التعجل في دعوى الفهم أو الإحاطة بتفاصيل الواقع؛ فالميدان له تعقيداته، وفهمه يحتاج إلى سؤالٍ عميقٍ، ودراسةٍ دقيقة، ومشاورةٍ واسعة.

وفي المقابل، فإن الدعاة المحليين مطالبون بالوضوح التام مع من يفد إليهم من العلماء والمشايخ، فيبيِّنون حاجات ساحتهم الدعوية، وما هو أولى وأجدى، وما هو ضار أو مفضٍ إلى فتنة، ويوضحون قدراتهم الواقعية وما يمكنهم تنفيذه وما يعجزون عنه، حتى يكون التعاون بين الطرفين تعاونًا راشدًا مثمرًا، يراعي ظروف الواقع ويخدم مصلحة الدعوة لا صورتها فحسب.

وقد حدّثني أحد العاملين طويلاً في الميدان بأنه ينبغي أن يكون للداعية الوافد خمس مراحل إن أراد أن تكون جهوده راشدةً مؤثرة:

1. فهمٌ عميقٌ للواقع قبل كل شيء.

2. مساندةٌ للمشهد الدعوي القائم ودعمه دون تصدّرٍ أو تفردٍ بالممارسة.

3. مشاركةٌ متزنةٌ في العمل الميداني تساعده على الفهم والتأقلم بأفضل صورة.

4. اختيار مجالاتٍ نوعيةٍ لا يقدر عليها الدعاة المحليون، فيمارسها بنفسه مؤقتًا مع تدريبهم على رأس العمل، وتقديم المشورة في ترتيب الأولويات ورسم خارطة الانتشار الدعوي، وتحسين الأداء المؤسسي، وتعزيز التمويل المحلي.

5. ثم الخروج الراشد المنظم من الميدان بعد أن يستغني عنه أبناء المنطقة، فينتقل إلى ساحةٍ أخرى أكثر حاجة، بعد أن يترك خلفه أثرًا حيًا ومنهجًا فاعلًا وواقعا ممارسا لا يعتمد عليه بل على أهل البلد.

وقد أوصاني أحد شيوخي الكبار – وكان واسع الخبرة بالعمل الدعوي في بيئات شتى – أن أتجنب أمرين: كفالة الدعاة والتشغيل المباشر للمشروعات.

أما الكفالة، فخطرها أنها تقطع الداعية عن بيئته وتمنعه من الاندماج فيها، وتجعله يعتمد على عطاءٍ خارجيٍّ قد ينقطع في أي لحظة، فيجد نفسه – وقد ارتفع مستوى إنفاقه – عاجزًا عن التكيف مع واقعه المحلي.

وكان الشيخ يرى أن الأولى مساعدة الداعية على إيجاد مصدر رزقٍ داخليٍّ كريم، ثم دعمه دعمًا جزئيًا متقطعًا بين الفينة والأخرى عند الحاجة لتحسين وضعه دون أن يضعف ارتباطه ببيئته.

وأما في شأن التشغيل، فكان يقول: ابنِ المنشأة وجهزها، ثم سلِّمها لفريقٍ محليٍّ   موثوق متكاتفٍ يمتلك خبرة التشغيل، ولا تتدخل في إدارتها ولا تمويل تشغيلها. لأن الناس إن اعتادوا مجانية التعليم أو العلاج مثلا فلن يقبلوا الانتقال إلى التعليم أو العلاج المدفوع لاحقًا، فتتوقف المنشأة ويضعف أثرها، وتضيع الثقة في القائمين عليها.

وعليه، فإن فهم البيئة، والإحاطة بواقعها، والدخول المتدرج في الممارسة الدعوية والخيرية هو أساس النجاح المشترك بين دعاة الداخل والخارج، ومفتاح الثبات والنماء للدعوة في كل أرض.

فاللهم وفقنا للخير، وارزقنا البصيرة والرشد، وسدِّد خطانا إلى سواء السبيل.
والله الهادي