في الشأن المغاربي: يا ليت "نازك بوكماخ" ما تكلمت...

منذ حوالي ساعة

ويظل العزاء في بقاء قدرتنا على أن نعيد الاعتبار للغة الضاد التي صنعت ذاكرتنا وشكّلت وجداننا، إن نحن ـ حكاما ومحكومين ـ شئنا ذلك حقًا.

بين يدي هذه الواقعة أو الموقعة إن جاز التعبير حوادث تنتمي من حيث التفاصيل إلى جنسها ونوعها، ولعلها وقائع قد تمر على بعضنا دون أن يفكر الواحد منا في الاستدراك عليها أو التشكي من نشازها، أو الوقوف طويلا على ملمح شذوذها، وتلك طبائع الناس سيما حينما تأخذهم صوارف المدنية حداثية في مناخ انقلبت فيه محاور الحياة انقلابا كارثيا، فتمارس هذه المدنيات ال سطوتها المادية، وتستقوي في غمرة تلك العتمة الفاقعة السواد بالدخيل على الأصيل، وبالخسيس العاجل على النفيس الآجل، وبالجُفاء على حسنة الاستبقاء، وبالغثاء على منقبتي النفع والوفاء...
 وكم هو غريب مستهجن من كل فطرة سوية، قادح في مطلق الانتساب إلى هذه الأمة الموصولة بالله أن تجد خطيبا من على منبره، أو عالما من وراء مكتبه، أو واعظا من على كرسيّه يؤرخ لحدث "ما" بالتأريخ الميلادي بدل التأريخ الهجري، ولَكَم كان محزنا حد القرف أن تسمع لأحدهم وهو يرفل في ثوب ميرات الهجرة يقول صائحا صائتًا في وجه معشر المستمعين لوِردِه الخطابي الشرعي: "نحن جيل القرن الواحد والعشرين !!!"
إن المحزن المُخزي هاهنا وإن استصغر الناس الضرر وتكابروا وتغافلوا عن شرخه، هو أن الخطيب لم يجانب الصواب في رقم ضيّع ضبط حسبته، أو تناسى تحت أي طائلة شرف استحضار الأصيل بدل الدخيل، والأصل عوض الاستثناء، وإنّما هو في حقيقة الأمر قد أخطأ عنوان الانتماء الحقيقي، وساهم من حيث لم يدر ويقصد في قطع ذلك الخيط الرفيع الصنعة، النفيس المادة، والذي يمتد طرفه الأول من أوّل الهجرة ويستمر في سيرورة امتداده إلى آخر نفس منفوسة في هذه الحياة الدنيا، بل غيّر مؤشر البوصلة المعتمدة لدى الأمة كونا وشرعا وهو يتكلم باسمها في أقدس مقامات الوعظ وشرف الخطاب وقوة البلاغ المبين، وليست المشكلة هاهنا في تأريخ آثره واختاره سهوا ونسيانا أو عمدا وإصرارا وحاشاه، وإنما في هوية قد يساهم في تضييعها وخُفوت وهج ذكراها في الوجدان الجمعي للأمةوهنا تكتمل فصول المأساة ويستشري دخن الاستغراب في أوصال المجتمع الإسلامي ذي الطابع الأصيل المحافظ، وليس في هذا الاستدراك أو الوقوف طويلا على غير العادة وسبيل المألوف تعصبٌ متطرف لتاريخنا الهجري أو انغلاق مُناكد لما يقابله من عدة شهور وأزمنة مؤرخة على وفق معهود هذه المدنية أو أولئك القوم، وإنّما المراد والمبتغى فقط هو الرد إلى واجب الوفاء للأصل في مقامه وتنزيله في دائرة ترتيب الأولويات منزلته اللائقة، وفي ذلك ما فيه من الرصيد الوافي من الصدق مع الذات الجماعية في لحظاتها التاريخية المفصلية، خاصة خاصة في زمن تداعت فيه الأمم على قصعتنا، وهجم علينا جيش الاستغراب بخيله ورجله يبغي استئصال شأفتنا، ومسخنا وصهرنا في قالبه العبثي الفاحش اللئيم، وأي مسخ واستلاب أكبر من أن ترى أبناء المسلمين في بلدانهم العربية يلحنون في لغتهم الأم، وتسمع لتعتعتهم دويا ونشازا يقرف الآذان ويمرض الجنان وهم يتكلمون أو ينبسون بعبارات يُقال أنها من بنات لغة الضاد، بينما يطفقون متحدثين بكل سلاسة وطلاقة وزهو وافتخار بلغة قاتل أجدادهم ومستعمر آبائهم...
وفي هذا السياق كتبت تحت طائلة ما غمرني من ألم وحزن وأنا أرى كيف عانت وتألمت ابنة أستاذنا ومصنّف كتابنا المدرسي الرائق السائق لأجيالنا السيد أحمد بوكماخ قائلا في لوعة وأسى:

من منّا —نحن أبناء السبعينات والثمانينات وربما التسعينات— لا يستحضر الكتاب المدرسي الذي عشنا معه طفولتنا: كتاب "اقرأ" ؟
ذلك السِفر البسيط في حجمه العميق في محتواه، ذلك الحضن المعرفي الذي شكّلت بل تَشَكَّلَ من صفحاته الموغلة في البياض المشرب بصفرة ذي المحبور الفاقع السواد وجدان جيلٍ كامل، واسطاع أن يحفر في الذاكرة المدرسية المغربية صورًا لا ينجلي طيفها ولا تنمحي صورتها البيداغوجية، فلا زلت أستحضر رائحة الطباشير الجافة، وأتوق لكسرة الخبز المدعّم في صباحات الشتاء التي كان يجود بها علينا مطعم المدرسة صحبة فنجان قهوة تعاون الماء والحليب ومحلول البن في تشكيل لونه البنّي الباهت وإيجاد الكمّ الزائد الذي يُشبع نهمنا، وأستشعر بين الفينة والأخرى أسمال ثيابي وثياب زملائي التي بدت في أغلب الأحيان عاجزة أمام قسوة القر وبلل القطر، وأعود بذاكرتي مُحيِّنا ما كنا نعيشه داخل الفصل الدراسي الذي كان يُشبه البيت الأول في حياتنا كأطفال بسطاء الأحلام.
لقد كنا يومها نرى في الأستاذ أحمد بوكماخ —مؤلف سلسلة "اقرأ"— أكثر من رجل تربوي،فقد كنا نعتبره ونراه أبًـا وقدوة ومعلما في اللغة ورمزا في الهويّة، ربّى أجيالًا بل تربينا كأجيال في كنف لطف عبارته وصدق رسالته التعليمية الهادفة، وفوق هذا و ذلك، كانت صورة الطفلة "نازك" التي تزيّن الغلاف رفيقتنا جميعًا، حتى خيّل لنا أنّها شقيقة صغيرة نشأنا معها، نعرفها وتعرفنا، وننفث في روع صورتها أحلامنا البسيطة وآمالنا العظيمة.
ولقد ظللت أُكن للرجل كل الاحترام والتقدير وأحمل بين ثنايا الوجدان كل ذكرى جميلة في سياق حرصي كل الحرص على أن لا أفقد لبنة من بنيان طفولتي المرصوص، لكن وما أصعب الاستدراك في سياق الأسف عن فقدان ذلك الشعور الجميل الذي ما فتئ أن تكسّر في لحظة واحدة على صفوان واقع موبوء، وعلى نشاز لحن كلمات ألقيت ليذهب ريحها في واد من الإهمال نقض الحوْر وعميق الغور.
ففي حفل تكريم أُقيم على شرف ماضي الرجل بعد رحيله، ظهرت ابنته "نازك" وقد تقدمت لتلقي كلمة شكر وثناء على مسامع أولئك الذين فكروا في روح أبيها وما قدّمه من جميل مجهود،والحقيقة أنها كانت لحظة منتظرة ومتوقعة يمكن استثمار ردهتها في الوقوف على رصيد أثر الأب التربوي وخاصة الشق اللغوي منه في الابنة التي ازدانت واجهة الكتاب المدرسي بمحياها الباسم في قرفصاء وعفوية جلوس، ويا ليت السيدة نازك ما تكلمت ولا نبست ببنت شفة، فقد كان المشهد بعيدا كل البعد عن احتمال وقوعه أو حتى تصوّر مجيئه على تلك الشاكلة وذلك المنظر الذي بدت فيه ابنة ذلك العلم التربوي الذي علّمنا أبجديات لغة الضاد متصاغرة مرتبكة تؤرخ لقطيعة سجلت فيها مداخلتها المحتشمةالفاضحة تمردا لغويا وصدمة ثقافية وانتكاسة مرجعية.

فيا للعجب لقد تعثّر لسانها وهي تتلو تلك الورقة المحبورة عباراتها بلغة أبيها في لحن جلي وتعتعة شبيهة بتلك المعروفة المعهودة على لسان الأجانب وهم ينطقون بكلمات الشهادتين إيذانا منهم وإعلانا بدخولهم واعتناقهم دين الإسلام، لقد تكسّرت مخارج الحروف في جوف ثغرها الباسم، وبدت عاجزة عن متابعة قراءة نصٍ عربيٍّ قصير الأنفاس، ثم ما لبثت أن تحرّرت من ذلك الثقل الجاثم على لسانها، لتنتقل فجأة ودون إشعار مسبق، مستصرخة متكلمة في سلاسة وطلاقة وشديد دفق وانسياب بلغة الأديب الفرنسي الكلاسيكي موليير بدل لغة أبيها السيد أحمد بوكماخ.
لم تكن المشكلة في عجز سجلناه على مداخلةالفتاة فحسب، بل في فرع خان إرث أصله؛ وفي ابنة رجل قدّم لنا العربية مشرقة أنيقة، ثم فشل في غير إخلاص وصدق انتساب في واجب تلقين نسمة صلبه أدبيات لغة الضاد،  فإذا بفلذة كبده وبطلة غلاف مؤلفه تتلعثم بها وكأنها لغة غريب، وتلك معالم هزيمتنا وانسحابنا إلى الوراء في عقر ديارنا.
كانت تلك اللحظة بالنسبة لي كطلقة اخترقت ذاكرة كاملة: ونسفت تباعا ذلك الانطباع عن رواد وأعلام  مدرستنا العمومية، يوم كانت هذه الأخيرة فضاءً للتنشئة اللغوية والوطنية، لا مجرد مؤسسة صارت تنعت اليوم وتُرمى بكل نقيصة.
ويبقى السؤال الموجع الذي يفرض نفسه في آخر تباريح هذا البوح الأسيف هو:
كيف يُمكن لبلدٍ أن يحافظ على لغته وهويته، إذا كانت ابنة أحد روّاد التربية فيه لا تجد القدرة على مخاطبة الناس بلسان أبيها؟ أو كيف يُنسب لهذا الأب ويحاط ببالغ التبجيل في مجال تخصصه، ثم يُسجل عليه هذا الفشل الذريع في تلقين ابنته وابنه لغة أكل من غلتها وكفر بملّتها؟؟؟ 
إن القضية هاهنا ليست قضية نازك وحدها، بل هي إشكالية نموذج ثقافي واسع تشكّل جيله المستنسخ خلال عقود، وساهمت في تكريس واقعه المؤلم نخبة فكرية وأخرى سياسية مافتئت تجعل الفرنسية لغة الوجاهة وعمدة لسان الإدارة المغربية، بينما تبقى العربية لغة المراسم الخجولة وعنوان بداوة ومئنة جهل وبلادة.

إن ما يؤلم في هذه الواقعة ليس هو على الحصر انحسار العربية فحسب، بل ضياع الجسر الذي كان يصل بين الأجيال،ويعطي للغتنا مكانتها المتقدمة في صرح العلم والمعرفة والأدب والتربية، ولذلك فأحمد بوكماخ لم يُعلّم أطفال المغرب القراءة فقط، بل علّمهم أن العربية بيتٌ آمن، وأن المدرسة وطنٌ صغير،ثم اكتشفنا ما ساد هذه النظرة العفوية الساذجة من تطفيف بين الممنوح لنا من طرفه في مقابل المقدّم منه لنسمة الصلب من "امتياز" إتقان لغة المستعمر،ولا شك أن هذا يعني أننا أمام شرخٍ تربوي وأخلاقي ولغوي عميق، يجعلنا نقر ونعترف أنه إن كان المصنّف التربوي "اقرأ" كتابًا لا ولم تنم حروفه، لكن يبدو أنّ مُوَرِّثَه خان ورثة الدم وورثة الوطن في الإبقاء على تلك الجذوة محتفظة بحرارة موقدها الأول، ونور سراجها الوهاج.
ويظل العزاء في بقاء قدرتنا على أن نعيد الاعتبار للغة الضاد التي صنعت ذاكرتنا وشكّلت وجداننا، إن نحن ـ حكاما ومحكومين ـ شئنا ذلك حقًا.
 

محمد بوقنطار

محمد بوقنطار من مواليد مدينة سلا سنة 1971 خريج كلية الحقوق للموسم الدراسي 96 ـ97 الآن مشرف على قسم اللغة العربية بمجموعة مدارس خصوصية تسمى الأقصى.